الأربعاء، 28 يونيو 2023

25.فقه النكاح والفرائض



 

 

 

كتاب 11.فقه النكاح والفرائض

المؤلف: محمد عبد اللطيف قنديل

المقدمة:{ التمهيد:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنعم علينا بنعمة الإيمان الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وصار على نهجه بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛

فإن الشريعة الإسلامية قد امتازت عن الشرائع السماوية السابقة لكونها أوفى الشرائع بتحقيق مصالح العباد وإسعادهم، وقد جعلها الحق -سبحانه وتعالى- خاتمة الشرائع لما اشتملت عليه من مروه ويسر، وبما تضمنته من قواعد كلية ومبادئ عامة تتفق مع طبائع البشر في كل بيئة وعصر، فقد رفعت الأغلال عن كاهل العباد وكونت منهم أمة سجل التاريخ لها آيات مشرقة وصحائف خالدة، وقضت بتعاليمها الربانية السمحة على كل ما كان يعانيه العالم من ظلم وذل وإرهاق فأخرجت الناس من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، وهدت العباد إلى طريق الله المستقيم.

لذا كان لزاما على علماء هذه الأمة الذين هم ورثة الأنبياء أن يبينوا دقائق هذه الشريعة الغراء وأصولها للناس في كل مناحي الحياة.

ونظرا لأن الزواج معنى جُبل عليه الإنسان لتكوين الأسر التي هي لبنة من لبنات المجتمع، وهذا أمر دعت إليه جميع الشرائع والأديان لما يترتب عليه من المحافظة على الأعراض والأنساب.

لذا كان هذا العقد من أهم العقود خطرا وأرفعها قدرا لأنه به يجمع الشمل ويتم الشوق وتتكون الأسرة التي هي نواة المجتمع الإنساني ويتم الترابط بين الأسر، ومن ثم فإنه يشترط فيه ما لا يشترط في غيره من اشتراط الولي والإشهاد والإعلان بين الناس حيث يقول -صلى الله عليه وسلم: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح، خاطب، وولي، وشاهدي عدل".

ويقول أيضا: "أعلنوا النكاح ولو بالدف".

فالشارع الحكيم إحطاط لهذا العقد ما لم يحطاط لغيره من سائر العقود، فمن أجل ذلك أبيح فيه الضرب بالدف وإظهار معالم البشر والسرور في جو إسلامي كله طهر وبهجة وعفاف.

وإنني بتوفيق من المولى -جل جلاله- في هذه المحاضرات سأتناول الحديث عن النكاح، والطلاق، والخلع، والرجعة، والعدة، والإيلاء، والظهار، والكفارة، واللعان، والفرائض.

وحيث إن الدراسة معظمها إن لم تكن كلها من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة فإنني سأقدم لهذه الدراسة بذكر حال المرأة قبل الإسلام وبعده بإيجاز أملا في أن تعود المرأة المسلمة إلى التمسك بمبادئ دينها ولتعلم أن الإسلام كرمها في جميع مناحي حياتها، ليكون علمها بذل حجة عليها أمام الله -عز وجل- مستعينا بالله وحده راجيا منه العون والتوفيق، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه فإن أصبت الهدف المنشود فبتوفيق المولى -جلال جلاله- وإن كانت الأخرى فمن نفسي والشيطان.

"وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"

دكتور:

محمد عبد اللطيف محمد قنديل

مدرس الفقه الشافعي بقسم الفقه العام

كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات بالإسكندرية

جامعة الأزهر

المرأة قبل الإسلام:

إننا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى صفحات التاريخ في حال المرأة قبل الإسلام فإننا نجد أن الملل القديمة كانت تنظر إلى المرأة نظرة كلها تحقير وإهانة مما لا يتفق مع آدميتها كإنسانه، بل كانت تعاملها بأبشع أنواع الظلم وتسومها سوء العذاب وتدفع بها نحو الهواية والذل والهوان وإليكم توضيح ذلك.

المرأة عن اليونان:

كان اليونانيون ينظرون إلى المرأة على أنها إنسانة حقيرة مسلوبة الحرية لا حقوق ولا أهلية لها تباع وتشترى في الأسواق، مما أدى إلى انتشار دور البغاء فتبوأ العاهرات والمومسات مكانة عالية، وشاعت الفاحشة بين الرجال والنساء حتى أصبح الزنا أمرا مألوفا غير منكر، وليس ذلك فحسب، بل انتشر بينهم اللواط بين الرجال والشباب انتشار السم في الدم.

ونتيجة لهذا الانحطاط الأخلاقي انهارت هذه الإمبراطورية وكأنها لم تكن شيئا يذكر.

وصدق الله العظيم حيث قال في محكم التنزيل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} 1.

__________

1 الآية 102 من سورة هود.

المرأة عن الرومان:

كان الرومان ينظرون إلى المرأة على أنها شيطانة وأنها رجس لا سلطان لها على أنوثتها يجب ألا تأكل اللحم ولا تتكلم ولا تضحك، وكان للرجل الحق الكامل في أن يتصرف في أبنائه وزوجته كيفما يشاء يبيع من يشاء ويقتل منهم من يشاء لا سلطان عليه ويدخل على أسرته من يشاء ويطرد من أبناءه من يشاء أو يعذبهم فاستشرى الفساد، وانشرت بيوت الدعارة وراجت تجارة الخمور.

فكانت النتيجة أن تمزقت هذه الدولة شر ممزق وانهارت شر انهيار.

المرأة عند الإغريق:

كانت المرأة عندهم تعد مخلوقا حقيرا لا تصلح لغير النسل وخدمة المنزل، وإذا كانت ولودا استعيرت من زوجها لتلد للوطن أولاد من رجل آخر.

المرأة عند الهنود:

جاء في شريعة "مانو" الهندية أن الوباء والموت والسم والأفاعي كل ذلك خير من المرأة، ويجب أن تكون المرأة في طفولتها لأبيها وفي شبابها لزوجها، وفي تأيمها لأبنائها، وفي ثكلها لأقرباء بعلها ولا يجوز ترك أمرها لها.

وفيها أيضا أن المرأة إذا خلت برجل مدة تكفي لإنتاج بيضة يجب عليها أن تقوم بحرق جسدها على مقربة من جسد زوجها المحروق أو يحكمون عليها بالموت.

المرأة عن اليهود:

يعتبر اليهود المرأة لعنة فهي التي أغوت آدم حتى أكل من الشجرة فطرد بسبب ذلك من الجنة، لذلك فهي مجرد خادمة ليس لها حقوق أو أهلية، وكانوا لا يورثونها، وإذا حاضت فإنها تكون نجسة، وكل ما تلمسه بيدها ينجس بنجاستها، بل كان بعضهم يطردها من البيت فإذا ما طهرت من حيضها رجعت إلى بيتها.

المرأة عن النصارى:

يرى النصارى أن المرأة باب الشيطان، ناقضة لقانون الله مشوهة لصورة الله "الرجل" فهي مخلوق نجس يحرم عليها قراءة كتاب العهد الجديد خلقت لخدمة الرجل.

المرأة عن الفارسيين:

كانت المرأة عند أهل فارس في انحطاط وذلة، فهي سبب هيجان الشرور التي توجب العذاب والسخط لدى الآلهة، ولهذا يبيحون عليها أن تعيش تحت أنواع الظلم، وكانت المرأة في مذهب فارس تحت سلطة الزوج من حقه أن يتصرف فيها كما يتصرف في ماله ومتاعه.

وكان له أن يحكم بقتلها، مع أن تعدد الزوجات أيضا كان شائعا عندهم بدون شرط أو تحديد.

المرأة في جاهلية العرب:

كان العرب في الجاهلية يعتبرون المرأة جزءًا من الثروة، ولهذا فإن الأرملة كانت تعد ميراثا لابن المورث، وكان تعدد الزوجات شائعا في جميع القبائل العربية بدون شرط أو تحديد.

وليس ذلك فحسب بل كانت معظم القبائل العربية يظلمون المرأة ظلما أبشع مما تعرضت له المرأة عند غيرهم فكانوا يؤدون البنات وهن أحياء مخافة العار أو الفقر يذكرنا القرآن الكريم بهذا الظلم الشنيع للمرأة فيقول: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1.

ومن المؤلم أنه لم يفعل ذلك الرجل منهم فحسب، بل كانت المرأة منهم عندما يحين وقت وضعها تجلس على شفا حفرة وتضع مولودها على رأس هذه الحفرة فإن كان المولود أنثى رمت بها في الحفرة وردت عليها التراب، وإن كان المولود غلاما أبقت عليه.

ولم يكن ظلم العرب الجاهليين للمرأة يقف عند وأدها فحسب بل كانت كل جوانب حياة المرأة كلها ظلم.

__________

1 الآيتان 58، 59 من سورة النحل.

المرأة في ظل الإسلام:

عندما أشرق نور الإسلام على الوجود، كان العالم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول:

قسم متحضر كالإمبراطورية الرومانية والفارسية وشعوب مصر والهند والحبشة والصين.

وكانت المرأة عند هذه الشعوب كالأسير ليست لها حرية الإرادة محرومة من جميع الحقوق على النحو الذي ذكرناه بالتفصيل السابق.

القسم الثاني:

قسم مختلف كالقبائل في إفريقيا وبقية الأقطار في البلدان المختلفة حضاريا والعرب في الجزيرة العربية، فالمرأة عند هذه الشعوب لا تعتبر إنسانا بل هي متطفلة على المجتمع وتعامل كما تتعامل الحيوانات الأهلية التي يستخدمونها وفي أوقات المجاعة كان يصنع من جسدها ولائم دسمة يتغذون بها، ويؤدها العرب حية مخافة العار والفقر.

إلى أن أشرق الإسلام بنوره فكرَّم المرأة جنينا وكرَّمها طفلة كرَّمها زوجة وكرَّمها أما بعد أن كانت سلعة لا قيمة لها في هذا الكون على مر العصور والأزمنة.

فما أكثر الآيات القرآنية التي يقرن فيها ذكر الرجل بذكر المرأة منها قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1.

__________

1 من الآية 1 من سورة النساء.

ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 1.

وهذا هو الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما يرويه أبو داود والترمذي وأحمد من حديث عائشة -رضي الله عنهما: "إنما النساء شقائق الرجال".

ويوصينا بالنساء خيرا فيقول في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: "استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا".

والفضل ما شهدت به الأعداء، يقول المستشرق: آندريه سرفيه في كتابه عن الإسلام ونفسية المسلمين: من أراد أن يتحقق من عناية محمد -صلى الله عليه سلم- فليقرأ خطبته في مكة التي أوصى فيها بالنساء.

والتي يقول فيها: "أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن ألا يُوطِئنَ فُرشَكم أحد تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان لكم لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،

__________

1 الآية 32 من سور النحل.

فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنة رسوله".

لقد احترم الإسلام آدمية المرأة فقرر المساواة التامة بينها وبين الرجل في الإنسانية والنسب البشري، وجعلها تتمتع بجميع حقوقها من الإرث وجميع العقد المالية من بيع وخلافه وليس لأحد أن يمنعها من ذلك، ثم احترم الإسلام رأيها واستمع إليها وجعلها تعبر عن رأيها وكل ما تريد بصدق وصراحة وتدافع عن جميع حقوقها المشروعة وأعطاها حرية الكلام وإبداع الرأي والاستجابة إليها مما يطول المقام لذكره مع أدلته.

ومع هذا التكريم الإلهي للمرأة في ظل الإسلام فإننا نرى ونسمع بكل وقاحة الدعاوى المعاصرة التي ينادي بها أعداء الإسلام وأعداء المرأة والمجتمع من أهل الشر والفساد يوجهون مطاعنهم للإسلام من خلال خمسة مطاعن كلها تخص المرأة "الحجاب، وتعدد الزوجات، الطلاق، وتنصيف الإرث، وتنصيف الشهادة".

وهذا كله من مكر الماسونية اليهودية التي نجحت في القضاء على المرأة الأوروبية، وهي اليوم تتجه إلى المرأة في العالم الإسلامي، ولقد نجحت بعض الشيء بواسطة المستعمر الخبيث وبواسطة جمعيات النهضة النسائية التي تعمل بشعار الماسونية وتسير في ركابها وتنفذ أوامرها تارة باسم المساواة البريئة، وتارة باسم التقدم وركب الحضارة، وتارة باسم السياسة وهكذا تُسير الماسونية جمعيات النهضة النسائية في العالم الإسلامي.

(1/10)

ولكنهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1.

ولكنهم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

فأحذري أختي المسلمة فأنت المستهدفة أولًا وآخرًا وتمسكي بتعاليم دينك، وإياك ثم إياك ثم إياك أن تنخدعي يوما ما ويجرفك تيار ما يسمونه بالتحضر، وليس هو بتحضر، بل هو الفساد الأخلاقي الذي ينذر بعقاب الله -عز وجل- نسأل الله العظيم أن يحفظ علينا ديننا وأن يحفظنا من شر أعدائنا وأن يجعل كيدهم في نحورهم.

إنه نعم المولى نعم النصير

(1/11)

مقدمات النكاح

المقدمة الأولى: الاختيار

...

مقدمات النكاح:

لعقد النكاح مقدمتان:

المقدمة الأولى: الاختيار

الاختيار: خار يخير صار ذا خير، وخار الله لك من الأمر: جعل الله لك فيه الخير، وأنت بالخيار: أي اختر ما شئت، والاختيار: طلب الخير يقول المولى -جل جلاله:

{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 1.

في هذه الآية الكريمة يخبرنا ربنا -عز وجل- بأن الزجة سكن لزوجها، وحرث له، كما قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} 2.

وشريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده، ومهوى فؤاده وموضع سره ونجواه، وهي أهم ركن من أركان الأسرة؛ لأنها المنجبة للأولاد، ويرث عنها أولادها الكثير من المزايا والصفات، وفي أحضانها يجد أولادها عواطف الأمومة، وتتربى ملكاتهم، ويكتسبون الكثير من العادات والتقاليد، ويعرفون أمور دينهم، لذلك وغيره حث الإسلام الرجل عند اختيار شريكة حياته أن يتحرى الدقة عند اختيارها وفقا لما حث عليه الإسلام.

__________

1 الآية 2 من سورة الروم.

2 الآية 233 من سورة البقرة.

(1/13)

وأهم الصفات التي تختار الزوجة لأجلها أهمها:

1- أن تكون ذات دين وخلق فاضل نظرًا لأن عقد النكاح عقد يدوم العمر كله فإن الشارع الحكيم جعل له مقدمات وجه إلى الاختيار وجعله مرحلة تسبق الخطبة والعقد حيث يقول -صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم".

وفَصَّلَ -صلى الله عليه وسلم- ما يدور بنفس كل من ينشد شريكة حياته فقال: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فأظفر بذات الدين تربت يداك" وللعلماء في المعنى المراد من قوله -صلى الله عليه وسلم: "ترتب يداك" تأويلات ثلاثة:

أحدها: أن تربت بمعنى استغنت فتكن دعاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يتمثل أمره، وإن كان معناها لغة "افتقرت" فتصير من أسماء الأضداد.

الثاني: أن معناه تربت يدالك إن لم تظفر بذات الدين؛ لأن من لم يظفر بذات الدين سلبت منه البركة فافتقرت يداه.

الثالث: أنها كلمة تخف على ألسنة العرب في خواتيم الكلام، ولا يريدون بها دعاء ولا ذما فيقولون: ما أشعره قاتله الله، وما رماه شلت يداه ففي هذا الحديث النبوي الشريف بين النبي -صلى الله عليه وسلم- الرغبة التي تدور في نفس كل باحث عن الزواج فبين أن من الناس من يرغب في ذات المال وليستفيد بمالها، ومنهم من يؤثر ذات الحسب

(1/14)

ليشرف بمصاهرة أهلها، ومنهم من يؤثر الجمال لتمتلأ نفسه بهجة وسرور إذا نظر إليها، ومنهم من يفضل ذات الدين والخلق.

ورسولنا -صلوات ربي وسلامه عليه- يحث راغبي الزواج على اختيار ذات الدين والخلق الفاضل، وواضح أنه ليس معنى الظفر بذات الدين قصر الاختيار عليه والعدول عما سواه من الصفات الأخرى، وإنما القصد اعتبار الدين أساسا في الاختيار، ولا يمنع هذا من التطلع بعد ذلك إلى شيء من الاعتبارات الأخرى.

أما إذا كان اختيار من يرغب في الزواج الجمال وحده فذلك أمر لا يحقق الحياة الزوجية السعيدة؛ لأن الجمال كثيرا ما يولد الغيرة والشك، فضلا عن أنه عرضة للزوال فتزول الرغبة بزواله وتغيره.

كما أن اعتبار المال وحده أساس للاختيار أو الحسب كذلك لا تتحقق معهما الحياة الزوجية المنشودة ويُعَرِض الزوجة للتعالي على زوجها والطغيان فتفسد بينهما الحياة الزوجية وإلى هذا المعنى ينبهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يُرْدِيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تُطْغيهن، ولكن تزوجهن على الدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل".

فأفضل كنز يحصل عليه الرجل في حياته هو المرأة الصالحة ذات الدين يقول -صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته".

(1/15)

فهذا دليل على اختيار صاحبة الدين؛ لأن ذلك عامل رئيسي في إسعاد الحياة الزوجية ليتحقق بذلك السكن والمودة والرحمة من منطلق قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 1.

وعلى العكس من ذلك إذا لم يكن كل من الزوجين على جانب كبير من الخلق والدين فإن ذلك يعرض الحياة الزوجية للتقوض والانهدام.

فليكن الأساس الأول للاختيار عند الزواج هو الدين؛ لأن ذلك يحقق للرجل هدفين عظيمين:

أولهما: إسعاد الرجل.

ثانيهما: تنشئة الأولاد نشأة صالحة تتميز بالاستقامة وحسن الخلق لذا قال -صلى الله عليه سلم: "تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم".

2- أن تكون بكرًا:

بكارة الجارية عذرتها، وأصله من ابتكار الفاكهة وهو أكل باكروتها ومنه: ابتكر الخطبة: أدرك أولها، وبكَّر بالصلاة صلاها في أول وقتها، والبكر: بفتح الباء الفتي القوي من الإبل، والباكورة أول الفاكهة.

والبِكْرُ: هي العذارء الباقية على حالها الأول لم تفض بكارتها أو التي زالت عذرتها بغير وطء كإصبع أو زيادة طمث أو النزول من أعلى إلى أسفل.

__________

1 من الآية 21 من سورة الروم.

(1/16)

ويستدل على اختيار البكر بما رواه جابر في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه سلم- أنه قال له: "هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك".

وقوله -صلى الله عليه سلم: "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير".

وفي رواية أخرى: "عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواها وأضيق أرحامًا وأرضى باليسير من الجماع".

وقوله -صلى الله عليه سلم: "أنتق أرحاما" أي أكثر أولادًا يقال للمرأة كثيرة الأولاد ناتق.

وفي الحرص على الزواج بالمرأة البكر ثلاث فوائد:

الفائدة الأولى: أنها تحب زوجها الأول وتألفه؛ لأن النفس البشرية مجبولة على الأنس بأول مألوف، بخلاف المرأة التي مارست الرجال وسبق لها الزواج فربما لا ترضى ببعض الأوصاف في زوجها الثاني والتي تخالف ما ألفته في زوجه الأول فيؤدي إلى أن تكره الزوج الثاني.

الفائدة الثانية: أن البكر تكون كاملة التودد لزوجها.

الفائدة الثالثة: أن البكر لا تحن إلا للزوج الأول:

وفي ذلك يقول الشاعر:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل

(1/17)

إلا إذا كان هناك ما يدعو الرجل إلى نكاح الثيب كأن كانت له زوجة وفارقها بالموت أو الطلاق وتركت له أبناء يحتاجون إلى من تتولى تربيتهم فالثيب أفضل قال جابر -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: هلك أبي وترك سبع بنات، أو تسع بنات فكرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت ثيبا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك".

ووجه الدلالة: هو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما علم حاجة جابر إلى نكاح الثيب لتقوم على تربية أخواته أقره على ذلك ودعا له بالبركة.

3- أن تكون جميلة:

أي باعتبار الطبع فيما يظهر ولو سوداء مثلا؛ لأن من مقاصد النكاح العفة وهي لا تحصل إلا بجمال حسب طبعه ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك".

ولكن يكره اختيار بارعة الجمال؛ لأنها إما أن تزهو أي تتكبر بجمالها أو تمتد الأعين إليها.

والمراد بالجمال: الوصف القائم بالذات المستحسن لذوي الطباع السليمة.

وقال الأصمعي: الحسن في العينين، والجمال في الأنف والخد، والملاحة في الفم.

وهذا هو الفرق بين الحسن، والجمال، والملاحة.

(1/18)

وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجال عند اختيارهم أن تكون المرأة المختارة جميلة حيث قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "تنكح المرأة لأربع" ومن بينها "الجمال" ولا يتعارض هذا مع ما أخرجه ابن ماجه والبزار والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يُرْدِهن، ولا لمالهن فلعله يُطغهن، وانكحوا للدين".

وذلك لأن الحديث المتفق عليه والذي يرغب في صفة الجمال عند اختيار شريكة الحياة القصد منه الإخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يفعله الناس في العادة أنهم يرغبون في هذه الخصال الأربع وآخرها ذات الدين.

أما الحديث الثاني والذي ظاهره النهي عن اختيار ذات الجمال والمال ذلك؛ لأن كلا منهما عرضة للزوال فلا معنى لإيثار شيء من ذلك على الدين والخلق.

4- ألا تكون صاحبة ولد من زوج سابق:

لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لزيد بن حارثة: "لا تتزوج خمسًا: شَهْبَرة وهي الطويلة المهزولة، ولا لَهْبَرة وهي الزرقاء البذية، ولا نَهْبَرة وهو العجوز المدبرة، ولا هَنْدَرة وهي القصيرة الدميمة،

(1/19)

ولا لفوتا وهي ذات الولد من غيرك".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "الزرقاء" أي في العين.

"البذية": أي في اللسان.

وقد قيل: النساء ثلاثة؛ واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك.

أما التي لك فهي البكر، وأما التي عليك فهي الثيب التي لها ولد من غيرك، وأما التي لا لك ولا عليك فهي الثيب التي ليس لها ولد من غيرك.

وقال بعض العلماء يكره نكاح خمسة:

أنانة: أي كثيرة الأنين والتشكي وتعصب رأسها كل ساعة فنكاح المريضة والمتمرضة لا خير فيه.

وحنانة: وهي التي تحن إلى زوج آخر كل ساعة.

وحداقة: وهي التي ترمي بعينها إلى كل شيء تكلف زوجها شراءه.

وبراقة: وهيا التي تعمل على تجميل وجهها وتزينه، وقيل: هي التي تغضب على الطعام ولا تأكل إلا وحدها تشتغل بنفسها في كل شيء.

والشداقة: وهي التي تتشدق كثيرا بالكلام.

5- ألا تكون أعلى منه قدرًا ونسبًا ومالًا وجاهًا ولا أصغر منه سنا.

لأن ذلك كله يؤدي إلى ترافعها عليه وعدم احترامه وربما يؤدي ذلك إلى النشوز والمخالفة والهجر في المضجع وعدم تمكينه من المباشرة فيؤدي كل ذلك إلى قطع العشرة.

(1/20)

فالأولى أن يختار الرجل إما من هي مثلة في المنزلة، أو من هي دونه فيها ليعظم قدره عندها وليحقق معها القوامة التي عبر عنها القرآن الكريم حيث يقول ربنا -جل جلاله- {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 1.

6- ألا يكون في حلها خلاف:

ينبغي على الرجل عند اختيار شريكه حياته أن يختار التي تحل له قولا واحدا ويبتعد عن اختيار المختلف في حلها كالتي زنى هو بها أو تمتع بأمها، أو التي زنى بها أصله أو فرعه، أو التي شك في تحريمها عليه بسبب الرضاع المحرم.

7- أن تكون ولودا ودودا:

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الولود الودود".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "سوداء ولود خير من حسناء عقيم".

وتعرف البكر بأقاربها من النساء، والودود التي تتودد لزوجها بحبها له بسبب ما تتصف به من صفات حميدة.

8- ألا يكن لها مطلق يرغب في نكاحها:

لأن ذلك يؤدي في الغالب إلى إفساد العلاقة الزوجية بينها وبين الزوج الثاني لها بسبب رغبتها وحنينها إلى الزوج الأول.

9- أن تكون خفيفة المهر:

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة".

__________

1 من الآية 34 من سورة النساء.

(1/21)

قال عروة: أول شؤم المرأة أن يكثر صداقها.

10- ألا تكون ذات قرابة قريبة:

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "ولا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاويًا" أي نحيفا. وذلك لضعف الشهوة وقال ابن الصلاح: لم أجد لهذا الحديث أصلا معتمدا، فينبغي ألا يكون لهذه الصفة أثر عند الاختيار لعدم وجود دليل يعتمد عليه، بل الثابت خلافه لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تزوج بزينب بنت جحش -رضي الله عنهما- وهي بنت عمته، وزوج ابنته فاطمة -رضي الله عنها- لعلي بن أبي طالب وهو ابن عمه.

ومن ثم فلا أرى بأسا من زواج القريبة، وإن كان الطب الحديث أثبت أن هناك عوامل وراثية بين الزوجين القريبين تؤدي أحيانا إلى حدوث تشوهات خلقية لأبنائهما، ولكنه في نفس الوقت قد توصل بفضل الله -عز وجل- ثم بفضل الاختراعات العلمية الحديثة إلى الوسائل العلاجية قبل الزواج إلى التغلب على هذه الظاهرة التي قد يصاب بها الجنين الناتج عن زواج الأقارب.

ثم قال الخطيب الشربيني -يرحمه الله- بعد أن أورد هذه الصفات التي تختار على أساسها المرأة عند الاقتران بها، وهذه الصفات كلها قل أن يجدها الشخص في نساء الدنيا، وإنما توجد في نساء الجنان فنسأل الله تعالى ألا يحرمنا منهن". ا. هـ.

(1/22)

والاختيار كما يتحقق من جانب الرجل على ما جرى عليه العرف والعادة بصفته الطالب والمرأة المطلوبة.

فإنه -أي الاختيار- يتحقق كذلك من جانب المرأة، إما بنفسها أو بوليها، وأساس الاختيار واحد، فإنه ينبغي أن تختار المرأة الزوج الصالح الذي تأمن معه على نفسه ومالها وعرضها وتسعد بحياة زوجية مستقرة في كنف زوجها دون أن تجري وراء المظاهر الخادعة والنزعات الطائشة فإذا جعلت المرأة اختيار شريك حياتها أساسه الجاه والثراء دون اكتراث بما رواء ذلك، فإن هذا الاختيار غالبا ما يعرضها للهزات العنيفة ويجعل حياتها الزوجية مع هذا الزوج غير مستقرة ولا مستديمة.

ومن ثم كان لزاما عليها عند اختيارها للزوج المنشود أن يكون ذلك الزوج في المقام الأول صاحب خلق ودين ثم الاعتبارات الأخرى مطلوبة في الزوج ولكن في المرتبة التالية لذلك.

فلتنظر إلى المقارنة البلاغية اللطيفة في قوله -عز من قائل- {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} 1.

فهذه المقابلة الرائعة تبين لنا بيانا لا شك فيه بأنه يجب على كل من الزوجين أن يختار لنفسه من يناسبه حتى يتم الأنس والوئام والمنشود في الحياة الزوجية الصالحة، لو كان الاختيار من جانب الزوج فقط لاكتفى القرآن الكريم بقوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} .

__________

1 من الآية 26 من سورة النور.

(1/23)

من غير احتياج إلى إيراد العبارة الثانية {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} فالرجل يسعد في حياته وتسعد معه المرأة إذا كان كل منهما على خلق ودين، وإلى هذا المعنى يقول ربنا حل جلاله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} 1.

كما أن نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلفه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير".

وكما قيل: إن صاحب الدين إذا أحب أكرم وإذا كره لم يظلم.

فعلى الولي أن يختار لمن له عليها ولاية صاحب الدين والخلق والشرف؛ لأنه إن عاشرها عاشرها بالمعروف، وإن فارقها فارقها بإحسان.

ورحم الله تعالى الإمام الجليل أبا حامد الغزالي الذي قال في الإحياء: والاحتياط في حقها أهم؛ لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال، فمن زوج ابنته ظالمًا أو فاسقًا أو مبتدعًا أو شارب خمر فقد جنى على دينه وتعرض لسخط الله تعالى لما قطع من الرحم وسوء الاختيار.

قال رجل للحسن بن علي -رضي الله عنهما: إن لي بنتا فمن ترى أن أزوجها له؟ فقال له الحسن -رضي الله عنه: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.

__________

1 من الآية 32 من سورة النور.

(1/24)

وقالت عائشة -رضي الله عنها- النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته.

كما يقول -صلى الله عليه وسلم: "من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها".

مرحلة الاختيار:

هذا الاختيار الذي حث عليه الإسلام الجانبين راغبي الزواج أو أحدهما أشبه بالعمل التحضيري الذي يبيح شرعا التعرف من أحد الزوجين على الآخر والنظر إليه، من أن يكون ذلك مظهر خارجي أن يشعر به الآخر حتى لا يتأذى إذا ما حدث إعراض.

وفي هذا يحدثنا الصحابي الجليل جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- فيقول: "خطبت امرأة فكنت أختبئ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها" كما يقول -صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا أراد الخطبة وإن كانت لا تعلم".

(1/25)

المقدمة الثانية: الخطبة

مدخل

...

المقدمة الثانية الخطبة:

بعد المقدمة الأولى للنكاح، وهي الاختيار تأتي المقدمة الثانية "الخطبة".

تعريفها:

الخطبة -بكسر الخاء وضمها- مأخوذة من خطب -بضم الخاء- لكن خصت الخطبة بضم الخاء بالكلام المنثور أو المسجوع الموجه إلى الغير، ومنها خطبة المنبر.

(1/25)

وخصت الخطبة -بكسر الخاء- بخطبة المرأة للزواج، ومنه قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} 1.

والخطبة في الاصطلاح: التماس الخاطب النكاح من جهة المخطوبة.

ويفهم من التعريف الاصطلاحي للخطبة أنها لا تكون إلا من جانب الرجل فقط ولا تكون من جانب المرأة ولكن إذا ظهرت للمرأة من تراه أصلح لها ولم تظهر منه رغبة مع أنه أهل للزواج فلا مانع شرعا من أن تتقدم وتظهر رغبتها في الزواج منها بنفسها أو بولي من أوليائها أو برسول الله من جهتها.

يوضح لنا ذلك القرآن الكريم حين عرضه لموقف شعيب -عليه السلام- مع موسى -عليه السلام- حيث قال شعيب له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} 2.

وتلك هي السيدة خديجة بنت خوليد -رضي الله عنها- فهي التي خطبت النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الرسالة وأظهرت رغبتها في التزوج منه، ولم يعرف أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفكر في ذلك.

وروى البخاري وغيره من حديث سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله جئت أهب نفسي منك -أو لك. على خلاف في الروايات.

فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما لي في النساء من حاجة" يقول أهل العلم: إن عدم إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على عرضها نفسها

__________

1 الآية 22 من سورة البقرة.

2 الآية 27 من سورة القصص.

(1/26)

عليه ورغبتها في الزواج من دليل على جواز خطبة المرأة لمن تراه أهلا للزواج به.

وكذلك أخرج البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصه، فقال: سأنظر في أمري، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فقلت: إن شئت زوجتك بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إليَّ شيئا وكنت أوجد عليه من عثمان.

فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما توفي زوج ابنته حفصة اهتم بشأنها بعد انقضاء عدتها من زوجها المتوفى عنها وهي في ريعان شبابها فعرضها على كبار الصحابة دون حياء ولا تردد فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- فهل ثقلت مؤنة حفصة على أبيها عمر رضي الله عنه لدرجة أن يعرضها بنفسه على من هم في مثل سنه؟ أم أنه يختار لها الأصلح دينا ودنيا.

فليكن لكم أيها الأولياء في سلفكم الصالح القدوة الحسنة حتى تسعدوا بناتكم وحتى يجد الشباب والفتيات الطريق الحلال لتكوين أسرة سعيدة يسعد بسعادتها المجتمع.

إلا أن المرأة في الغالب يمعنها حياؤها أن تعرض نفسها على من تراه أهلا لنكاحها، وكذلك يستحيي واليها من ذلك، لكن قد يحدث هذا العرض وإظهار الرغبة من أمها أو أختها فإذا ما صادف العرض ما في نفس الرجل فإنه يتقدم لخطبتها، فالدين لا يمنع المرأة من خطبة من تراه أهلا

(1/27)

لنكاحها وإن كان العرف والعادة يمنعان من ذلك، ومع هذا شاع على ألسنة الناس "اخطب لابنتك ولا تخطب لابنك"، مما يدل على أن الناس يريدون التوجه إلى ما يحث عليه الدين لا العرف والعادة.

(1/28)

مشروعية خطبة النساء

...

مشروعية الخطبة:

يستدل على مشروعية الخطبة من الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 1.

ووجه الدلالة من الآية الكريمة أنها أجازت التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي في عدتها، فإذا أجاز التعريض بخطبة المعتدة من وفاة فمن باب أولى يجوز في حق الخالية، ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر فيها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".

فدل الحديث بصريح اللفظ على مشروعية الخطبة فضلا عما فيه من أحكام أخرى ستفصل في حينها إن شاء الله تعالى.

حكمها والحكمة الشرعية من مشروعيتها:

قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: قال الغزالي: هي مستحبة وقيل: هي كالنكاح إذ الوسائل كالمقاصد، وأقول: الأصل في الخطبة أنها مستحبة بيد أنها تأخذ حكم النكاح فإن كان النكاح حراما كانت

__________

1 من الآية 235 من سورة البقرة.

(1/28)

الخطبة حرامًا، وإن كان واجبا كانت واجبة، وإن كان مندوبا كانت مندوبة وهكذا وفقا للقاعدة الفقهية الوسائل كالمقاصد.

والحكمة من مشروعيتها:

أنها من مقدمات الزواج ليتعرف كل من الخاطبين على الآخر، فإذا ما وجد التلاقي والتجاوب أمكن الإقدام على الزواج الذي هو رابطة دائمة في الحياة، واطمأن الجانبان إلى أنه يمكن التعايش بينهما بسلام وأمان وسعادة ووئام وحب وطمأنينة وهي أهداف سامية يحرص عليها الجميع الزوج والزوجة والأهل من ورائهم.

(1/29)

شروطها:

الخطبة مقدمة للزواج ووسيلة من وسائله، فإن كان الزواج مباحا شرعا كانت الخطبة مباحة، وإن كان حراما كانت هي الأخرى حرام، ولكنه قد يوجد مانع شرعي مؤقت من الخطبة والزواج، ومن ثم فإنه يشترط لإباحة الخطبة شرطان:

الشرط الأول: ألا تكون المراد خطبتها مخطوبة للغير:

لما رواه الشيخان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" فإذا ما خطب رجل امرأة فلا يخلو الحال من خمسة أقسام:

القسم الأول: أن يجاب الخاطب على طلبه، ففي تلك الحالة يحرم على غيره من الرجال خطبة مخطبوته لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم-

(1/29)

عن ذلك حفاظا للألفة، ومنعا من الفساد وحسما للتقاطع وسواء كان الأول كفئا أو غير كفء.

القسم الثاني: أن ترد المخطوبة خاطبها ولا تجيبه على طلبه، فيجوز لغيره من الرجال خطبتها؛ لأنها عندئذ خالية وليست مخطوبة.

القسم الثالث: أن يظهر من المخطوبة الرضا بالخاطب ولكنها لم تأذن في العقد وذلك بأن تقرر صداقها أو بشرط ما تريد من الشروط لنفسها ففي جواز خطبة الخاطب الثاني قولان من المذهب:

القول الأول: أنه تحرم خطبتها لرضاها بالخاطب الأول عملا بعموم النهي.

القول الثاني: أنه لا تحرم خطبتها لعدم تصريحها بالإذن في العقد.

القسم الرابع: أن يأذن وليها من غير أن يكون منها إذن أو رضا، فإن كان هذا الولي ممن يزوج بغير إذن كالأب والجد مع البكر حرمت خطبتها لإذن الولي، وإن كان ممن لا يزوج إلا بإذن لم تحرم خطبتها بإذن الولي حتى تكون هي الابنة.

القسم الخامس: أن تُخطب ولكن لا يكون منها إذن ولا رضا ولا يكون من رد ولا كراهية فتجوز خطبتها.

لما رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره من حديث فاطمة بنت قيس المخزومية أن زوجها أبا عمرو بن حفص طلقها طلاقا بائنا، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا حللت فآذنيني"، فلما حلت جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله قد خطبني معاوية،

(1/30)

وأبو جهم فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك لا مال له أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه".

وفي رواية أخرى: أخرجها عبد الرزاق في مصنفه قال لها: "أما أبو جهم فأخاف عليك فسفاسته، أي: عصاه، وأما معاوية فرجل أخلق من المال -أي لا مال له". ثم قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنكحي أسامة بن زيد"، قالت: فكرهته، ثم أطعت النبي -صلى الله عليه وسلم- فنكحته فرزقت منه خيرا واغتبطت.

ووجه الدلالة من وجهين:

الأول: أنها أخبرت أن معاوية وأباجهم قد خطبها كل منهما بعد صاحبه ولم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- تحريم ذلك لأنها لم تجب الخاطب الأول على طلبه.

الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خطبها لأسامة بعد خطبتها فدل ذلك على أن عدم إجابة المخطوبة الخاطب الأول على طلبه لا يحرم خطبة الخاطب الثاني.

وذكرا لما رواه الإمام الماوردي في كتابه الحاوي الكبير فوائد كثيرة مستفادة من حديث فاطمة بنت قيس المخزومية بالإضافة إلى وجه الدلالة السابق ذكره نذكر هذه الفوائد لأهميتها:

- جواز ذكر ما في الإنسان من عيب عند السؤال عنه ولا يعتبر ذلك من الغيبة المحرمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في معاوية: "إنه صعلوك لا مال له".

(1/31)

والتصعلك: التجمل والاضطراب في الفقر. قال في أبي جهم: "لا يضع عصاه عن عاتقه" أي أنه أراد به كثرة الضرب بها لأهله، وقيل: أراد بذلك كثرة أسفاره، يقال لمن سافر: قد أخذ عصاه، ولمن قام قد ألقى عصاه وقيل: أراد به كثرة تزويجه لتنقله من زوجة إلى أخرى، كتنقل المسافر بالعصى من مدينة إلى أخرى.

2- جواز الابتداء بالمشورة من غير استشارة، حيث أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسامة من غير أن تسأل هي عنه.

3- إباحة الطلاق الثلاث؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أنكره على فاطمة عندما أخبرته بأن زوجها عمرو بن حفص قد بَتَّ طلاقها.

4- جواز خروج المعتدة في زمان عدتها للحاجة؛ لأن فاطمة خرجت لتخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بطلاقها، فلم ينكر عليها خروجها في العدة بل قال لها: "إذا حللت فآذنيني".

5- جواز كلام المرأة وإن اعتدت، وأن كلامها ليس بعورة.

6- جواز نكاح غير الكفء؛ لأن فاطمة بنت قيس من بني مخزوم من صميم قريش ومع ذلك أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن تتزوج أسامة وهو من الموالي.

7- سقوط نفقة المبتوتة.

وإذا حرمت الخِطْبة على الخِطْبة على ما سبق بيانه في هذه الأقسام وأقدم رجل على الخطبة مع تحريمها عليه وعقد على مخطوبة الغير فإنه يكون آثما ونكاحه جائز؛ لأن النهي إذا كان لمعنى في غير المعقود

(1/32)

عليه لم يمنع من الصحة كالنهي عن أن يسوم الرجل على سوم أخيه ومع ذلك لو سام وعقد فعقده صحيح.

الشرط الثاني: ألا يحرم الزواج بها شرعًا، وذلك بأن لا تكون من المحرمات تحريما مؤبدا كالأخت والعمة والخالة، أو تحريما مؤقتا كأخت الزوجة وزوجة الغير.

وقسم الماوردي في كتابه الحاوي الكبير النساء إلى أقسام ثلاثة فقال: اعلم أن النساء ثلاث خلية، وذات زوج، ومعتدة فأما الخلية التي لا زوج لها، فتجوز خطبتها بالتعريض والتصريح.

وأما ذات الزوج فلا تحل خطبتها بتعريض ولا بتصريح.

وأما المعتدة فعلى ثلاث أقسام:

أحدها: أن تكون رجعية، وهذه لا تجوز خطبتها لا تعريضا ولا تصريحا؛ لأن أحكام الزوجية جارية عليها من وجوب النفقة لها ووقوع الطلاق عليها والظهار منها، والتوارث بينهما إن مات أحدهما، وتنتقل إلى عدة وفاة إن مات الزوج وهي لا تزال في عدتها الرجعية، ومتى أراد الزوج مراجعتها في العدة كانت زوجته.

الثاني: أن تكون بائنا لا تحل للزوج المطلق حتى تنكح زوجا غيره، أو متوفى عنها زوجها وإن لم يتوجه إلى الزوج بعد موته تحليل ولا تحريم فإذا كانت المرأة مطلقة طلاقا بائنا بينونة كبرى فيحرم على زوجها المطلق لها التصريح والتعريض بخطبتها؛ لأن لا تحل له أثناء

(1/33)

العدة أو بعدها فحرمت عليه خِطْبتها؛ وأما غير الزوج فيحرم عليه التصريح ويجوز له التعريض.

استدلالا بحديث فاطمة بنت قيس السابق ذكره والتي طلقها زوجها ثلاثا، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا حللت فآذنيني"، وفي رواية أخرى: "إذا حللت فلا تسبقيني بنفسك فكان ذلك تعريضا لها".

وفي معنى المطلقة ثلاثا الملاعنة تحرم خِطبتها للزوج الملاعن تصريحا وتعريضا، ويجوز لغيره التعريض لها في العدة ويحرم عليه التصريح.

والمتوفى عنها زوجها يحرم التصريح لها بالخطبة أثناء عدتها ويجوز التعريض بها في عدتها ولو كانت حاملا لقول الحق -سبحانه وتعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 1 والحكمة من تحريم التصريح بالخطبة للمطلقة البائن والمتوفى عنها زوجها والملاعنة في العدة، هي: أن المرأة من شدة رغبتها في الأزواج وغلبة شهوتها ربما يدفعها ذلك أن تخبر بانقضاء العدة قبل أوانها، وقولها في انقضاء العدة مقبول فتصير منكوحة في العدة، فلذلك حرم الله تعالى التصريح حسما لهذا التوهم.

الثالث: البائن التي تحل للزوج وهي المختلعة في عدتها، فإنه يجوز لزوجها المخلوع التصريح بخطبتها؛ لأنه يحل له زواجها في العدة أما

__________

1 من الآية 235 من سورة البقرة.

(1/34)

غير الزوج فيحرم عليه التصريح قولا واحدا، وفي جواز تعريض لها بالخطبة قولان:

أحدهما: لا يجوز لإباحتها للمطلق كالرجعية.

والثاني: يجوز؛ لأنه لا يملك رجعتها كالمطلقة ثلاثا.

وفي معنى المختلعة الموطوءة بشبهة يجوز للواطئ أن يصرح بخطبتها في العدة؛ لأنها تعتد منه ويحل له نكاحها في العدة ولا يجوز لغيره التصريح، وفي جواز تعريضه قولان:

والتصريح: ما زال عنه الاحتمال وتحقق منه المقصود، كقوله لها: أنا راغب فيك وأريد أن أتزوجك.

وأما التعريض: فهو الكلام المحتمل كقوله: رب رجل يرغب فيك أو لعل الله يسوق إليك خيرا، أو إذاحللت فآذنيني.

ويجوز لها التعريض سرًّا وجهرًا وأما قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} 1.

فقيل المقصود: بالسر: الزنا.

وقيل: ألا تنكحوهن في عدتهن سرًّا.

وقيل: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن ألا ينكحن غيركم.

وقيل: إنه الجماع، وسمي سرًّا؛ لأنه يسر ولا يظهر.

__________

1 من الآية 235 من سورة البقرة.

(1/35)

وسائل التعرف على المخطوبة:

لقد ذكرنا أن حكمة مشروعية الخطبة هي تعرف الخاطبين على بعضهما ولهذا التعرف وسائله المشروعة وهي:

أولا: النظر المباشر من الخاطب للمخطوبة، وكذلك من المخطوبة إلى الخاطب ويستدل على إباحة النظر بقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"، قال جابر: راوي الحديث فخطبت جارية، فكنت اختبئ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها.

وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنه خطب امرأة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤْدم بينكما".

وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، وإن كانت لا تعلم".

فدلت الأحاديث بمجموعها على مشروعية نظر الخاطب إلى مخطوبته للتعرف عليها معرفة تدعوه إلى نكاحها، وكذلك يشرع للمرأة المراد خطبتها أن تنظر إلى من يريد خطبتها؛ لأن المرأة يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها.

(1/36)

موضع النظر المسموح به شرعا ووقتا وهل يكرر أم لا

...

موضع النظر المسموح به شرعا ووقته وهل يكرر أم لا؟:

ولكن ما مقدار النظرا لمسموح به شرعًا؟:

ينظر الخاطب إلى الوجه والكفين فقط ظاهرًا وباطنًا؛ لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المشار إليها في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1.

والحكمة من الاقتصار على ذلك أن في الوجه ما يستدل به على الجمال، وفي النظر إلى اليدين ما يستدل به على خصوبة البدن بشرط أن يكون النظر مع وجود محرم للمرأة؛ ذلك لأن الخاطبين أجنبيين وما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.

وقت النظر المسموح به شرعًا:

يكون قبل الخطبة وبعد العزم على النكاح؛ فإنه قبل العزم لا حاجة إليه، وبعد الخطبة قد يقضي الحال إلى الترك فتضرر المرأة وأهلها بذلك ولا يتوقف النظر على إرادتها ولا وليها اكتفاء بإذن الشارع، ولئلا تتزين فيفوت غرضه، ولكن الأولى أن يكون النظر إليها بإذنها، فإن لم تعجبه سكت.

تكرار النظر:

وله تكرار النظر إن احتاج إليه؛ ليتبين هيئتها فلا يندم بعد النكاح إذ لا يحصل غالبا بأول نظرة. وقال بعض فقهاء المذهب: يحتمل أن يقدر النظر من أجل الخطبة بثلاث نظرات فقط وحصول المعرفة بها في

__________

1 من الآية 31 من سوة النور.

(1/37)

الغالب، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها: "رأيتك ثلاث ليال ثم خطبتك".

ولكن الأولى أن له تكرار النظر، سواء أكان بشهوة أم بغيرهابشرط وجود محرم أو نسوة ثقات، حتى لا يختلي الخاطب بالمخطوبة الخلوة المحرمة التي لا يأمن معها وقوع المعصية فلا يختلي رجل أجنبي بامرأة أجنبية إلا وكان الشيطان ثالثهما كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه الإمام أحمد من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان".

ومع ضعف الوازع الديني وعدم التمسك بمبادئ الإسلام الفاضلة وأخلاقه السمحة، والجري وراء التقاليد الغربية تحت ما يسمونه بالتحضر، وليس هو بتحضر بل هو الدمار والفساد الأخلاقي الذي يؤدي في النهاية إلى غضب المولى -عز وجل- وانتقامه العادل آجلا أو عاجلا، نرى الكثير من أبناء الأمة المسلمة بمجرد إعلان الخطبة يبيحون للمخطوبة أن تخالط مخطوبها ويختلي بها دون رقيب، وتخرج معه للتنزه في الحدائق العامة وغيرها دون إشراف مما يؤدي إلى ضياع شرف المرأة وهتك عرضها وإهدار كرامتها، وفساد عفافها؛ لأن الخاطب قد يتعجل وقد يستجيب الإنسان لتلبية غرائزة، ويضعف عن مقاومتها في حال الانفراد بالمرأة فيقع الضرر بها، بحجة أنهما يعتزمان النكاح الذي قد لا يتم فيقعان في الحرج وتسوء سمعة المرأة وكثيرا ما

(1/38)

ويحدث ذلك نتيجة الاتصالات غير الشرعية، فلا عبرة بالعرف الذي اعتاده هؤلاء الجهلة بشريعة الله فهو عرف فاسد وشرع الله أولى بالاتباع والاعتبار.

بجانب هؤلاء نرى من يكون غاية في التشدد فلا يسمحون للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته ويعقدون له عليها دون أن يراها أو تراه إلا ليلة الزفاف، وربما تكون الرؤية حينئذ مفاجئة لهما غير متوقعة فيحدث ما لم تحمد عقباه.

وبعض ثالث يكتفون بالنظر إلى الصورة الشمسية التي لا تدل في الواقع على شيء يمكن الاطمئنان عليه، وذلك لأنها لا تصور الحقيقة تصويرًا دقيقا.

فخير الأمور هو الالتزام بشرع الله؛ لأن فيه مراعاة لكلا الزوجين حيث سمح بأن ينظر كل منهما للآخر، مع تجنب الخلوة صيانة للعرض وحماية للشرف.

ثانيا: إرسال امرأة يثق بها الخاطب تنظر إليها وتصفها له.

ويستدل على ذلك بما روي أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- أرسل أم سليم إلى امرأة، فقال لها: انظري عُرْقُوبها وشمي معاطفها، وفي رواية أخرى "شمي عوارضها" وهي الأسنان التي في عرض الفم، والمراد اختبار رائحة الفم، وأما المعاطف، فهي ناحيتا العنق، والمراد اختبار رائحة جسدها، والعُرْقوب: هو أسفل الساق من الخلف والنظر إليه لمعرفة الجمال وعدمه في الرجلين.

(1/39)

وللمرأة أن تفعل مثل ذلك فترسل رجلا ينظر إلى الخاطب ويصفه لها؛ لأنه يعجبها من الرجل ما يعجبه منها.

وبمناسبة الحديث عن مشرويعة نظر الخاطب إلى المخطوبة بقصد التعرف عليها لنكاحها، اعتاد فقهاؤنا الشافعية -يرحمهم الله- أن يتحدثوا في كتبهم عن بقية أنواع نظر الرجل البالغ العاقل إلى المرأة الباغلة العاقلة ولو كانت عجوز لا تشتهي؛ لأهمية معرفتها استكمالا للفائدة.

فنظر الرجل البالغ العاقل1 إلى المرأة البالغة العاقلة يتنوع إلى عدة أنواع:

أولا: منها النظر إلى من يحل له نكاحها بقصد خطبتها قد تحدثنا عنه.

ثانيا: نظر الرجل البالغ العاقل ومن في حكمه إلى بدن امرأة أجنبية غير الوجه والكفين ولو غير مشتاه لغير حاجة فحرام قولا واحدًا لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} 2.

ووجه الاستدلال: أن الآية الكريمة تأمر الرجال بغض البصر؛ لأنه مظنة الفتنة ومحرك الشهوة.

أما النظر إلى الوجه والكفين فحرام قولا واحدا عند خوف الفتنة: التي هي ميل النفس ودعاؤها إلى الجماع ومقدماته.

__________

1 ويلحق به الخصي: منزوع الخصيتين، والمجبوب: مقطوع الذكر. والعنين: وهو الذي لا يقوى على مجامعة المرأة، والشيخ الهرم، والمخنث بكر السين المتشبه بالنساء، والمراهق: هو من قارب الاحتلام باعتبار غالب سنه وهو قرب خمسة عشر سنة فيما يظهر.

أما الصبي الذي هو دون المراهق فإن كان يحسن حكاية ما يراه من غير شهوة فهو كالمحرم، أو بشهوة فكالبالغ، أولا يحسن ذلك أصلا فكعدمه.

2 من الآية 30 من سورة النور.

(1/40)

ولفقهاء المذهب عند عدم الخوف من الفتنة وجهان:

الوجه الأول: لمتقدمي الأصحاب أنه لا يحرم النظر ولكنه يجوز مع الكراهة لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1.

فالمراد من قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان هكذا قال ابن عباس وعائشة.

وغيرهما -رضي الله عنهما- ورجحه الطبري.

والوجه الثاني: أنه يحرم؛ لأنه -أي النظر- مظنة الفتنة ومحرك للشهوة، فيحرم سدا للذرائع، وصوت المرأة الأجنبية ليس بعرة ويجوز الإصغاء إليه عند أمن الفتنة، وإن خافها حَرُمَ.

ثالثا: النظر إلى بدن الزوجة

يجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته حال حياتهما؛ ذلك لأنه محل استمتاعه، إلا الفرج فيكره النظر إلى ظاهرة وإلى باطنه أشد كراهة، لقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها: "ما رأيت منه ولا رأى مني": أي الفرج: فقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- نص في الكراهة؛ لاحتمال أن يكون نفيها الرؤية لشدة الحياء وأما خبر "النظر إلى الفرج يورث الطمس" أي: العمى، فمحمول على الكراهة، واختلفوا في قوله: يورث العمى، فقيل: عمى الناظر، قيل: عمى الولد إن قدر لهما، وقيل: عمى القلب.

__________

1 من الآية 31 من سورة النور.

(1/41)

واختلف فقهاء المذهب في نظر الزوج إلى دبر زوجته فقال: بعضهم بإباحته، وقال البعض الآخر: بالكراهة وهو المعتمد في المذهب، وقال بعض ثالث: بحرمة النظر إليه.

ولو وطء أجنبي زوجة غيره بشبهة فإنه يحرم على زوجها النظر إلى ما بين السرة والركبة ويحل ما سوى ذلك على الصحيح في المذهب، أثناء عدتها من هذا الوطء، وعلى الأصح لا يحرم نظره إلى ما بين السرة والركبة؛ لأنها لا تزال زوجة له وإن كانت تعتد من وطء غيره لها بشبهة، ولا يلزم من كراهة النظر إلى فرج الزوجة ظاهرًا وباطنًا مسه فإنه يباح ذلك؛ لانتفاء العلة التي ذكرت في الخبر القائل "النظر إلى الفرج يورث الطمس".

وفي مغني المحتاج قال: سأل أبو يوسف أبا حنفية -يرحمه الله- عن رجل مس فرج زوجته وعكسه، فقال: لا بأس به، وأرجو أن يعظم أجرهما.

نظر الزوجة كنظر زوجها إليها إلا أنها لا تنظر إلى عورته إذا منعها من ذلك؛ فإذا منعها حرم عليها النظر لما بين السرة والركبة؛ بخلاف العكس أي إذا منعته من النظر لا يحرم عليه ذلك؛ لأنها محل لاستمتاعه وربما أدى نظره إلى عورتها ومسها إلى تحريك شهوته بلا ضرر يترتب عليه، وإذا ماتت الزوجة فالمعتمد في المذهب أنه يجوز له النظر بعد موتها لجميع جسدها حتى الفرج بغير شهوة؛ ذلك لأنه يجوز له تغسيلها مسلمة كانت أم ذمية. لقول النبي -صلى الله عليه

(1/42)

وسلم- لعائشة -رضي الله عنها: "ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك".

ولأن حقوق النكاح لا تنقطع بالموت بالدليل التوارث بينهما كما أن للزوجة أن تقم بتغسيل زوجها لقول عائشة -رضي الله عنها: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا نساؤه".

رابعا: النظر إلى ذوات المحارم

والمقصود بهن المحرمات على التأبيد بنسب أو إرضاع أو مصاهرة فينظر إلى جميع البدن إلا ما بين السرة والركبة؛ لأن المحرمية التي بينهما معنى يوجب حرمة المناكحة فكانا كالرجلين والمرأتين، والسرة والركبة ليستا من العورة ومن ثم فإنه يباح النظر إليهما.

وإباحة النظر إلى جميع بدن المحرمات على التأبيد عدا ما بين السرة والركبة مشروطة بأن يكون النظر بدو شهوة، فإن كان بشهوة حرم مطلقا؛ لأن ما أدى إلى حرام فهو حرام.

وقيل: لا ينظر من محارمه على التأبيد إلا ما يظهر منها فقط عند الخدمة كيدها وشعرها وعنقها ورجلها إلى الركبة للضرورة وما عداه لا ضرورة للنظر إليه.

أما المحرمة على التأقيت كأخت الزوجة فهي كالأجنبية في حكم النظر إليها.

(1/43)

خامسا: النظر للمداوة

كنظر الطبيب المعالج إلى المرأة الأجنبية لمعالجتها والعكس. فهو جائز شرعًا ولكن بشروط:

الشرط الأول: لا يتجاوز في النظر موضع الحاجة حتى ولو كان المحتاج إلى معالجته الفرج أو الدبر.

الشرط الثاني: أن يأمن الافتتان بوجود محرم لها أو عدد من النسوة الثقات.

الشرط الثالث: أن يكون الطبيب المعالج معروف بالأمانة.

لا فرق في ذلك من أن يكون الطبيب رجلا والمعالج امرأة أو العكس.

الشرط الرابع: ألا يوجد من يعالج المريض من جنسه، فإن كان

المريض امرأة فالأولى أن تقوم على علاجها امرأة مثلها مسلمة، فإن تعذرت فصبي مسلم يستطيع ذلك، فإن تعذر فصبي كافر، فإن تعذر فامرأة كافرة، فإن تعذرت فَمَحْرمها المسلم، فإن تعذر فمحرمها الكافر فإن تعذر فأجنبي مسلم، فإن تعذر فأجنبي كافر.

سادسًا: النظر للشهادة تحملا وأداء أو المعاملة من بيع ونحوه فجائز حتى لو كان النظر للشهادة على الزنا والولادة وإلى الثدي للشهادة على الرضاع، وكذلك يجوز للرجل أن ينظرإلى وجه المرأة إذا باع إليها ولم يعرفها فإنه ينظر إليها ليرد عليها الثمن بالعيب، ويجوز لها أن تنظر لوجهه لترد عليه المبيع بالعيب.

(1/44)

وإذا ادعت المرأة عُبَالة زوجها -أي غلظ ذكره- بصورة تؤذيها وتألمها عند مجامعتها، فإنه يجوز للنسوة النظر إلى ذكر الزوج؛ لأن العُبَالة إنما تثبت بالنساء ولأنها مما لا يطلع عليه الرجال غالبًا.

هذا كله مشروط بأمنه الفتنة، فإن خاف الوقوع في الفتنة لم ينظر إلا أن تعين فينظر ويضبط نفسه.

سابعًا: النظر للتعليم

فجائز شرعًا بشروط أربعة:

الشرط الأول: ألا توجد امرأة تقوم بما يقوم به الرجل.

الشرط الثاني: ألا يوجد من محارم المرأة بما يقوم بذلك.

الشرط الثالث: أن يتعذر التعليم من رواء حجاب.

الشرط الرابع: أن يأمن الفتنة، فإن خافها حرم النظر.

ثامنًا: نظر المرأة إلى محارمها بنسب، أو رضاع أو مصاهرة.

فإنه يجوز لها أن تنظر إلى جميع جسده عدا ما بين السرة إلى الركبة.

تاسعًا: نظر الرجل إلى الرجل، جائز عدا ما بين السرة إلى الركبة.

عاشرًا: نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي.

الأصح أنه كنظره إليها تنظر منه إلى الوجه والكفين فقط إلا إذا خيف الفتنة فيحرم النظر.

ومتى حرم النظر في كل ما سبق ذكره من أنواع النظر، حرم المس؛ لأنه أبلغ في اللذة وإثارة الشهوة، بدليل أنه لو مس فأنزل أفطر، ولو نظر فأنزل لم يفطر.

(1/45)

حكم المضاجعة والمصافحة:

المضاجعة:

ضجع كمنع، ضجعا وضجوعًا، وضع جنبه بالأرض، وأضجعته، وضعت جنبه بالأرض، والمضاجع وضع الجنب بالأرض.

ويحرم اضجاع رجلين أو امرأتين أو رجل وامرأة بلغا الرشد في ثوب واحد سواء أكان أجنبيين أم غير أجنبيين كالأب وابنه أو الابن وأخته، أو أمه، أو الرجل وصديقه، أو المرأة وجارتها، إذا كانا عاريين تماما ولو كان كل منهما في جانب الفراش؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُفض الرجل إلى الرجل والمرأة إلى المرأة في الثوب الواحد".

أما إذا لم يتجردا من ثيابهما أو تجرد أحدهما دون الآخر فيجوز نومهما في فراش واحد ولو متلاصقين.

المصافحة:

الأخذ باليد كالتصافح:

ومن السنة أن يتصافح الرجلان إذا التقيا، وكذلك المرأتان؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان يتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا".

فإن اختلف الجنس بأن كانا رجل وامرأة فإن كانت امرأة لا تُشتهى لكونها عجوزا أوصغيرة جازت المصافحة لعدم الخوف من الفتة أما إن كان المرأة بالغة تُشتهى فإنه تجوز مصافحتها إذا أمن الخوف من الفتنة وانعدمت الشهوة، ولكن إذا أدت المصافحة إلى وجود الشهوة

(1/46)

والتلذذ من أحدهما أو خيفت الفتنة على أحد الطرفين حرمت المصافحة سدًّا للذرائع.

بل لو فقد هذان الشرطان أمن الفتنة وانعدام الشهوة بين الرجل ومحارمه بنسب أو رضاع أو مصاهرة لكانت المصافحة حينئذ حرامًا وينبغي الاقتصاد في المصافحة بين الرجل والمرأة على موضع الحاجة كالأقارب والأصهار الذين بينهم خلطة وصلة قوية، ولا ينبغي التوسع في ذلك أخذا بالأحوط وسدًّا للذريعة واتقاء للشبهة، واقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط، وأفضل للمسلم المتدين والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة، لكن إذا صوفح صافح، قال أحد الفقهاء: تكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص.

(1/47)

المعانقة والتقبيل:

العناق والمعانقة وتعانقا اعتنقا: إذا جعل أحدهما يده على عنق أخيه وضمه إلى نفسه.

ويكره أن يعانق المسلم أخاه وأن يقبله في رأسه، ولو كان صالحا لما أخرجه الترمذي عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل منا من يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: "لا"، قال الرجل: أفيلزمه -أي يعانقه ويقبله- قال: "لا"، قال الرجل: فيأخذه بيده يصافحه؟ قال: "نعم".

(1/47)

وعلى هذا فإذا التقى المسلم بأخيه المسلم فالسنة المصاحفة فقط مع ما يشاء من عبارات الترحيب والتسليم، أما المعانقة فلا تكون إلا لقادم من سفر.

بدليل ما أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- "إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا".

وإذا كان هذا حكم المعانقة بين الرجال فإنه ينسحب على المعانقة عند اللقاء بين المرأتين.

ويتأكد النهي إذا كان أمام الأجانب فإنه لا يجوز شرعًا؛ لأن فيه إثارة للأجنبي، وخضوعا لا يليق بالمرأة، والحياء كله خير.

ومن السنة تقبيل الولد الصغير ولو ولد غيره، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، كما يسن تقبيل يد الحي الصالح ونحوه من الأمور الدينية كعلم وشرف وزهد، ويكره ذلك لغناه ونحوه من الأمور الدنيوية كشوكته ووجاهته.

ومن السنة القيام لأهل الفضل من علم أو صلاح أو نحو ذلك إكراما لا رياء وتفخيما.

ويستدل على ذلك بأحاديث صحيحة ذكرها الإمام النووي في كتاب السلام من كتاب الأذكار فارجع إليها إن شئت.

(1/48)

الصفة الشرعية للخطبة والعدول عنها:

الصفة الشرعية للخطبة:

ليست الخطبة إلا مجرد وعد بالزواج، ومن ثم فإنها غير ملزمة لأحد الطرفين -الخاطب والمخطوبة؛ لأنها ليست عقدا وإنما هي وعد بالزواج، لذلك فإنها لا تبيح شرعا للخاطبين إلا النظر إلى مواضعه التي سبق الحديث عنها بشرط وجود محرم للمخطوبة؛ لأنها أجنبية عن الخاطب.

فإذا ما ترآى لأحد الطرفين عدم المضي في إتمام الزواج فإن له ذلك؛ لأن أمر الزواج له شأنه وخطره فيجب فيه التروي وعدم التسرع حتى لا يندم بعد فوات الأوان.

وما اعتاده الناس من تقديم ما يسمونه بالدبلة والشبكة، فإنه أمر لا يمنع منه الشرع طالما أنه لا يتنافى مع قواعده وأحكامه، وإن كان الشرع لا يلزم به إلا إذا كانت هناك اتفاق خاص نزولا على حكم العرف، وهذا موقف إسلامي عظيم.

فالخطبة ليست من قبيل التعاقد حتى لو اقترنت بقراءة الفاتحة وتقديم بعض الهدايا ودفع المهر، فلكل منهما حق العدول وإن كان الوفاء بالوعد أمر مستحب.

العدول عن الخطبة:

تعارف الناس فيما بينهم عند إعلان الخطبة أن يقرءوا الفاتحة تبركا للوعد بالزواج كما يصاحب، إعلان الخطبة أيضا تقديم الشبكة والهدايا

(1/49)

تعبيرا عن الجدية في الارتباط، وأحيانا يدفع المهر المتفق عليه كله أو بعضه استعدادا لتجهيز بيت الزوجية.

وربما يحدث بين الخاطبين مانعا يمنع من إتمام عملية الزواج فيعدل أحدهما أو كلاهما عن الخطبة.

فإذا ما حدث ذلك فلا يخلو الحال من أمرين:

أولهما: أن يكون سبب العدول هو موت أحد الخاطبين.

الثاني: ألا يكون سبب العدول الموت.

فإذا كان سبب العدول هو موت الزوج فلورثته الحق في استرداد جميع ما دفع من هدايا ونقود إن مات بعد الخطبة قبل العقد أو بعده وقبل الدخول، أما بعد الدخول فليس لهم الحق في استرداد ما قدم من قبل مورثهم؛ لأنها زوجة وليست مخطوبة.

وإن ماتت المخطوبة بعد إعلان الخطبة قبل العقد فمن حق الخاطب استرداد جميع ما قدمه للمخطوبة.

وإن ماتت بعد العقد قبل الدخول فليس من حق الخاطب أن يسترد شيئا مما قدم.

وإن كان سبب العدول ليس موت أحد الخاطبين فلا يخلو الحال من أمرين:

أولهما: ألا يكون قد صاحب الخطبة أو قراءة الفاتحة إيجاب وقبول وعدل أحد الخاطبين عنها، فإن كان قد دفع إليها المهر كله أو بعضه فله

(1/50)

استرداده؛ لأن المهر قد دفع نظير عقد لم يتم، أما ما قدم من شبكة وهدايا فله استرداده إلا ما هلك منها، ويحتكم في مثل هذه الأمور إلى العرف والاتفاق.

الثاني: أن يكون قد صاحب الخطبة وقراءة الفاتحة إيجاب وقبول بحضور شاهدين.

ففي هذه الحالة يعتبر عقد شرعي له آثاره الشرعية، فإن كان العدول من جهة المخطوبة بسبب من جهتها فعندئذ تجري بينهما صيغة الخلع لإبراء الزوج مما لها عليه ولا يأخذ منها أكثر مما أعطاها.

وإن كان العدل من جهة الخاطب بسبب من جهته ولم يكن قد سمى لها مهرا فلها المتعة تطيبا لخاطرها تقدر متعتها حسب حال الخاطب يسرًا وعسرًا وتوسطًا؛ لأن العدول هنا طلاق قبل الدخول، والله تعالى يقول: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} 1.

وإن كان قد سمى لها مهرا فلها نصفه لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 2.

وإنما لم يجب لها المهر كله ووجب لها نصفه؛ لأنها لم تسلم له البضع فكان لها النصف تطيبا لخاطرها. وفي كلتا الحالتين لا تجب عليها العدة

__________

1 من الآية 226 من سورة البقرة.

2 من الآية 227 من سورة البقرة.

(1/51)

لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} 1.

أما الشبكة والهدايا فمن حقه استرداد ذلك إلا إذا كان هناك شرط أو اتفاق على عدم الرد عند العدول عن الخِطْبة.

__________

1 الآية 49 من سورة الأحزاب.

(1/52)

ممن تخطب المراد خطبتها؟ :

تخطب البكر البالغة العاقلة الرشيدة من نفسها أو من وليها، أما الصغيرة فإنها تخطب وتزوج من وليها لا من نفسها؛ لعدم إدراكها ما فيه مصلحتها إن كانت بكرًا.

ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة -رضي الله عنها- من أبيها أبي بكر، فقال له أبو بكر -رضي الله عنه: إنما أنا أخوك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في دين الله وكتابه هي حلال لي".

ووجه الدلالة من الحديث هو إن خِطْبة الصغيرة البكر تكون من وليها كما دل كذلك على أن للأب تزويجها قبل البلوغ فعقد النبي -صلى الله عليه وسلم- على عائشة بعد خِطبتها من أبيها هي بنت ست سنين، ودخل بها بعد بلوغها وهي بنت تسع سنين.

وإن كانت الصغيرة ثيب عاقلة دون البلوغ فلا تزوج إلا بعد بلوغها وإذنها وبالتالي فإنها تخطب من نفسها أو وليها بعد بلوغها وإن كانت

(1/52)

مجنونة صغيرة كانت أم كبيرة فإنها تخطب من وليها، وإن كانت الثيب بالغة عاقلة فإنها تخطب من نفسها لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت: لما مات أبو سلمة أرسل إليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- يخطبني له" إلخ.

ووجه الدلالة من الحديث أن الثيب البالغة العاقلة إنما تخطب من نفسها؛ لأنها أحق بنفسها.

(1/53)

عقد النكاح:

تمهيد:

الترغيب في النكاح:

رغب الإسلام في النكاح فتارة يذكره ربنا -عز وجل- في تعداد النعم التي أنعم بها علينا حيث يقول: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 1.

وأحيانا يذكره على أنه آية من آياته فيقول -عز من قائل: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 2.

وتارة يذكره ربنا -جلال جلاله- على أنه سنة من سنن المرسلين، وأنهم في ذلك القدوة التي يجب علينا أن نهتدي بها فيقول -عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} 3.

وقد يحجم بعض الناس عن الزواج ويبتعدون عنه مخافة الوقوع في أعبائه، فيوجه الإسلام أنظارهم إلى أن النكاح سبب من أسباب الغنى المادي فيقول ربنا -جلال جلاله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4.

ويؤكد هذه الحقيقة القرآنية الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: فيما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه: "ثلاثة حق على الله عونهم؛ المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والنكاح يريد العفاف".

فالزوجة الصالحة سبب من أسباب خيري الدنيا والآخرة، روى الطبراني بسند جيد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أربع من أعطيهن فقد

__________

1 من الآية 72 من سورة النحل.

2 من الآية 21 من سورة الروم.

3 من الآية 38 من سورة الرعد.

4 من الآية 32 من سورة النور.

(1/54)

أعطي خير الدنيا والآخرة؛ قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وجسدا على البلاء صابرا، وزوجة صالحة لا تبغيه حوبا في نفسه وماله".

وروى مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة".

فهذا كله وغيره ترغيب في النكاح وحض عليه؛ لأنه عبادة يستكمل الإنسان به نصف دينه، مصداقا لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني".

تعريفه:

النكاح في اللغة: الضم والجمع، ومنه تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.

وشرعًا: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمت ذلك.

والعرب تستعمله بمعنى العقد والوطء جميعا فإذا قالوا: نكح فلانا فلانة أو بنت فلان أرادوا بذلك أنه تزوجها وعقد عليها وإذا قالوا: نكح زوجته أو امرأته أرادوا بذلك الوطء.

الحكمة من مشروعيته:

لقد رغبنا الإسلام في النكاح، وحببنا فيه على النحو الذي علمناه من خلال الكتاب والسنة لما في النكاح من آثار نافعة على النوع الإنساني عامة، وعلى الفرد نفسه وعلى الأمة أجمع، للحكم الشرعية التالية:

أولًا: لا تستمر الحياة البشرية إلا مع المحافظة على الأنساب التي اعتنى بها الإسلام عناية فائق، والزواج الشرعي هو أحسن سيلة لإنجاب الأولاد وتكثيبر النسل امتثالا لقوله -صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود والولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".

(1/55)

وفي هذا يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -يرحمه الله- وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة وجوه هي الأصل في الترغيب في النكاح:

الأول: موافقة محبة الله -عز وجل- في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.

الثاني: طلب محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تكثير من به مباهاته.

الثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده.

الرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله. ا. هـ.

ثانيا: النكاح المشروع أحسن سيلة لإشباع الغريزة الجنسية التي هي من أقوى الغرائز وأعنفها، فإذا ما سكنت سكنت النفس عن الصراع، وكف النظر عن محارم الله، واطمئنت العاطفة إلى ما أحل الله.

وإلى هذا كله يشير ربنا -جل جلاله- قائلا: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 1.

كما يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه".

ثالثا: التحصن من الشيطان وكسر التوقان ودفع غوائل الشهوة وغض البصر وحفظ الفرج، يرشدنا إلى هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "من نكح فقد حصن نصف دينه فليتق الله في الشطر الآخر".

رابعًا: الترويح عن النفس وإيناسها بالمجالسة، والنظر، والملاعبة، مما يكون سببا في إراحة القلب وتفريغه للعبادة.

__________

1 الآية 21 من سورة الروم.

(1/56)

فالنفس البشرية من طبعها الملل والنفور عن الحق؛ لأنه على خلاف طبعها، فلو كلفت المداومة، بالإكراه على ما يخالفها جمحت ونفرت، وإذا روحت بالذات في بعض الأوقات قويت ونشطت.

وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يريح القلب ويزيل الكرب وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات، لذلك يقول الحق -عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 1.

ويقول الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنها: روحوا القلوب ساعة فإنها إذا كرهت عميت.

خامسًا: تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكفل بشغل الطبخ والكنس وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب المعيشة.

فالرجل لو تكفل بجميع أعمال المنزل لضاع أكثر أوقاته، ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريقة.

وأخرج الترمذي وحسنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعين على الآخرة".

سادسًا: مجاهدة النفس بالقيام على حقوق الزوجة والصبر على أخلاقها، وتحمل الأذى منها والعمل على إصلاحها وإرشادها إلى طريق الله المستقيم، والاجتهاد في تحري الكسب الحلال لأجلها والقيام بتربية الأبناء كل هذه حكم سامية وأعمال عظيمة.

لأنه لا يستويمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط مع من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره. وفي الحديث المتفق عليه يقول -صلى الله عليه وسلم: "ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة، وإن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته".

__________

1 من الآية 189 من سورة الأعراف.

(1/57)

وعند ابن ماجه من حديث عمران بن حصين قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال".

وقال بعض السلف الصالح: إن من الذنوب ذنوبًا لا يكفرها وإلا الغم بالعيال، وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة".

وقد يشوب الزوجية بعض المتاعب بسبب الأولاد وأعباء الحياة الزوجية، ولكن الزوج يشعر مع هذا كله بالسعادة والطمأنينة وإشباع النفس في حين أن غير المتزوج غالبًا يشغر بفراغ في حياته ودلت الإحصائيات التي قام بها أحد الباحثين على أن عدد الذين يدخلون المستشفيات العقلية نسبتهم عادة أربعة من غير المتزوجين إلى واحد من المتزوجين، كما أن حوادث الانتحار بين غير المتزوجين أكثر منها بين المتزوجين وأن المتزوجين يتصفون عادة بالاتزان العقلي والخلقي وحياتهم هادئة ولا يشوبها الشذوذ والسويداء اللذان يتصف بهما عدد كثير من غير المتزوجين، وتوصلت الأبحاث العلمية إلى أن النساء المتزوجات مع ما يعانينه من متاعب الولادة والأمومة ومشاكل الحياة الزوجية والمنزل غالبا ما يعمرن أطول من زميلاتهن اللواتي يقضين حياتهن عانسات.

وأقول: إن ما توصلت إليه الأبحاث قد سبقهم فيه القرآن الكريم حيث يقوم ربنا -جل جلاله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 1 ويقول كذلك: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} 2.

فالسكن بين الزوجين كاف بإذن الله تعالى في حمايتهما من الأمراض وخصوصا العقلية منها.

__________

1 من الآية 189 من سورة الأعراف.

2 من الآية 21 من سورة الروم.

(1/58)

حكمه:

يطلق الحكم ويراد به أحد أمرين:

أولهما: حكمه بمعنى الوصف التكليفي له من وجوب وحرمه وغيرها من أقسام الحكم التكليفي.

الثاني: حكمه بمعنى الآثار المترتبة عليه.

والمقصود بالحكم هنا هو المعنى الأول: حكمه بمعنى الوصف التكليفي له.

فالأصل فيه الاستحباب ولكنه تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة على حسب حال الفرد وما هو الأنسب لحاله.

فتارة يكون واجبًا: وذلك في حالة ما إذا كان الشخص قادرا على أعباء النكاح المادية وتأكد له إن لم يتزوج وقع في الزنا المحرم.

ويكون حرامًا: إذا تأكد له ظلم الزوجة ماديا -بأن لا يستطيع الإنفاق عليها، ومعنويا -بألا تكن عنده القدرة على مجامعتها.

ويكون مكروها: إذا خشي أنه لا يستطيع الإنفاق ولا يقدر عليه إن تزوج ولا تميل نفسه إلى النكاح، أو كان حاله قبل الزواج أفضل منه بعده، وتشتد الكراهة إن انقطع بالزوج عن شيء من أفعال الطاعات كالعبادة والاشتغال بالعلم وغيرهما.

ويكون مندوبا: إذا حصل له بالزواج معنى مقصودا مما حث عليه الشرع كعفاف النفس وكسر الشهوة وغض البصر وتحصين الفرج.

ويكون مباحًا: إذا تحققت الحكمة التي ترغب فيه وانتفت كذلك الموانع التي تمنع منه.

فالنكاح تعتريه الأحكام التكليفية وذلك بالنظر إلى حال الشخص وظروفه الاجتماعية، والأخلاق السائدة، غير ذلك من العوامل المؤثرة في العفة واستقامة السلوك، إلا أنني أجزم بأنه واجب على كل قادر عليه في زماننا هذا حتى يعصم

(1/59)

المسلم نفسه من الوقوع في الحرام أو الاقتراب منه، فالمغريات تحيط بنا من الداخل والخارج إحاطة السوار بالمعصم، ولا ينج منها إلا من رحم الله -وهم قليل- ولا يكون ذلك إلا بتطبيق شرع الله في كل أمورنا، وعلى رأسها المبادرة إلى الزواج وإقامة الأسرة المسلمة التي تقدم للأمة العنصر الصالح الذي يعتز به الوطن.

لذلك نرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوجه الشباب القادرين على تكاليف النكاح وأعبائه المادية وغيرها لما فيه من حكم عظيمة من أهمها غض البصر، وحفظ الفرج، ويقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

والشباب: جمع شاب وهو اسم لمن بلغ لم يتجاوز الثلاثين من عمره.

وقيل: من تجاوز الثلاثين بقليل، وقيل: من بلغ الأربعين، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.

وخص الشباب بالذكر؛ لأن غالب قوة الشهوة فيهم غالبا بخلاف الشيوخ والكهول. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "من استطاع من الباءة" عام يشمل الشباب وغيرهم من كبار السن رجالا كانوا أم نساء من الذين تتوق نفوسهم إلى النكاح.

والباءة: التكاليف المادية للنكاح، وقيل: المراد بها الجماع.

دليل مشروعيته:

يستدل على مشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع:

أولا: من الكتاب

1- قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 1.

__________

1 من الآية 32 من سورة النور.

(1/60)

وجه الدالالة من هذه الآية الكريمة أن الحق -سبحانه وتعالى- أمر بتزويج من لا زوج له من الرجال والنساء ووعدهم المولى -عز وجل- بالغنى إذا هم طلبوا الزواج طمعا في رضاه واعتصاما من معاصيه، وهذا العون من الله -عز وجل- لمن يقصد الزواج لدليل على حث الشارع على النكاح، فدل ذلك على مشروعيته.

2- وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 1.

ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى بالنكاح "فانكحوا" وتعليقه ذلك على الاستطابة "ما طاب" فدل ذلك على مشروعيته.

ثانيا: من السنة

أن الباحث في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القولية والفعلية ليجد الكثير من الأدلة القاطعة الثابتة التي تدل على مشروعية النكاح.

فمن القولية قوله -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصم فإنه له جاء".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني". ومن السنن الفعلية أنه -صلى الله عليه وسلم- تزوج وزوج بناته.

فالنكاح سنة من سنن الأنبياء والمرسلين.

ثالثا: الإجماع

أجمعت الأمة على مشروعيته.

موضوع النكاح الشرعي:

لفقهاء المذهب في ذلك ثلاثة أوجه.

أصحها: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء وهو أقرب إلى الشرع، كما جاء في الكتاب والسنة.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/61)

الثاني: إنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وهو أقرب إلى اللغة.

الثالث: أنه حقيقة فيهما معًا.

ويترتب على هذا الخلاف في موضوع النكاح الشرعي أن الرجل إذا زنا بامرأة يكون الزنا مانعا للمصاهرة عند من يقول بأن النكاح حقيقة في الوطء لا في العقد، ولا يكون مانعا للمصاهرة عند من يقول بأنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء.

صفة عقد النكاح:

العقد اللازم هو ما ليس لأحد العاقدين فسخه دون رضا الآخر.

فهل عقد النكاح بعد انعقاده لازم أو لا؟

لا خلاف بين فقهاء المذهب في أن عقد النكاح لازم من جهة الزوجة فلا تستطيع إنهاءه بنفسها، وإنما تستطيع ذلك بحكم الشرع بأن تخالع زوجها برضاه، واختلفوا في لزوم عقد النكاح من جهة الزوج على وجهين.

أصحها: أنه لازم لا يستطيع إنهاء بنفسه وإنما بحكم الشرع بأن يطلق زوجته.

والثاني: أنه غير لازم.

هل النكاح عقد ملك أو إباحة؟

لفقهاءالمذهب في ذلك وجهان:

الوجه الاول: أنه عقد ملك.

الوجه الثاني: أنه عقد إباحة الاستمتاع المشروع بالمرأة وليس عقد ملك.

ولهذا الخلاف في المذهب ثمرة تظهر فيما لو أن زوجة وطئها غير زوجها وطئا بشبهة فإذا قلنا: إن النكاح عقد ملك كان المهر المدفوع من الواطئ بشبهة للزوج لا للزوجة وإذا قلنا: بأنه عقد إباحة كان المهر لها لا للزوج.

(1/62)

محل العقد:

هل المعقود عليه في النكاح المرأة فقط أو الزوجان معا؟

خلاف في المذهب على وجهين:

أصحهما: أن المعقود عليه المرأة فقط.

الثاني: أن الزوجين معقود عليهما.

(1/63)

تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية:

أشرق فجر الإسلام بشريعته السمحة على البشرية في القرن السابع الميلادي والعالم آنذاك يتنازعه اتجاهان في شأن تعدد الزوجات.

الاتجاه الأول: يحاربه ويمنعه.

والاتجاه الثاني: يؤيده ويبيحه بدون قيد ولا شرط.

فكانت نظرة الإسلام في ذلك نظرة ربانية كما هو شأنها في جميع الأحوال والأزمنة والأمكنة، نظرة وسطية فأباحت تعدد الزوجات إلى أربع فقط وحرمت الزيادة على ذلك بقيدين أساسين وهما:

القيد الأول: العدل الظاهري بين الزوجات في القسم والمبيت والمسكن والملبس والمطعم والمشرب، لقوله الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 1 ويقول الجصاص: فإن خاف ألا يعدل بين الأربع اقتصر على الثلاث، وإن خاف ألا يعدل بين الثلاث اقتصر على اثنين، وإن خاف أن لا يعدل بين الاثنين اقتصر على الواحدة.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/63)

ولا يدخل في العدل التسوية في الحب والعاطفة والميل القلبي؛ لأن هذا قد نفاه المولى -عز وجل- حيث قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 1.

ويقول -صلى الله عليه وسلم: $"اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".

القيد الثاني: القدرة على الإنفاق، لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} 2.

وهذا ليس قيدا عند التعدد فحسب، بل هو قيد سواء أكان يريد الزواج بواحدة أم أكثر.

يقول -صلى الله عليه سلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج".

والباءة: هي مؤن النكاح ونفقاته.

ويقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر وصار عالة ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} .

وقال الشافعي: ألا تعولوا: ألا تكثر عيالكم.

وأنكر الثعلبي ما قاله الشافعي قائلا: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله.

ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي بأنه قد سبق إلى القول به زيد بن أسلم وجابر وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية.

وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمرو الدوري وابن الأعرابي.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

2 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/64)

فإذا ما توفر هذان القيدان كان التعدد مباحا ولا حرج فيه، لكن إذا تخلفا أو أحدهما فهل النكاح صحيح أو غير صحيح؟

باتفاق الفقهاء النكاح صحيح؛ لأن هذين القيدين ليسا من شروط الصحة، ومن صم يصح النكاح عند فقدهما أو أحدهما مع الإثم.

وما ذهبت إليه الشريعة الإسلامية من إباحتها للتعدد بهذين القيدين وهو مسلك وسط بين الشرائع، فمن الشرائع ما أباحت التعدد بدون قيد في العدد ولا في الزواج، ومنها ما منعته مطلقا.

وإن مما لا شك فيه أن هذا المسلك من محاسن الشريعة الإسلامية التي تخاطب كل الأشخاص في كل العصر والأزمنة، فراعت ظروف المفرط في شهواته الذي لا تعفه الواحدة، كما راعت ظروف المعتدل في شهواته، وإننا إذا أغلقنا على المفرط في شهواته باب التعدد؛ لأدى به ذلك إلى السقوط في الهاوية، ولو خيرناه بين التعدد وبين الزنا لاختار الأول، هذا إذا كنا نريد أن نسير في هدى ونور.

بالإضافة إلى أن التعدد أحيانا يكون علاجا اجتماعيا للأمة حين يعتريها نقص في عدد رجالها بسبب الحروب التي تحصدهم وتنقص من عددهم ويصبح بذلك عدد النساء أكثر من عدد الرجال، كما حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الأخيرة.

أعندئذ تحرم المرأة من نعمة الزوجية والأمومة ونتركها تقع فريسة للفاحشة والرذيلة، أم أننا نحل مشكلتها بصورة شرعية تصون لها كرامتها وتجعلها تعيش في أسرة طاهرة ومجتمع سليم، أيهما أكرم وأفضل لدى من لديه عقل وكرامة.

لقد لجأت ألمانيا التي يحرم دينها التعدد إلى التعدد رغبة في حماية المرأة الألمانية من الوقوع في مهاوي الرذيلة وما ينتج عنها من كثرة اللقطاء.

ولم يكن التعدد ظلما للمرأة وشرا عليها دائما فقد تكون المرأة مريضة أو عقيم لا تلد، فيكون الزوج مخير بين أمرين بين فراقها، أو يستبقها مع الزواج والثاني فيه مصلحتها لا شك في ذلك فضلا عما فيه من عدالة اجتماعية في حد ذاته.

(1/65)

ومنذ عصر التشريع الإسلامي والمسلمون يعددون الزوجات كما أباحته ظواهر الشريعة الإسلامية ولم يجدوا في ذلك حرجا ولم يكن في الجماعة ظلم.

وعندما غزت بلاد الإسلام الأفكار الغربية الأوروبية التي لا تفهم معنى التعدد في الزواج وظنوا أن ذلك ظلما للمرأة وضياعا لحقوقها.

وتأثر بهذه الأفكار بعض المصلحين من أبناء الإسلام فنظروا إلى الآية الكريمة التي تبيح العدد فوجدوها تقيده بقيدين هما: العدل، والقدرة على الإنفاق، فجعلت هذين القيدين يخرحان من التكاليف الدينية التي بين العبد وربه إلى التطبيق القضائي فيمنع القاضي توثيق عقد الزواج لمن له زوجة إلا بعد التأكد من تحقق هذين القيدين.

ولا أدري من أين جاءوا بهذا، لقد أجمع المسلمون من عصر النبوة، على إباحة التعدد ولم يجعلوا هذين القيدين محل التطبيق كما دعا إلى ذلك هؤلاء، ولم يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أحدا من أصحابه منعا التعدد لعدم العدالة أو لعدم القدرة على الإنفاق.

هذا بالإضافة إلى أنه كيف يعرف القاضي أن من يريد التعدد سيعدل أو لا يعدل، وهذه حال لا يعرفها أشد الناس صلة بالزوج فضلا عن القاضي الذي تفرض عليه طبيعة عمله ألا يتصل بالخصوم اتصالا شخصيا.

ثم القدرة على الانفاق ما مناطها؟ أحالة الزوج أم الزوجة الجديدة، وإذا اعتبرت حالة ورضي هو بأن يضيق قليلا بعد سعة في سبيل ذلك الزواج وهي في جملتها تكفل العيش الضروري أيسوغ للقاضي أن يمنعه بحجة أنه يجب أن يعيش في رفاهية ويحرم من حلال.

ثم إن تدخل القاضي في التطبيق العلمي لهذين القيدين في حق من يريد الزواج بأخرى على زوجته يعتبر تدخلا في حرية التعاقد، وهذا لا يتفق مع مشرعي القوانين الحديثة.

(1/66)

وإذا كان ذلك كذلك إذن فما هو المسوغ لهذا التدخل؟

الجواب: زعموا أن كثيرا من حالات تشرد الأولاد سببه تعدد الزوجات مع عدم القدرة على الإنفاق.

وأقول: هذا زعم باطل، فلقد أثبتت الدراسات الاجتماعية العميقة أن سببه هو إهمال الأب في تربية النشء تربية دينية صالحة. وتعاطي المخدرات، ولعب المسير وغير ذلك من الأسباب ودلت الإحصائيات في الخمسينات أن نسبة التشرد الذي سببه تعدد الزوجات في مصر 3%.

كما أقول: إن علاج هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة ليس في التعدد وإنما علاجها في أمرين:

أولهما: معاقبة من يقصر في واجباته الشرعية نحو أسرته.

الثاني: تربية النشء تربية دينية وخلقية على مستوى البيت والمجتمع.

ويتبادر إلى أذهاننا سؤالا نسأله بصدق لمن ينادي بأن من حق القاضي أن يمنع من يريد التعدد عند عدم العدل أو عدم القدرة على الإنفاق، إذا منع القاضي ذلك فهل تنقطع العلاقة بين الرجل والمرأة اللذان استهوا كلاهما الآخر بمعنى القاضي ارتباطهما شرعيا بحجة عدم العدل أو عدم الإنفاق؟.

كلا وألف كلا فسرعان ما تحل بينهما كلمة الشيطان بدلا من كلمة الرحمن التي منعها سيادة القاضي بحكم القانون فيكون الفساد وكثرة اللقطاء، وما عاد الزوج إلى زوجته الأولى، وما عادت المرأة إلى أسرتها.

وإذا كان عندهما بعض من الوازع الديني تناكحا ما يسمونه بالنكاح العرفي فيوجد مجال لضياع بعض الحقوق.

(1/67)

أركان النكاح

الركن الأول: الصيغة

مدخل

...

أركان النكاح:

الركن في اللغة: الجانب الأقوى من كل شيء يقال: ركنت إلى الله أي اعتمدت عليه، والركن العز والمنعة، ومنه قوله تعالى: {أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 1.

والركن في الاصطلاح: ما تو قف عليه وجود الشيء وكان جزءا من ماهيته وداخلا فيه.

فالركن يخالف الشرط فهو داخل في ماهيته الشيء كالركوع بالنسبة للصلاة والشرط ما توقف الشيء على وجوده وليس جزءا منه كالضوء بالنسبة للصلاة.

وللنكاح أركان خمسة لا ينعقد إلا بها:

الصيغة، والولي، والزوج، والزوجة، والشاهدان:

الركن الأول: الصيغة

التي تتكون من الإيجاب والقبول.

والإيجاب: هو ما صدر من الولي زوجتك أو أنكحتك سواء حدث أولا أم ثانيا.

والقبول: وهو ما صدر من الزوج تزوجت أو نكحت، أو قبلت نكاحها أو تزويجها سواء صدر ذلك منه أولا أم ثانيا.

ولا يشترط توافق الولي والزوج في اللفظ، فلو قال الولي: زوجتك، فقال الزوج: قلبت نكاحها انعقد النكاح، ولا يكفي قول الزوج قبلت بل لا بد وأن يقول: قبلت نكاحها أو تزويجها.

ويصح تقديم لفظ الزوج على الولي لحصول المقصود كما يقول الزوج: تزوجت ابنتك، فيقول الولي: زوجتك.

__________

1 من الآية 80 من سورة هود.

(1/68)

الألفاظ التي ينعقد بها النكاح:

لا ينعقد النكاح إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج وما اشتق منهما فلا ينعقد بلفظ الهبة أو التمليك أو الإحلال.

لما رواه مسلم عن رسول لله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فرجهن بكلمة الله".

ووجه الدلالة من الحديث أن كلمة الله هي الإنكاح أو التزويج فلم يذكر في القرآن الكريم سواهما، فوجب الوقوف عليهما تعبدا واحتياطا.

هذا بالإضافة إلى أن النكاح نوع من أنواع العبادات لورود الندب به، العبادات تتلقى من الشرع، والشرع إنما ورد بالإنكاح أو التزويج.

(1/69)

انعقاد النكاح بغير العربية:

لفقهاء المذهب في انعقاد النكاح بغير اللغة العربية أوجه ثلاثة:

أولها: وهو الأصح: جواز انعقاده سواء أحسن النطق بالعربية أو لم يحسن؛ لأن لفظ النكاح بغير العربية يقوم مقام اللفظ بالعربية.

الثاني: لا يصح اعتبارا باللفظ الوارد في القرآن الكريم "الإنكاح والتزويج".

الثالث: إن عجز عن العربية انعقد بغيرها من اللغات وإن لم يعجز لم ينعقد. الكناية وانعقاد النكاح بها:

كني به عن كذا يكني يكنو كناية؛ تكلم بشيء وهو يريد غيره.

واتفق فقهاء المذهب أن النكاح لا ينعقد بلفظ يكنى به كأحللتك ابنتي، لعدم اطلاع الشهود على النية.

ومن الكنايات الكتابة في حال الحضور أو الغيبة فلا ينعقد بها النكاح، فلو قال الولي لغائب: زوجتك ابنتي، أو قال: زوجتها من فلان ثم كتب إليه فبلغ الزوج الكتاب، فقال: قبلت لم ينعقد بذلك النكاح.

(1/69)

الإشارة في عقد النكاح:

إذا كان العاقد للنكاح قادرا على النطق فلا ينعقد النكاح في حقه بالإشارة؛ لأن اللفظ أدل على المراد من الإشارة، أما الأخرس فلعجزه عن النطق يصح انعقاد النكاح، بإشارته بشرط أن تكون واضحة الدلالة على المراد يفهمها العاقد الآخر والشهود وذلك لأنها الوسيلة الوحيدة في حقه فبها يقضي جميع حاجياته.

(1/70)

شروط الصيغة:

يشترط في الصيغة التي تتكون من الإيجاب والقبول عشرة شروط:

1- ألا يتخلل الإيجاب والقبول كلام أجنبي عن العقد لا سكوت طويل يشعر بالإعراض عن العقد.

فإن فصل بينهما بخطبة النكاح كأن يقول الولي: زوجتك، فيقول الزوج: بسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله قبلت النكاح.

ففي انعقاد النكاح بذلك قولان:

أحدهما: ينعقد؛ لأن الخِطْبة مشروعة في العقد.

الثاني: لا ينعقد لوجود فاصل بين الإيجاب والقبول كما لو فصل بينهما بغير الخطبة.

2- موافقة الإيجاب للقبول:

فلو قال الولي: زوجتك ابنتي فاطمة البكر البالغة العاقلة، فقال الزوج: قبلت نكاح ابنتك زينب البالغة العاقلة الثيب فلا ينعقد النكاح؛ لأن الإيجاب على زوجة غير التي عليها القبول.

3- أن تكون الصيغة منجزة؛ لأن عقد النكاح عقد وضع ليفيد حكمه في الحال وتترتب عليه آثاره عقب انعقاده.

(1/70)

والتعليق نوعان: صوري، وحقيقي

أولا- التعليق الصوري:

كأن يعلق العقد على شيء موجود أثناء العقد بأن يقول الولي: زوجتك ابنتي إن كنت طبيبا، والزوج بالفعل طبيب، أو يقول الزوج قبلت نكاح ابنتك إن كانت مدرسة وهي بالفعل مدرسة.

فإن كان التعليق بهذه الصورة فإنه لا يؤثر في انعقاد العقد، وذلك لأنه لا يترتب على التعليق منع أي أثر من آثار العقد فتعليقه من حيث الصورة.

ثانيا- التعليق الحقيقي:

كأن يقول الولي للزوج: زوجتك ابنتي إذا حضر أبوك من السفر، أو يقول الزوج: تزوجت ابنتك إذا حضر أبي من السفر.

فلا ينعقد العقد أبدا؛ لأن المعلق على غير موجود لا يكون موجودا كذلك.

4- أن تكون الصيغة على التأبيد لا على التأقيت بمدة معلومة كشهر أو سنة، أو مجهولة كقدوم زيد.

فإن أوقت بوقت معلوم أو مجهول كان نكاح المتعة الذي حرمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام خيبر بعدما أن كان مباحا، وفي ذلك يقول إمامنا الشافعي -يرحمه الله: "لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة".

5- ألا يكون العقد مضافا إلى زمن مستقبل.

كأن يقول الولي: زوجتك ابنتي في شهر ربيع الأول وهما في رمضان، أو يقول الزوج تزوجت ابنتك في شهر الله المحرم وهما في رمضان.

فلا ينعقد النكاح إذا أضيف إلى زمن المستقبل؛ لأن الإضافة تتنافى مع آثار العقد التي تترتب عليه في الحال.

6- ألا تقترن الصيغة بشرط.

والشرط الذي تقترن به صيغة عقد النكاح، إما أن يكون من مقتضيات العقد، أو يكون منافيا له، أو يكون شرطا نهى عنه الشرع، أو شرط يعود نفعه على المرأة

(1/71)

ولكل شرط من هذه الشروط التي تقترن بالصيغة حكمه الخاص به نوضحه فيما يلي:

الشروط التي يجب الوفاء بها:

وهي كل شرط من مقتضيات العقد ومقاصده ولم يتضمن مخالفة لشرع الله أو ارتكاب محظور حرمه الإسلام، كاشتراط معاشرة الزوجة بالمعروف، أو يقسم لها كغيرها من الزوجات أو أنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه، أو لا تصوم إلا بإذنه، أو لا تتصرف في شيء من ماله إلا بإذنه.

فمثل هذه الشروط يجب الوفاء بها لقوله -صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا".

الشروط التي لا يجب الوفاء بها مع صحة العقد:

وهي كل ما كان منافيا لمقتضى العقد كأن يشترط الزوج عليها أن لا مهر لها ولا نفقه ولا يطأها أو يطأها ويعزل عنها، أو اشترط أن تنفق هي عليه، أو تشترط المرأة ما يعود نفعه وفائدته إليها كأن تشترط عليه ألا يخرجها من بلدها أو بيت أبيها، أو لا يتزوج عليها أو لا يسافر بها، فمثل هذه الشروط باطلة لا يجب الوفاء بها؛ لأنها تنافي العقد حيث إنها تتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده، أما العقد في نفسه فهو صحيح؛ وذلك لأن هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد لا يشترط ذكره ولا يضر الجهل به، فلم يبطل العقد قياسا على من عقد واشترط في العقد صداقا محرما كالخمر أو الخنزير، ولأن الزوج يصح مع الجهل بالعقد فجاز أن ينعقد مع الشرط والفاسد.

الشروط التي لا يجب الوفاء بها وتؤدي إلى فساد العقد:

وهي كل شرط نهى عنه الشرع وحرمه وحرم الوفاء به كأن تشترط المرأة عند العقد عليها طلاق ضرتها.

(1/72)

لما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن تشترط المرأة طلاق ضرتها" لما رواه الإمام أحمد عن عبد لله بن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى".

ووجه الدلالة: أن نهي النبي صلى الله وسلم يقضي فساد المنهي عنه، ولأنه اشترطت عليه فسخ عقده وإبطال حقه وحق امرأته فلم يصح.

والفرق بين اشتراط المرأة عدم الزواج عليها الذي لا يجب الوفاء به ويصح معه العقد، وبين اشتراطها طلاق ضرتها الذي لا يجب الوفاء به ويبطل معه العقد وهو أن اشتراط طلاق الزوجة فيه إضرار بها لما فيه من كسر لقلبها وخراب بيتها وشماتة أعدائها ولا ضرر لا ضرار.

ومن صور الزواج المقترن بشرط غير صحيح زواج الشغار وصورته أن يزوج الرجل وليته لآخر على أن يزوجه الآخر وليته ولا صداق بينهما وقد كان هذا مشهورا في الجاهلية.

وقد نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه سلم- فقال فيما رواه مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما: "لا شغار في الإسلام".

وروى ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الشغار، الشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي وليس بينهما صداق.

ووجه الدلالة هو نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشغار والنهي يقتضي البطلان واختلف العلماء في علة النهي، فقال بعضهم: هي التعليق والتوقيف، كأنه يقول لا ينعقد زواج ابنتي حتى ينعقد زواج ابنتك، وقال البعض الآخر: إن علة النهي هي التشريك في البضع، جعل بضع كل واحدة مهرا للأخرى وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر بل عاد المهر إلى الولي وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم بين وواضح للمرأتين وإخلاء نكاحها من مهر تنتفع به.

(1/73)

7- اتحاد المجلس.

فلو أجاب في مجلس، وقبل الزوج في مجلس آخر فلا ينعقد النكاح لعدم اتحاد المجلس.

8- ألا يرجع الموجب عن إيجابه قبل قبول الآخر، ولا يصدر من القابل ما يدل على الإعراض عن القبول.

9- أن يبقي العاقد على صفة الكمال حتى يوجد القبول.

فلو أوجب الموجب ثم مات أو جُن أو أغمي عليه أو رجعت الآذنة أو أغمي عليها أو جُنت أو ارتدت امتنع القبول.

10- أن يكون الإيجاب والقبول بلفظين وضعا للماضي، أو وضع أحدهما للماضي والآخر للمستقبل.

الصيغة التي ينعقد بها العقد لا يخلو حالها من أحوال ثلاثة:

الحال الأولى: أن تعقد بلفظ الماضي.

الحال الثانية: أن تعقد بلفظ المستقبل.

الحال الثالثة: أن تعقد بلفظ الأمر.

الحال الأولى: أن يعقد الموجب والقابل بلفظ الماضي فضربان

أحدهما: أن يعقداه بالبذل والقبول، بأن يقول الولي: قد زوجتك ابنتي على صداق قدره ثلاث آلاف جنيه مثلا، فيقبل الزوج قد قبلت نكاحها على هذا الصداق، أو يقول: قبلت نكاحها ولا يذكر الصداق، ففي الصورتين ينعقد النكاح باتفاق فقهاء المذهب.

أما إذا قال: قد قبلت ويسكت ولا يذكر النكاح ولا الصداق ففي انعقاد النكاح بذلك قولان:

القول الأول: لا ينعقد النكاح بذلك؛ لأنه لم يوجد منه التصريح، بواحد من لفظي النكاح والتزويج، ونيته لا تكفي في الانعقاد.

(1/74)

القول الثاني: ينعقد العقد

لأن قوله قبلت إنما هو جواب للبذل الصريح وجواب الصريح يكون صريحا، ولأن البذل والقبول معتبر في النكاح كاعتباره في البيع.

الضرب الثاني: أن يعقداه بالطلب والإيجاب.

وهو أن يبدأ الزوج فيقول للولي: زوجني ابنتك على صداق ألف جنيه مثلا، فيقول الولي: قد زوجتكها على هذا الصداق، أو يقول: قد زوجكتها ويسكت ولا يذكر الصداق، ففي الصورتين ينعقد العقد أما إذا قال الولي: قد فعلت، أو قد أجبتك، ولا يقول: قد زوجتكها فلا ينعقد النكاح باتفاق في المذهب؛ لأن الولي هو المملك لبضع المنكوحة فكان الاعتبار الصريح في لفظه أساس في انعقاد العقد ولا ينعقد العقد بدونه.

أما إذا ابتدأ الولي فقال: زوجت بنتي على زواج ألف جنيه مثلا فقال الزوج: قد تزوجتها على هذا الصداق لم يصح العقد إلا إذا عاد الولي فيقول: قد زوجتكها.

ذلك لأن قول الولي في الابتداء: زوجت بنتي ليس ببذل منه ولا إجابة، وإنما هو استخبار، والنكاح لا ينعقد من جهة الولي إلا بالبذل إن كان مبتدأ أو بالإيجاب إن كان مجيبا، فإذا كان كذلك صار ما ابتدأ به الولي استخبارا غير مؤثر في العقد، ويكون جواب الزوج طلبا فكان واجبا على الولي أن يعود فيقول: قد زوجتكها، فعندئذ يصير النكاح منعقد بالطلب من الزوج وبالإيجاب من الولي.

وهكذا لو ابتدأ الزوج فقال للولي: زوجتني ابنتك، فقال الولي: قد زوجكتها لم ينعقد العقد؛ لأن ما ابتدأ به الزوج استخبار، والعقد لا يتم من قبل الزوج إلا بالطلب إن كان مبتدأ أو بالقبول إن كان مجيبا وليس استخباره طلبا ولا قبول، فإن عاد الزوج بعد قول الولي: قد زوجتها، وقال -أي الزوج- قد قبلت تزويجها صح العقد حينئذ بالبذل من الولي، وبالقبول من الزوج.

(1/75)

الحال الثانية: أن تعقد الصيغة بلفظ المستقبل من الولي والزوج.

كأن يقول الولي: أزوجك بنتي، فيقول الزوج: أتزوجها.

أو يقول الزوج: أتزوج ابنتك، فيقول الولي، أزوجها، فلا ينعقد النكاح في الصورتين بقوليهما؛ لأن كلاهما مجرد وعد بالنكاح وليس بنكاح.

إلا إذا عاد الولي فقال: قد زوجتكها وقال الزوج: قد تزوجتها، فينعقد بالبذل من الولي وبالقبول من الزوج.

وكذلك لو قال الولي للزوج: أأزوجك بنتي؟ فقال الزوج: أأتزويج ابنتك؟ لا ينعقد العقد؛ لأنه استفهام للوعد فكان أضعف منه.

إلا إذا عقب الولي بالبذل فقال: زوجتك بنتي، وعقب الزوج بالقبول: قد تزوجتها.

الحال الثالثة: أن يعقد بلفظ الأمر

وهو أن يقول الولي للزوج آمرا: تزوج ابنتي فيقول الزوج: قد تزوجتها فلا يصح العقد إلا إذا عقب الولي على كلام الزوج قائلا: قد تزوجكتها.

ولو بدأ بالزوج فقال للولي: زوجني ابنتك، فقال الولي: قد زوجتكها صح العقد ولسنا بحاجة أن يعقب الزوج بالقبول.

والفرق بين الصورتين أن المراعى من جهة الولي البذل إن كان مبتدأ، والإيجاب إن كان موجبا، وليس في أمره بذل ولا إيجاب فلم يصح العقد.

والمراعى من جهة الزوج الطلب إن كان مبتدأ، والقبول إن أجاب، وأمره تضمن الطلب وإن لم يتضمن القبول فصح به العقد وتم بالطلب منه وبالإيجاب من الولي، فإذا استوفيت صيغة العقد هذه الشروط فقد انعقد العقد وترتبت عليه آثاره الشرعية، ولا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط.

لأن الخيار موضوع لاستدراك المعاينة في المفاوضات، وليس النكاح منها، لجوازه مع الإخلال بذكر العوض من الصداق فإن اشترط فيه خيار الثلاث أبطله باتفاق المذهب.

(1/76)

آداب عقد النكاح

الخطبة قبل العقد

...

آداب العقد:

بمناسبة الحديث عن الصيغة التي هي أهم ركن من أركان عقد النكاح واستكمالا للفائدة نذكرآداب العقد أي الأمور المسنونة عند إنشائه طامعين في الالتزام بها إن استطعنا إلى ذلك سبيلا إحياء لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أمرنا الله تعالى بطاعته وجعل طاعته طاعة لله فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 1.

ومن أهم آداب عقد النكاح ما يلي:

أ- الخطبة قبل العقد.

والأفضل أن يخطب خطبة الحاجة والتي نصها: إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن الله إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 3.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 4.

__________

1 من الآية 80 من سورة النساء.

2 الآية 102 من سورة آل عمران.

3 من الآية 1 من سورة النساء.

4 الآية 70، 71 من سورة الأحزاب.

(1/77)

وزاد بعض فقهاء المذهب أن يقول بعد هذه الخطبة: أما بعد: فإن الأمور كلها بيد الله يقضي فيها ما يشاء ويحكم ما يريد، لا مؤخر لما قدم، ولا مقدم لما أخر، ولا يجتمع اثنان لا يفترقان إلا بقضاء الله وقدره وكتاب قد سبق، وإن مما قضى الله وقدر أن يخطب فلان بن فلان، فلانة بنت فلان على صداق كذا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم أجمعين.

ولو خطب الولي أوجب قائلا: الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجتك ابنتي، فقال الزوج قبل قبوله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله -صلى الله عليه وسلم- قبلت زواج ابنتك انعقد العقد على الصحيح في المذهب؛ لأن الخطبة بين لفظيهما من مصالح العقد فلا تقطع المولاة كالإقامة بين صلاتي الجمع.

والثاني: لا يصح العقد؛ لأن الفاصل ليس منه.

والحكمة من مشروعية الخطبة: قبل العقد هي: أن العرب في الجاهلية كانوا يحرصون عليها لذكر مفاخر قومهم، وليتميز بها النكاح عن السفاح؛ لأن الخطبة مبناها على التشهير وجعل الشيء بمسمع ومرأى من الجميع.

هذا بالإضافة إلى أن الخطبة لا تستعمل إلا في الأمور المهمة، والاهتمام بالنكاح وجعله أمرًا عظيمًا بينهم من أعظم المقاصد، لذلك أبقى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلها وغير وصفها فشرع فيها أنواعا من الحمد والاستعانة بالله -عز وجل- والاستغفار التعوذ والتوكل والتشهد وآيات من القرآن الكريم، وأشار إلى ذلك كله فقال -صلى الله عليه وسلم: "كل خُطبة ليس فيها تشهد فيه كاليد الجذماء".

وقال: "كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله -عز وجل- فهو أجذم".

وقال: "فصل ما بين الحلال والحرام، الصوت والدف في النكاح".

(1/78)

ب- الدعاء بعد العقد:

لما روي عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: تزوجني النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتتني أمي أفدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. وراه البخاري.

وكذلك روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفأ الإنسان أي إذا تزوج، قال له النبي: "بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير".

(1/79)

ج- إعلان الزواج وإشهاره:

وذلك بأن يحضر العقد جمع من أهل الصلاح بالإضافة إلى الشاهدين اللذين هما ركنان لصحة العقد.

بشرط ألا يصحب الإشهار محظور نهى عنه الشرع كاختلاط الرجال بالنساء أو شرب الخمر أو ما اعتاده الناس اليوم من إحضار ما يسمونه بالفرقة الموسيقية ذات الآلات المزعجة مع مكبرات الأصوات مما يكون سببا في الإزعاج وزيادة الضوضاء، ويزداد الطين بلة إذا كان ضمن هذه الفرقة راقصة فاجرة ترقص أمام الشباب غيرهم من الحاضرين شبه عارية مع يتضمنه الغناء من فحش وفجور، وكل ذلك إسراف تبذير حرمه الإسلام.

فلنتق الله في ديننا وليقتصر الإشهار والإعلان على ما أرشدنا إليه النبي الكريم -صلى الله عليه سلم- حين قال -فيما رواه أحمد والترمذي وحسنه: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف".

ولا شك أن من جعل النكاح في المسجد أبلغ في إشهاره وإعلانه؛ إذ إن المساجد هي المجامع العامة للناس.

وكذلك روى الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف" ومما أباحه الإسلام

(1/79)

ورغب فيه الغناء عند العقد لإشهاره وترويحا للنفوس وتنشيطا لها باللهو البريء الذي يخلو من فحش القول والخلاعة والميوعة.

روى النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد -رضي الله عنه- قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوارٍ يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أهل بدر يفعل هذا عندكما؟! فقالا: إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب قد رخص لنا في اللهو عند العرس.

وروى البخاري وأحمد وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: زفت الفارعة بنت أسعد وسرت معها في زفافها إلى بيت زوجها نبيط بن جابر الأنصاري، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".

وفي رواية أخرى قال: "فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ "

قالت عائشة: تقول ماذا يا رسول الله؟

قال: تقول:

أتيانكم أتيانكم ... فحيونا نحييكم

ولولا الذهب الأحمر ... ما حلت بواديكم

ولولا الحنطة السمراء ... ما سمنت عذاريكم

(1/80)

د- أن ينوي الزوج بالنكاح إقامة السنة:

وغض البصر، وحفظ الفرج، وطلب الولد.

ولا يكون القصد منه مجرد الهوى والتمتع فحسب، فيصير عمله من أعمال الدنيا، لا يمنع ذلك هذه النيات فرب حق يوافق الهوى، قال عمر بن عبد العزيز -يرحمه الله: إذا وافق الحق الهوى الزبد بالنرسيان.

والمعنى إذا وافق الحق هوى الإنسان تلذذ به كمن يتلذبب بأكل الزبدة مع التمر.

(1/80)

هـ- وصية الزوجة:

مستحب أن توصي الزوجة قبل زفافها لبيت الزوجية بالوصايا التي من شأنها إسعادها مع زوجها.

يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا زفوا امرأة على زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقوقه.

وأوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابنته، فقال: إياك والغيرى، فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب، فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء.

(1/81)

و الوليمة:

تعريفها:

مأخوذة من الولم، وهو الجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان، وفي الاصطلاح: الطعام في العرس خاصة.

حكمها ودليلها:

يروى في أحد القولين في المذهب أنها سنة مؤكدة؛ لثبوتها عنه -صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا، ففي صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- أولم على بعض نسائه بمدين من شعير، وأنه أولم على صفية بتمر وسمن وأقط.

كما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: "أولم ولو بشاه".

وفي القول الثاني إنها واجبة وجوبا عينيا على المتزوج.

لما رواه الطبراني مرفوعا "الوليمة حق".

وفي مسند الإمام أحمد من حديث بريدة قال: لما خطب علي بن أبي طالب فاطمة رضي الله عنها قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنه لا بد للعرس من وليمة".

ووجه الدلالة: أن قوله -صلى الله عليه وسلم- حق وقوله لا بد للعرس من وليمة يدلان على الوجوب.

ويجاب عن ذلك بأنه ليس المراد بالحق الوجوب بل المراد به أنها ليست بباطل ولكن يندب إليها.

والراجح القول: بأنها سنة مؤكدة قياسا على الأضحية وسائر الولائم، ولو كان الأمر الوجوب لوجبت وهي لا تجب إجماعا ولا عينا ولا كفاية.

(1/83)

ما يجزئ في الوليمة:

أقلها للقادر الموسر شاة، ولغيره ما قدر عليه، وبأي شيء أولم من الطعام جاز وهو يشمل المأكول والمشروب ويشمل الذي يقدم للمدعوين حال العقد أو بعده من مشروب أو غيره.

الإجابة عليها، علمنا أن الوليمة سنة مؤكدة في أحد القولين، وفي القول الثاني واجبة وجوبا عينيا، فعلى القول بأنها سنة مؤكدة لفقهاء المذاهب في حكم الإجابة عليها أوجه ثلاثة:

أولها: أن الإجابة فرض عين لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "إذا دعي أحد إلى الوليمة فليأتها" وفي صحيح مسلم يقول -صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء؛ ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".

ووجه الدلالة: هو أن قوله -صلى الله عليه وسلم: "فليأتها" أمر والأمر للوجوب ما لم تكن هناك قرينة صارفة إلى غيره.

وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الثاني "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" دليل على وجوب الدعوة؛ لأن العصيان لا يكون إلا ترك الواجب.

الوجه الثاني: الإجابة عليها: فرض كفاية.

لأن المقصود إظهار النكاح وإعلانه وتميزه عن السفاح وذلك يحصل بحضور البعض.

الوجه الثالث: الإجابة عليها سنة.

لأن الأمر بحضورها والإجابة عليها محمول على تأكيد الاستحباب.

وعلى القول الثاني القائل بموجبها وجوبا عينيا تكون الإجابة عليها واجبة قطعا وقت الوليمة.

(1/84)

ووقت الوليمة: عند إنشاء العقد أو بعده، أو عند الدخول أو بعده، فالأمر فيه سعة حسبما تعارف أهل كل زمان ومكان.

وشروط وجوب الدعوة:

إذا كانت الإجابة واجبة على ما ذكر في المذهب فلوجوبها شروط تعتبر في الداعي، وشروط تعتبر في المدعو.

فأما الشروط المعتبرة في الداعي فعشرة:

أن يكون بالغا يصح منه الإذن والتصرف في ماله، فإن كان غير بالغ لم تلزم إجابته.

أن يكون عاقلا؛ لأن المجنون أسوأ حالا من الصغير.

أن يكون رشيدا يجوز تصرفه في ماله، فإن كان محجورًا عليه لم تلزم إجابته، حتى ولو أذن له وليه؛ لأنه مأمور بحفظ ماله لابإتلافه.

أن يكون حرًّا؛ لأن العبد لا يجوز تصرفه فلم تلزم إجابته إلا إذا أذن له سيده في ذلك فإنه عندئذ يكون كالحر تلزم إجابته.

أن يكون مسلما تلزم موالاته في الدين، فإن كان الداعي ذميا والمدعو مسلم ففي لزوم إجابته وجهان.

أحدهما: يجب أن يجيب دعوته لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا الداعي فإنه ملهوف".

والوجه الثاني: لا تلتزم إجابته؛ لأنه ربما كان طعامه مستخبثا محرما، ولأن المقصود بالطعام التواصل به واختلاف الدين يمنع من تواصلهما.

وإن كان الداعي مسلم والمدعو ذميا، لا تلزم إجابة الذمي قولًا واحدًا؛ لأنه لا يلتزم أحكام شرعنا إلا عن تراض.

أن يصرح بالدعوة إما بالقول أو بالمراسلة أو المكاتبة لتعارف الناس على ذلك.

أما أن يقول لمن يدعوه: إن شئت أن تحضر فافعل، لم تلزم إجابة الدعوة.

(1/85)

يقول إمامنا الشافعي -يرحمه الله: "وما أحب أن يجيب".

ألا يكون الداعي امرأة أجنبية وليس في موضع الدعوة محرم لها ولا للمدعو وإن لم يخل بها

ألا يخص الداعي بدعوته الأغنياء لغناهم دون الفقراء.

لقوله -صلى الله عليه سلم- فيما أخرجه مسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء".

بل يعم بدعوته الأغنياء والفقراء من أهله وعشريته وجيرانه.

وأن يكون قصد الداعي بدعوته التودد والتقرب وليس مقصده الخوف منه إن لم يدعوه أو يدعوه طمعا في جاهه أو إعانته على باطل.

أن تكون دعوة الداعي لمن يدعوه في اليوم الأول، فإن أولم ثلاثة أيام أو أكثر لم تجب إجابته في اليوم الثاني قطعا بل تسن فيه وتكره في اليوم الثالث وفيما بعده.

لما رواه أبو داود وغيره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوليمة في اليوم الأول حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة".

إلا إذا لم يكن في مقدور الداعي استيعاب من يريد دعوتهم في اليوم الأول لكثرتهم، أو لضيق منزله، أو غيرهما وجبت إجابته؛ لأن ذلك كوليمة واحدة دُعي الناس إليها أفواجها في يوم واحد.

ولو أولم في يوم واحد مرتين لغير عذر مما سبق ذكره، فالمرة الثانية كاليوم الثاني لا تجب إجابتها.

وأما الشروط المعتبرة في المدعو فتسعة:

أن يكون بالغا عاقلا حرا.

أن يكون مسلما فإن كان ذميا فلا تلزمه الإجابة.

ألا يكون هناك عذر يمنعه من مرض وغيره، فلو كان معذورا أو كان الطريق بعيدا تلحقه المشقة فلا بأس بتخلفه.

(1/86)

ألا يكون هناك ما يتأذى المدعو بحضور كمنكر وغيره.

ألا يكون قاضيا، فإن كان كذلك لا تجب إجابته.

ألا يسبق الداعي غيره بالدعوة، فلو دعا اثنان شخصا في يوم واحد فإن قدر على الحضور إليهما لزمته إجابتهما وإن لم يقدر أجاب دعوة الأسبق منهما.

فإن جاء الداعيان معا لزم على المدعو إجابة الأقرب جوارا، فإن استويا في الجوار أجاب أقربهما رحما، فإن استويا في القرابة أقرع بينهما.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا دعاك اثنان فأجب أقربهما بابا، فإن استويا فأقربهما جوارًا، فإن جاء معا فأجب أسبقهما".

ألا يدعوه من أكثر ماله حرام، فإن علم المدعو أن عين الطعام الوليمة حرام حرمت عليه الإجابة، وإن لم يعلم فإجابته للدعوة مباحة.

إن كان صائما أجاب الدعوة ودعا للداعي بالبركة وانصرف لما رواه الشافعي -رحمه الله- قال دُعِيَ ابن عمر -رضي الله عنهما- فجلس ووضع الطعام فمد يده وقال: خذوا باسم الله ثم قبض يده، وقال: إني صائم.

فالصوم ليس عذرا في التأخير، لما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دُعي أحدكم إلى وليمة فليجب فإن كان مفطرًا فليأكل، وإن كان صائما فليدع، وليقل: إني صائم".

ولأن المقصود من حضوره التواصل، والصوم لا يمنع من ذلك.

فإذا حضر الصائم وكان صومه فرضا لم يفطر ويدعو بالبركة وليقل: إني صائم وإن شاء أقام حتى الإفطار، وإن شاء انصرف.

وإن كان صومه تطوعا فيستحب له أن يأكل ويفطر، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فإن كان تطوعا فليفطر وإلا فليصل".

لأنه في عبادة فلا تلزمه مفارقتها.

(1/87)

وأحب أمامنا الشافعي -رحمه الله- له الإفطار، فقال: "وإن كان المدعو صائما أجاب الدعوة وترك وانصرف وليس بحتم أن يأكل وأحب لو فعل".

إن كان المدعو مفطرًا وأجاب الدعوة فهل يجب عليه الأكل أو لا؟

لفقهاء المذهب في ذلك أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: يجب عليه الأكل؛ لأنه مقصود الحضور ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليدع، وليقل: إني صائم".

ووجه الدلالة أن قوله -صلى الله عليه وسلم: "فليأكل" أمر بالأكل والأمر للوجوب.

الوجه الثاني: لا يجب عليه الأكل بل هو بالخيار إن شاء أكل وإلا فلا، لما رواه جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فإن شاء طعم، وإن شاء ترك".

الوجه الثالث: أن الأكل فرض كفاية إذا أكل بعض الحاضرين كفى عن الجميع وإن لم يأكل الجميع أثموا لما في امتناعهم عن الأكل من كسر لنفس الداعي وإفساد طعامه.

الآداب التي يجب على المدعو الالتزام بها عند إجابته للدعوة.

إذا أجاب المدعو دعوة من دعاه على وليمة العرس وجب عليه أن يلتزم بالآداب الآتية:

1- أن يأكل مما قدم له وإن لم يأذن له الداعي اكتفاء بالقرينة العرفية، إلا إذا كان ينتظر حضور غيره فلا يأكل إلا بإذن لفظا أو بحضور الغير.

2- أن يأكل إلى حد الشبع أو دونه وتحرم عليه الزيادة على الشبع لما فيه من الإضرار به ولمخالفة العادة.

3- ليس له أن يأخذ ما يأكل منه ليحمله إلى منزله، ولا أن يعطيه لغيره، ولا أن يبيعه؛ لأن الأكل هو المأذون فيه دون غيره.

(1/88)

4- إذا جلس على الطعام ليس عليه أن يطعم غيره منه، فإن فعل وكان الذي أطعمه من المدعوين لم يضمن، وإن كان من غير المدعوين ضمن.

5- ليس من حقه أن يصطحب إلى الطعام من لم يدعه صاحب الوليمة، فإن أحضر معه غيره فقد أساء.

6- يستحب أن يستعمل الآكل آداب الأكل المسنونة، من غسل اليدين قبل الأكل وبعده، والتسمية قبل الأكل والحمد لله بعده، وأن يأكل مما يليه.

7- إن كان في الوليمة معصية من مسكر أو خمر أو ما أشبه ذلك من المعاصي الظاهرة نهاهم عنها فإن انتهوا جلس وإلا انصرف.

النثار:

النثار: بضم النون أو كسرها: اسم لما يُنْثر في النكاح أو غيره ومما اعتاداه الناس عند النكاح أو غيره من المناسبات السعيدة كالولادة أو الختان أن ينثيروا على رءوس الحاضرين قطع من السكر أو الجوز أو اللوز أو الحلوى أو غير ذلك.

ولفقهاء المذهب في حكمه وجهان:

أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي -يرحمه الله- اختاره جمهور الأصحاب أنه مكروه وتركه أولى من فعله لعدة أمور:

1- أنه قد يوقع بين الحاضرين تناهبا وتنافر وما أدى إلى ذلك فهو مكروه.

2- أنه قد لا يتساوى الناس فيه وربما حاز بعضهم أكثره ولم يصل إلى الآخرين شيء منه فتنافسوا.

3- أنه قد يلجا الناس فيه إلى إسقاط المروءات إن أخذوا أو يتسلط عليهم السفهاء إن أمسكوا.

وقد كانت الصحابة -رضي الله عنهم- والرسول -صلى الله عليه وسلم- أحفظ للمروءات وأبعد للتنازع والتنافس.

(1/89)

فلذلك يكره النيثار بعدهم، وإن لم يكره في زمانهم، وعادة أهل المروءات في وقتنا أن يقتسموا ذلك بين من أرادوا أو يحملوا إلى منازلهم فيخرج بذلك عن حكم النثير إلى حكم الهدايا.

الوجه الثاني: أنه مباح ليس بمستحب ولا مكروه وفعله وتركه سواء، اعتبارا بالفعل الجاري.

التقاطه:

لفقهاء المذهب في حكم التقاط النثر وجهان:

الوجه الأول: أنه مكروه.

الثاني: أنه ليس بمكروه إذا كان الملتقط مدعوا كما لا يكره أكل طعام الوليمة للمدعو.

(1/90)

الركن الثاني: الزوج

ويشترط في الزوج الذي يكون أهلا لإنشاء العقد شروط ستة:

أولها: أن يكون مكلفا -أي بالغا عاقلا.

فالصبي والمجنون ليسا أهلا لإنشاء العقد؛ لأنهما لا ولاية لهما على نفسيهما. ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة؛ عن الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ".

وإنما يزوج الصغير العاقل الأب إن علا، ولا يصح تزويج الوصي أو القاضي له؛ لعدم الحاجة وانتفاء كمال الشفقة هذا هو الصواب الذي صرح به جمهور فقهاء المذهب.

وقيل: يزوجه الوصي والحاكم كالأب، وضعف هذا الإمام النووي، فقال في الروضة، ليس بشيء. ا. هـ.

(1/90)

أما المجنون، فإن كان كبيرا لم يزوج لغير الحاجة، ويزوج للحاجة، وذلك بأن تظهر رغبته في النكاح أو بأن يكون محتاجا لمن يقوم على خدمته ولا يجد من محارمه من يقوم بذلك، أو بأن يتوقع شفاؤه بالنكاح.

وإذا جاز تزويجه فالذي يزوجه الأب، ثم الجد، ثم السلطان ولا يزوجه أحد غير هؤلاء من العصبات.

وإذا كان المجنون صغيرًا: لم يصح تزويجه على الصحيح، وقيل: يزوجه الأب وإن علا.

الثاني: ألا يكون محجورًا عليه بسفه.

فإن كان كذلك رجع أمره إلى وليه إما أن يزوجه أو يأذن له في أن يزوج نفسه، فإذا زوج السفيه نفسه بإذن وليه جاز نكاحه على الصحيح، وقيل: لا يجوز نكاحه قياسا على بطلان نكاح الصغير.

وإذا قلنا بجواز نكاح السفيه بإذن وليه على الصحيح في المذهب فلا يخلو الحال من أمرين.

إما أن يطلق له الولي الإذن، فيقول له: تزوج ولا يُعيِّن له المرأة، فالأصح أنه يكفي الإطلاق ويتزوج من يشاء بمهر المثل أو أقل منه، فلو تزوج بأزيد من مهر المثل صح النكاح وسقطت الزيادة.

وإن تزوج شريفة يستغرق مهر مثلها كل ماله، فلا يصح نكاحه؛ لأنه لم يتقيد بما يوافق مصلحته.

وقيل: لا بد من تعيين المرأة أو القبيلة أو المهر.

وإن عين له امرأة لم يصح أن ينكح غيرها ولينكحها بمهر مثلها أو أقل منه.

ولو قدر له الولي المهر كأن قال له: انكح امرأة بألف، ولم يعين له المرأة، فلينكح امرأة بألف.

(1/91)

ولو جمع الولي في الإذن بين تعيين المرأة وتقدير المهر، كأن قال له: انكح فلانة بألف، فإن كان مهر مثلها دون الألف فالإذن باطل، وإن كان ألف فنكحها بألف أو أقل صح النكاح بالمسمى، وإن زاد عن الألف سقطت الزيادة.

والإذن من الولي للسفيه في النكاح لا يفيد جواز توكيل السفيه غيره في نكاحه؛ لأنه لا يزال محجورا عليه.

وإذا قبل الولي النكاح للسفيه، فهل يشترط إذنه أو لا؟

وجهان في المذهب:

أحدهما: لا يشترط إذنه؛ لأن الولي فُوِضَ إليه رعاية مصلحة السفيه فإذا عرف حاجته زوجه كما يكسوه ويطعمه.

والثاني: وهو الأصح أنه يشترط إذنه؛ لأنه حر مكلف.

ثم إذا قبل له الولي النكاح، فليقبل بمهر المثل أو أقل، فإذا زاد عن مهر المثل ففي أظهر القولين: أن النكاح يصح بمهر المثل وتسقط الزيادة.

وفي القول الثاني: يبطل النكاح.

وهل يشترط في نكاح السفيه حاجته إليه؟

قال أكثر فقهاء المذهب: يشترط في نكاح السفيه حاجته إليه، وإن لم يكن بحاجة إليه فهو إتلاف لماله بلا فائدة، ومن ثم فإنه لا يزوج إلا واحدة كالمجنون، وحاجته إلى النكاح تتحقق بأن تغلب شهوته أو يحتاج إلى من يقوم بخدمته لعدم وجود من يقوم بذلك من محارمه، ولم يكتف في الحاجة بقوله؛ لأنه قد يقصد إتلاف ماله، ولكنهم اعتبروا ظهور الأمارات الدالة على غلبة شهوته وإذا طلب السفيه النكاح مع ظهور الأمارات الدالة على غلبة شهوته وجب على الولي إجابته، فإن امتنع رفع السفيه أمره إلى السلطان كالمرأة التي عضلها الولي، فإن خفت الحاجة وتعذرت عليه مراجعة السلطان وزوج السفيه نفسه بنفسه.

(1/92)

ففي أصح الوجهين: لا يصح نكاحه؛ لأنه محجور عليه لسفهه ولم يؤذن له في النكاح.

والثاني: يصح لامتناع الولي عن تزويجه مع حاجته إليه.

ولو نكح السفيه بغير إذن وليه مع عدم حاجته إليه فنكاحه باطل ويفرق بينهما، فإن كان قد دخل بها فلا حد عليه للشبهة وفي إيجاب المهر عليه بالدخول عدة أوجه:

أصحها: أنه لا يجيب عليه قياسا على ما لو قام بشراء شيء فأتلفه.

والثاني: يجب مهر المثل.

والثالث: يجب لها أقل ما يتمول أي ما يعتبر مالا.

من الذي يتولى تزويج السفيه؟

الأب وإن علا فإن عدما فالقاضي أو من يفوضه في ذلك، سواء بلغ سفيها أو بلغ رشيدا ثم طرأ عليه السفيه.

إقرار السفيه بالنكاح:

وإذا أقر السفيه بالنكاح فإقراره لا يصح؛ لأنه ليس ممن يباشر النكاح بنفسه فلا يصح إقراره به.

الثالث: إن يكون مختارًا.

فلو أُكْرِه رجل على أن يعقد على امرأة فلا يصح هذا العقد، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم: "فرع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

ولأن عقد النكاح مبني على الرضا تحقيقا لمعنى المودة والرحمة.

الرابع: ألا يكون مُحْرِمًا بحج أو عمرة.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

ووجه الدلالة هو أن الحديث أفاد تحريم عقد نكاح المُحْرم بنفسه أو بوكيله؛ لأن من لا يملك تصرفا لا يجوز له أن يوكل فيه غيره ويحرم عليه بطريق الأولى.

(1/93)

الدخول بالمرأة وهو محرم، فإذا تحلل من إحرامه الأصغر والأكبر جاز له العقد والدخول حتى لو لم يغادر مكة.

والحكمة في عدم صحة نكاح المحرم: هي ألا ينشغل بالنكاح ومقاصده عن أداء النسك.

الخامس: علمه بحل المرأة له؛ لأن الأبضاع شأنها خطير فلا بد من الاحتياط لها، فإن علم عنها شيئا سأل وتبين حتى تخلو تماما من كل ما يكون سببا في تحريمها عليه على التأبيد أو التأقيت أو غير ذلك مما سأبينه إن شاء الله تعالى.

فإن لم يتسن له العلم بحالها وعقد عليها ثم ظهر له بعد العقد عدم حلها له فسخ العقد فورًا دخل بعها أم لم يدخل.

السادس: أن يكون معينا بالاسم. أو بالوصف، أو الإشارة.

(1/94)

الركن الثالث: الزوجة

مدخل

...

الركن الثالث: الزوجة

ويشترط فيها شروط خمسة.

الأول: أن تكون معينة إما بالاسم، أو بالوصف، أو بالإشارة.

الثاني: ألا تكون منكوحة الغير ولا معتدة لتعلق حق الغير بها.

الثالث: ألا تكون محرمة بالحج أو بالعمرة، حتى لا تنشغل بالنكاح ومقاصده عن أداء المناسك. ولقوله -صلى الله عليه سلم: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

الرابع: أن تكون مختارة

إلا إذا كانت ممن تجبر على النكاح كأن كانت بكرا صغيرة أو كبيرة إلا أن الكبيرة يستحب إذنها.

الخامس: ألا تكون من المحرمات على التأبيد أو على التأقيت.

وإتماما للفائدة سأذكر بتوفيق المولى عز وجل المحرمات من النساء على ما جاء في الكتاب والسنة.

(1/94)

المحرمات على التأبيد وأسبابها

مانع السبب

...

أولا: المحرمات على التأبيد وأسبابها ثلاثة

1- مانع النسب

- والمحرمات بسبب النسب أربع شعب وهي:

1- فروع الرجل من النساء، وإن نزلن فتحرم عليه بنته، وبنت بنته، وبنت ابنه. وهكذا كل فرع يكون جزءًا منه مما يتصل به ذلك الاتصال.

2- أصوله من النساء وإن علون، فأمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه جميعا من أصوله وهن حرام عليه إذ هو جزء منهن، فكما حرم عليه جزؤه فكذلك حرم عليه من هو جزؤهن.

2- فروع أبويه وإن نزلن هو الأخوات سواء أكن شقيقات أم لأب أم لأم وفروع الأخوة والأخوات فيحرم على الرجل إخواته جميعا وأولاد إخوانه وأخواته جميعا وفروعهن مهما تكن الدرجة.

4- فروع الأجداد والجدات إذا انفصلن بدرجة واحدة، فالعمات والخالات حرام عليه، مهما تكن درجة الجد والجدة، ولكن بنات الأعمام والأخوال والخالات والعمات حلال، مهما بعد الجد أو الجدة التي تفرعن منها، إذ المحرم من فروع الأجداد والجدات هو من ينفصل عن الأصل بدرجة واحدة.

ويستدل على تحريم هؤلاء بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} 1.

وحكمة التحريم: أن النكاح من هؤلاء يُفضي إلى قطع الرحم؛ لأن النكاح لا يخلو من مباسطات تجري بين الزوجين عادة وبسببها تجري الخشونة بينهما أحيانا، وذلك يُفضي إلى قطع الرحم فكان النكاح منهن سببا لقطع الرحم ومفضيا

__________

1 سورة النساء من الآية 23.

(1/95)

إليه المفضي إلى الحرام حرام، وهذا المعنى يعم الفرق السبع؛ لأن قرابتهن محرمة القطع واجبة الوصل.

وتختص الأمهات بمعنى آخر، وهو أن احترام الأم وتعظيمها واجب، ولهذا أمر الولد بمصاحبة الوالدين بالمعروف وخفض الجناح لهما والقول الكريم في خطابهما، ونهى عن التأفيف منهما، فلو جاز النكاح، والمرأة تكون في طاعة الزوج وطاعته مستحقة عليها للزمها ذلك، وإنه ينافي الاحترام، فيؤدي إلى التناقص.

وأقول: إن هذا الكلام حق لا ريب فيه؛ لأن الحياة الزوجية لا تتفق مع علاقات القرابة ولا تستقيم كلتاهما مع الأخرى فتفسد كلتاهما، وذلك فوق أنه قد يكون تنافس بين هؤلاء الأقارب على واحدة منهن فتكون القطيعة.

(1/96)

2- مانع الرضاع:

وفيه عشرون مسألة.

المسألة الأولى: تعريفه

الرضاع في اللغة: مص الثدي مطلقا، مأخوذ من رضع الصبي وغيره يرضع كضرب يضرب، ورضع على وزن سمع يرضع رضعا فهو راضع، والجمع رُضع والرضيع المرضع وراضعه ورضاعا رضع معه، والرضع المراضع، والجمع رُضع، الجمع رُضعاء، وامرأة مرضع، أي: ذات رضع أو لبن رضاع، والجمع مراضيع.

فإن أريد مجرد الوصف بالإرضاع، قيل: مرضع بغير هاء، أي لها ولد ترضعه، إن أريد أنها محل إرضاع بالفعل، أي: وصفها حال إرضاعها ولدها، قيل. مرضعة بالهاء.

قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} 1.

(1/96)

الرضاع في الاصطلاح، عرفه الشافعية بقوله: اسم لحصول لبن امرأة آدمية حية أو ما حصل منه في معدة الطفل أو دماغه.

المسألة الثانية: حكمه

اتفق فقهاء الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب كلها على أنه إذا أرضعت امرأة بلبنها ولد غيرها فقد ثبت بذلك صلة القرابة الرضاعية بينها وبين من أرضعته وثبت تحريم الزواج بينهما وينتشر التحريم كذلك إلى أصولها وفروعها وأصول زوجها وفروعه.

ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبناتها وأمهاتها، ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه.

وكذلك لا ينتشر التحريم إلى من فوق المرتضع من آبائه وأمهاته ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته؛ إذ نظير هذا النسب حلال.

المسألة الثالثة: دليله

يستدل على التحريم بسبب الرضاع بالكتاب والسنة والإجماع.

فمن الكتاب قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى أن قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/97)

ووجه الدلالة هو أن الله تعالى ذكر المحرمات من النساء بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ثم عطف على ذلك قوله تعالى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1 والعطف يقتضي التشريك في الحكم.

ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة".

وأجمعت الأمة على تحريم النكاح بسبب القرابة الرضاعية.

المسألة الرابعة: مقدار الرضاع المحرم

ولا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات مشبعات مفترقات.

ويستدل على ذلك بما رواه مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلوما يُحَرِّمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن.

ووجه الدلالة هو أن الحديث نص صريح في تحريم الرضاع بخمس رضعت.

واعترض على حديث عائشة: كان فيما نزل من القرآن إلخ.. باغتراضات أربعة؛ الاعتراض الأول:

إن هذا ليس بقرآن، لا يثبت بخبر الآحاد، ولو كان قرآن لثبت بين دفتي المصحف.

وأجاب الماوردي على ذلك بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأول: أنه ثبت كونه من القرآن حكما لا تلاوة ورسما، والأحكام تثبت بأخبار الآحاد سواء أضيفت إلى السنة أو إلى القرآن، كما أثبتوا بقراءة ابن مسعود "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" حكم التتابع، وإن لم يكتبوا تلاوته، فإن استفاض نقله ثبت بالاستفاضة تلاوته وحكمه.

والجواب الثاني: أن هذا من باب منسوخ التلاوة الثابت حكمه فكان وروده بالاستفاضة والآحاد سواء في إثبات حكمه، وسقوط تلاوته كالذي روي عن عمر

(1/98)

أنه قال:"كان فيما أنزل الله "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله".

ولولا أن يقول الناس زاد عمر في القرآن لكتبتها في حاشية المصحف ولو كانت من المتلو لكتبتها مع المرسوم، وإنما أراد بكتابتها في الحاشية؛ لأن لا ينساها الناس، ثم لم يفعل لئلا تصير متلوة.

والجواب الثالث: أن العشر نسخت بالخمس، وإنما أضافت عائشة ذلك إلى القرآن لما في القرآن من وجوب العمل بالسنة حيث يقول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.

الاعتراض الثاني:

أنه ثبت عن عائشة قالت: كان تحريم الرضاع في صحيفة فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تشاغلنا بغسله فدخل داجن الحي فأكلها، لو كان ذلك قرآنا لكان محفوظا لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.

وأجاب الماوردي عن هذا الاعتراض بجوابين:

الجواب الأول: أن الذي أكله داجن الحي هو رضاع الكبير وهو منسوخ.

الجواب الثاني: أن العشر منسوخ بالخمس ودعوى عدم حفظه مردوده؛ لأنه محفوظ في الصدور حيث ورد في صفة الأمة المحمدية "أناجيلهم في صدروهم".

الاعتراض الثالث:

هذا إثبات للنسخ بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنها قالت: فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ممن يقرأ من القرآن، وبهذا لا يجوز.

__________

1 من الآية 7 من سورة الحشر.

2 من الآية 9 من سورة الحجر.

(1/99)

وأجاب الماوردي -أيضا- عن هذا الاعتراض بجوابين:

الجواب الأول: أنها روت بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- نسخا كان في زمانه، وقولها: كان مما يقرأ، أي: مما يعمل به.

الجواب الثاني: أنه كان يقرأ بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإثبات حكمه، فلما ثبت حكمه تركت تلاوته.

الاعتراض الرابع:

أن فيه إثبات نسخ بخبر الواحد، والنسخ لا يكون إلا بإخبار التواتر

وأجاب عنه الماوردي كذلك بجوابين:

الأول: أن الطريق الذي يثبت بها خبر المنسوخ ثبت بها خبر الناسخ فلم يجز أن يجعل حجة في إثبات المنسوخ دون الناسخ.

الثاني: أنه ليس ذلك نسخا بخبر الواحد، وإنما هو نقل لنسخ بخبر الواحد، ونقل النسخ بخبر الواحد مقبول، فعلمت عائشة -رضي الله عنها- العشر ونسخها بالخمس فروتها ورجعت إلى الخمس، وعملت حفصة -رضي الله عنها- العشر ولم تعلم نسخها بالخمس فبقيت على حكم الأول في تحريم الرضاع بالعشر دون الخمس.

المسألة الخامسة: ضابط الرضعة

متى التقم المرتضع الثدي، فامتص منه، ثم تركه باختياره من غير عارض، كان ذلك رضعة.

والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيره أو لشيء يلهيه، ثم يعود عن قرب لا يخرجه من كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد من قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة.

أما إذا قطعت المرضعة عليه الرضعة، ثم أعادته لوجهان:

الأول: أنها رضعة واحدة ولو قطعته مرارًا.

الثاني: أنها رضعة أخرى.

(1/100)

وكذلك إذا انتقل الرضيع من ثدي امرأة إلى ثدي أخرى قبل تمام الرضعة، قيل: تحسب واحدة قياسا على ما لو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر، وقيل: تحسب رضعة أخرى.

المسألة السادسة: رضاع الكبير

اتفق الفقهاء على التحريم بسبب الرضاع إذا كان في الحولين واختلفوا في رضاع الكبير وهو ما زاد على الحولين هل هو محرم أو لا؟

على فريقين:

الفريق الأول: يرى جمهور الفقهاء أن رضاع الكبير لا يحرم وهو مذهب ابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.

الفريق الثاني: ويرى داود وأهل الظاهر أنه يحرم كرضاع الصغير وهو مذهب عائشة.

وسبب اختلافهم، هو تعارض الآثار في ذلك حيث ورد في المسألة حديثان:

أحدهما: حديث سالم، قد سبق تخريجه.

والثاني: حديث عائشة أخرجه البخاري ومسلم قالت: دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه سلم- وعندي رجل فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإن الرضاعة من المجاعة".

فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء، إلا أن حديث سالم نازلة عين، وكان سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ما عدا عائشة يرون أن ذلك رخصة لسالم ومن رجح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنها لم تعمل به قال: يحرم رضاع الكبير.

وحد الصغر المحرم: حولان كاملان.

(1/101)

لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 1.

ووجه الدلالة هو أنه جعل تمام الرضاعة في الشرع مقدر بحولين فاقتضى أن يكون حكمه في الشرع بعد الحولين مخلفا لحكمه في الحولين، وحكمه في الشرع في الحولين هو التحريم.

كما يستدل على ذلك أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا في حولين".

ووجه الدلالة هو أن النفي في قوله: لا رضاع للتحريم لا للجواز.

المسألة السابعة:

إذا فطم المولود قبل الحولين ثم أرضعته امرأة بعد الفطام في الحولين فهل يثبت بهذا الرضاع حرمة أو لا؟

تثبت بهذا الرضاع حرمة النكاح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة".

ووجه الدلالة هو الرضاع المحرم الذي في سن المجاعة كيفما كان الطفل في سن الرضاع.

المسألة الثامنة:

ما صل إلى الجوف من غير رضاع هل يحرم أو لا؟

يحرم بالرضاع ما وصل إلى الجوف سواء أكان بمص الرضيع للثدي أو شربه اللبن وكذلك إذا وصل اللبن إلى جوفه بالوجور: الذي هو إيصال اللبن إلى جوفه بواسطة الفم بعد حلبه من المرأة، أو السعوط أي إدخاله إلى جوفه عن طريق الأنف، أو الحقنة: أي إيصاله إلى جوفه عن طريق الدبر.

ويستدل على ثبوت التحريم بالوجور والسعوط بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم".

__________

1 الآية 223 من سورة البقرة.

(1/102)

ووجه الدلالة: هو أن صول اللبن بالجور والسعوط يحصل بهما إنبات اللحم وإنشاز العظم، كما يحصل بالارتضاع مساواتهما له في الحكم وهو التحريم.

المسألة التاسعة: اختلاط اللبن بغيره

إذا اختلط اللبن بغيره طعاما كان أم شرابا فهل يثبت به التحريم أو لا يثبت؟

اختلاط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى.

1- إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ووصل اللبنان إلى جوف رضيع في سن الرضاع المحرم ثبت التحريم بين المرأتين والرضيع أخذا بالأحوط.

ب- اختلاط لبن امرأة بطعام او شراب كالماء ونحوه.

ذكرنا في الفقرة "أ" الحكم إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى، أما إذا اختلط لبن امرأة بطعام أو شراب فيرى جمهور فقهاء المذهب ثبوت التحريم به سواء أكان اللبن غالبا أم مغلوبا، ويرى المزني من فقهاء المذهب ثبوت التحريم به إن كان اللبن غالبا ولا يثبت به التحريم إن كان اللبن مغلوبا.

المسألة العاشرة: تحول اللبن إلى جبن ويطعمه الولد

إذا تحول اللبن بعد حلبه من المرأة إلى جبن وأطعمه الصبي فهل يثبت بتناوله ذلك تحرم أو لا يثبت؟

إذا تحول اللبن بعد حلبه إلى جبن وأطعمه الصبي ثبت به التحريم؟ لقوله -صلى الله عليه وسلم: $"إنما الرضاعة من المجاعة".

ووجه الدلالة: هو إن الإطعام أبلغ في سد المجاعة من مانع اللبن فوجب أن يكون أخص بالتحريم.

المسألة الحادية عشرة: لبن الفحل، أي المرأة المرضعة

اتفق الفقهاء على أن المرأة التي لها زوج إذا أرضعت ولد غيرها بلبنها الناتج عن وطء زوجها لها ثبت التحريم بالرضاع بينها وبين هذا الولد.

وكذلك يثبت التحريم بين الرضيع وبين صاحب اللبن -زوج المرضعة.

(1/103)

ويستدل على ذلك:

بما روي عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت عائشة: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له.

ووجه الدلالة: هو أن لبن الفحل يحرم بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن لعائشة في إذنها لأبي القعيس؛ لأنه عمها من الرضاعة.

وكذلك يستدل بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سئل عن رجل تزوج بامرأتين فأرضعت إحداهما جارية غيرها وأرضعت الأخرى غلام غيرها، هل يتزج الغلام الجارية؟ فقال: لا، اللقاح واحد لا تحل له.

المسألة الثانية عشر: صفة المرضع

لبن الميتة:

اتفق الفقهاء على أن المرأة الحية إذا أرضعت بلبنها ولدا في سن الرضاع المقرر شرعا صار هذا الولد ابنها من الرضاع واختلفوا في لبن الميتة هل تنتشر الحرمة بينها وبين من ارتضع لبنها وبين فروع هذه المرأة وأصولها وحواشيها أو لا تنتشر؟

باتفاق المذهب لا يثبت تحريم بين الرضيع وبين هذه المرأة الميتة التي ارتضع منها ولا بين أصولها وحواشها، وذلك وطء الميتة معتقدا حياتها لم يثبت بهذا الوطء تحريم بالمصاهرة فكذلك ارتضاع لبنها لا يثبت به تحريم.

البكر التي لم تمس بنكاح أو الثيب التي لم يقام له لبن وكذلك العجوز المسنة:

أجمع الفقهاء على أن البكر التي لم تنكح لو نزل بها لبن فأرضعت به مولودا كان المولود ولدها رضاعا ولا أب له من الرضاعة، كذلك الثيب التي لا زوج لها.

(1/104)

لبن الزانية:

اتفق الفقهاء على أن المزني بها إذا أرضعت بلبنها ولدا غير ابنها صار الرضيع ولدها رضاعا، ولا تثبت حرمة بين الزاني وبين الرضيع وذلك لأن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة، فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها.

لبن البهيمة:

اتفق الفقهاء على أنه لو ارتضع طفلان من بهيمة لم تثبت بذلك اللبن أخوة بينهما؛ لأنه لا يحرم إلا لبن الآدميات لقول المولى -جل ثناؤه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} 1.

والبهيمة لا تكون بارتضاع لبنا أما محرمة، فكذلك لا يصير المرتضعان بلبنها أخوين.

ولأن التحريم لا يون إلا بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في لبن الآدمية، والبهيمة دون الآدمية في الحرمة، ولبنها دون لبن الآدمية في إصلاح البدن، فلم يلحق به في التحريم.

ولأن الأخوة فرع الأمومة فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة فلأن لا تثبت به الأخوة أولى.

لبن الرجل:

لو فرض أن رجلا در ثديه لبنا فأرضع بهذا اللبن ولد غيره، فإنه لا تنتشر به الحرمة ولا تثبت بين هذا الرجل وبين الرضيع؛ لأن المقصود من اللبن إنبات اللحم وإنشاز العظم، وهذا لا يتحقق في لبن الرجل إذا فرض ذلك، غاية ما في الأمر أنه ماء أصفر، وذلك في قول عامة أهل العلم، وقال الكرابيسي من الشافعية، تثبت بهذا اللبن حرمة؛ لأنه لبن آدمي، أشبه لبن آدمية.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/105)

وأقول: هذا ليس بصحيح؛ لأنه قياس في مقابلة النص الذي يقول فيه المولى -عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} .

لبن الخنثى المشكل:

الخنثى: هو من خلق بآلتين آلة الذكورة وآلة الأنوثة. سمي بذلك لاشتراك الشبهين فيه مأخوذ من قولهم: تخنث الطعام والشراب إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه المقصود وشاركه طعم غيره، ورجل مخنث تشبه بالإناث في أقواله وأفعاله، ويرى الشافعي التوقف إلى البيان فإن بانت أنوثته انتشرت به الحرمة وإلا فلا.

المسألة الثالثة عشر: المحرمات رضاعا من جهة النسب

اتفق الفقهاء على أنه يحرم بالرضاع ما يأتي:

أولا: أصله من الرضاع

ويشمل ذلك المرأة التي أرضعت الصبي؛ لأنها أمه من الرضاع، وكذلك أم أمه من الرضاعة، وهكذا كل أصل لأمه من الرضاعة مهما علا ذلك الأصل، سواء أكان الأصل من النسب أم من رضاع.

ثانيا: الفروع من الرضاع

فيحرم على الرجل زواج ابنته من الرضاع؛ لأنه السبب في إدرار اللبن لها سواء أكانت المرأة وقت الرضاع تحت عصمة زوجها أم مطلقة منه بشرط أن يكون اللبن الذي أرضعت به البنت من حمل حدث من ذلك الرجل ويحرم على الرجال كذلك بنت بنته رضاعا، وبنت ابنه الرضاعي.

ثالثا: الفرع النسبي أو الرضاع للأبوين الرضاعيين

وهذا يشمل الأخوات من الرضاع، سواء أكن شقيقات أم لأب أم لأم، وكذلك بنات الأبوين من الرضاع سواء كن بناتهن من النسب أم من الرضاع وكذلك بنات الأخوة من الرضاع.

(1/106)

رابعًا: البطن الأولى فقط من فروع الأجداد والجدات الرضاعيين

وهن العمات والخالات من الرضاع.

ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته، فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبنتاها وأمهاتها، ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه.

وكذلك لا ينتشر التحريم إلى من فوقه من آبائه أمهاته، ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته.

فلأبي المرتضع من النسب وأجداده أن ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته إذ نظير هذا من النسب حلال.

المسألة الرابع عشرة: المحرمات رضاعا من جهة المصاهرة

يحرم رضاعا من جهة المصاهرة والجمع ما يأتي:

أولا: الأصول الرضاعية لزوجته، فأمها التي أرضعتها تحرم عليه وجدتها كذلك سواء أكانت أم أمها رضاعا أمْ أمُّ أبيها، سواء دخل بزوجته أو لم يدخل؛ لأن الرضاع في المصاهرة كالنسب فيها.

ثانيا: فروع زوجته من الرضاع إن دخل بزوجته، فتحرم عليه ابنتها رضاعا، سواء أكان طريقها البنت أم طريقها الابن.

ثالثا: زوجة أصله الرضاعي، وهو من كان أبا لمن أرضعته، أو كان هو سبب اللبن الذي رضع منه.

رابعا: زوجة فرعه، فتحرم عليه زوجة ابنه الرضاعي.

خامسا: يحرم الجمع بين الأختين من الرضاع وكذلك بين المرأة وعمتها من الرضاع، وبين المرأة وخالتها.

لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة".

(1/107)

ووجه الدلالة: هو أن الحديث أجرى الرضاع مجرى النسب، وشبهه، فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه، فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة، وإذا حرمت امرأة الأب والابن، وأم المرأة وابنتها من النسب حرم من الرضاعة، وإذا حرم الجمع بين الأختين من النسب حرم بين أختي الرضاعة.

ويفهم من كلام العلامة ابن القيم في زاد المعاد أنه وأستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية يميلان إلى أن المصاهرة بالرضاع لا توجب تحريما؛ لأن المصاهرة لا تكون إلا مع النسب حتى لا تقطع الأرحام بين الأباء والأبناء، ولا رحم في الرضاعة يخشى عليها، ولا نص ولا قياس يجعل أقارب المرأة رضاعا كأقاربها نسبا، وإذا كان الشأن كذلك فالحل هو الثابت بعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1.

ورجح الإمام محمد أبو زهرة وجهة نظرهما في ذلك فقال ما نصه: يبدو لنا أن نظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم نظر له وجهه إذا تلونا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 2 فنرى أن الله تعالى ساق المحرمات بالنسب، ثم ساق المحرمات بالرضاعة رابطا بينهم وبين النسيبات، ثم المحرمات بالمصاهرة، ولم يشر بعدها للرضاعة، والمصاهرة لا تنصرف إلا إلى ما كان النسب سببها ولو كانت الرضاعة تثبت بالمصاهرة لعقب التحريم بالمصاهرة بها، وأشار النص إليها. ا. هـ.

المسألة الخامسة عشر: حكمة التحريم بالرضاع

عندما تقوم امرأة بإرضاع غير ولدها فإنها بذلك تغذيه بجزء منها، فتدخل أجزاؤها في تكوينه ويصبح الولد جزءا منها.

فلبنها در من دمها لينبت لحم الطفل وينشر عظمه فهي بذلك كالأم النسبية.

__________

1 من الآية 24 من سورة النساء.

2 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/108)

فإن كانت الأم النسبية غذته بدمها في بطنها فتلك غذته بلبنها وإذا حرمت عليه أمه النسبية فكذلك تحرم عليه أمه الرضاعية.

المسألة السادسة عشر: ما يخالف فيه الرضاع النسب

يتفق الرضاع مع النسب في التحريم المناكحة، وإثبات المحرمية فتجوز الخلوة بمحارم الرضاع، والمسافرة ومعهم.

وينفرد الرضاع عن النسب فيما يأتي:

أولا: الرضاع لا يثبت ميراثا ولا يوجب نفقة ولا يسقط به القصاص ولا الشهادة، بخلاف النسب فإنه يثبت الميراث، ويوجب النفقة، يسقط القصاص والشهادة.

ثانيا: يجوز للرجل أن يتزوج المرأة الأجنبية التي أرضعت أخته أو أخاه، لعدم وجود علاقة رضاعية بنيهما.

بينما لا يجوز له ذلك من النسب؛ لأن أم أخيه أو أخته إما أن تكون أمًّا وإما أن تكون زوجة أب وكلتاهما محرمة شرعًا.

ثالثا: يجوز للرجل أن يتزوج جدة ابنه من الرضاع، ليس له أن يتزوج جدة ابنه من النسب؛ لأن جدة ابنه من الرضاع لا نسب بينهما ولا رضاع ولا مصاهرة.

رابعًا: يجوز للرجل أن يتزوج المرأة الأجنبية التي أرضعت ولد ولده لا فرق بين الذكر والأنثى في الولد ولا في الرضيع، لكونها أجنبية عن الجد. بينما أن هذه من جهة النسب محرمة؛ لأنها إما أن تكون بنتا أو زوجة ابن وكلتاهما محرمة شرعًا.

خامسا: يجوز للرجل أن يتزوج أم المرأة الأجنبية التي أرضعت ابنه أو بنته، لعدم وجود علاقة رضاعية بين الأب وبين جدة ابنه أو بنته من الرضاع، بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأن جدة الابن أو البنت إما أن تكون أمًّا وإما أن تكون أم زوجة وكلتاهما محرمة شرعًا.

سادسا: يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه أو أخت بنته من الرضاع؛ لأنها أجنبيه عن الأب.

(1/109)

بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأنها إما أن تكون بنته أو ربيبته وكلتاهما محرمة شرعًا.

سابعًا: يجوز للرجل أن يتزوج أم عمه وأم عمته رضاعا أي المرأة التي أرضعت عمه أو عمته لكنها أجنبية عنه، بينما لا يجز له ذلك من جهة النسب؛ لأن أم العم وأم العمة إما أن تكون جدة أو زوجة جد وكلتاهما محرمة شرعًا.

ثامنا: يجوز للرجل أن يتزوج أم خالة وأم خالته رضاعا؛ لأنها أجنبية عنه، بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب لأنها إما أن تكون جدة أو زوجة جد وكلتاهما محرمة شرعًا.

تاسعًا: يجوز للرجل أن يتزوج عمة ابنه أو عمة ابنته من الرضاع؛ لأنها أجنبية. بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأن عمة الابن أو عمة البنت أختا للاب وهي محرمة شرعًا.

المسألة السابعة عشر: الشك في الرضاع:

من القواعد المقررة في الفقه الإسلامي قاعدة "اليقين لا يزول بالشك" وتطبيقا لهذا القاعدة لو وقع الشك في أصل الرضاع هل حدث أم لا؟ فإن الأصل عدم حدوثه لأن الشك إذا طرأ على اليقين سقط حكمه.

وإذا حدث الشك في عدد الرضعات عند من يقول باشتراط العدد في التحريم، فإنه يبني على الأقل فلو وقع الشك مثلا أرضع أربعا أم ثلاثا فإننا نبني على الأقل وهو الثلاث ونعتبر أنه أرضع ثلاثا.

المسألة الثامنة عشرة: ثبوت الرضاع

أولا: ثبوته بالشهادة

يثبت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو أربع نسوة.

(1/110)

الأدلة:

ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1.

ووجه الدلالة هو: أن الحق سبحانه وتعالى لما أقام المرأتين مقام الرجل ولم يقبل من الرجال أقل من اثنين وجب ألا يقبل من النساء أقل من أربع.

قول عمر -رضي الله عنه: لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.

أن سبب نزول هذه الحرمة مما يطلع عليه الرجال فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين قياسا على حرمة الطلاق.

ثانيا: ثبوت الرضاع بالإقرار

الإقرار في اللغة: الثبوت والاعتراف وعدم الإنكار.

وفي الاصطلاح: إخبار من يصح إخباره بحق لغيره عليه.

واتفق الفقهاء على أنه إذا أقر الزوج بالرضاع قائلا: هي أختي أو عمتي أو ابنتي من الرضاع مثلا وأصر على إقراره فسخ النكاح بينهما قبل الدخول أو بعده.

وكذلك اتفقوا على أنه إذا كانت المقرة به هي الزوجة قائلة: هذا أخي من الرضاع مثلا وكذبها الزوج لا يفسخ النكاح بينهما؛ لأن الحرمة ليست إليها.

كما اتفقوا على أنهما إذا أقرا به معا وثبتا على إقرارهما انفسخ النكاح بينهما قبل الدخول أو بعده.

وكذلك اتفقوا على أنه إذا رجع المقر منهما في إقراره الذي أشهد عليه لا يجوز له الرجوع ولا يقبل رجوعه.

__________

1 من الآية رقم 282 من سورة البقرة.

(1/111)

ثالثا: الاختلاف الرضاع

ذكر الشافعية أنه إذا ادعى الزوج رضاعا محرما وأنكرت الزوجة انفسخ النكاح بينهما: مؤاخذة له بقوله، ولها المهر المسمى إن كان النكاح صحيحا، وإلا فمهر المثل إن كان قد دخل بهما لاستقراره بالدخول ولها نصفه قبل الدخول؛ لأن سبب الفرقة جاء من جهته.

وإن ادعته الزوجة فأنكر الزوج صُدِق بيمينه وإن كانت الزوجة قد زوجت برضاها فالأصح تصديقها بيمينها، لاحتمال ما تدعيه ولم يسبق منها ما يناقضه.

وقيل: يصدق الزوج بيمينه لاستدامة النكاح الجاري في الصحة ظاهرًا كما قال الشافعية أيضا أنه إذا ادعى الزوج رضاعا محرما فأنكرت الزوجة وشهدت بذلك أمه أو ابنته لم تقبل شهادتهما؛ لأن شهادة الوالدة لولدها والولد لوالدة غير مقبولة.

وإن شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت شهادتهما قولا واحدا في المذهب وإن ادعت ذلك المرأة وأنكره الزوج فشهدت بذلك لهما أمها أو ابنتها لم تقبل شهادتهما، وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته قبلت شهادتهما قولا واحدا في المذهب.

المسألة التاسعة عشرة: حكم إرضاع الأم ولدها

اتفق الفقهاء على إن كل أم يلزمها إرضاع ولدها لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 1.

ووجه الدلالة هو أن قوله تعالى: {يُرْضِعْنَ} خبر في معنى الأمر أي ليرضعن فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة طالما الزوجية قائمة.

وذلك الإرضاع الواجب عليها في أحوال ثلاثة:

الأولى: إذا لم يوجد غيرها.

الثانية: إذا وجد غيرها وطلب منه أجرة على الرضاع ولا مال للطفل ولا لأبيه.

__________

1 من الآية: 233 من سورة البقرة.

(1/112)

الثالثة: إذا امتنع الطفل عن الرضاع من ثدي غيرها، ولا يلزمها فيما عدا هذه الأحول الثلاثة شريفة كانت أم غير شريفة.

وإذا لم يجب على الإم إرضاع ولدها في غير الأحوال الثلاثة سالفة الذكر فإنه يترتب على عدم الوجوب ما يأتي:

أولا: إن تبرعت الأم بإرضاع ولدها، فإنها لا تمنع من ذلك.

ثانيا: إذا أرادت الأم إرضاع ولدها بأجرة ووجدت من سترضعه بدون أجرة، فإنه ينزع من أمه ويسلم إلى من سترضعه بدون أجرة، وقيل: لا ينزع لزيادة شفقتها عليه.

ثالثا: إذا طلبت الأم أجرة على إرضاع ولدها وكان هناك مرضعة غيرها بأجرة كذلك، فالأم أحق من غيرها؛ لأن الأم أحن وأشفق ولبنها أَمْرأ من لبن غيرها، والمرضعة المستأجرة تسمى -ظِئْرًا- ويجب عليها إرضاع الطفل في المكان الذي اتفق معها على إرضاعه فيه ولا تتعداه حتى لو اتفق معها على إرضاعه في بيتها.

المسألة العشرون: استحقاق الأم أجر إرضاع ولدها.

إذا أرضعت الأم ولدها فهل تستحق أجرة على إرضاعه أو لا؟

لا تستحق الأم أجرة على إرضاع ولدها سواء أكانت الزوجية قائمة بينها وبين الزوج أو لا ذلك لأن الأب إذا استأجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز، ولأن الرضاع واجب عليها ديانة لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إلا إذا عجزت عنه. فإذا أقدمت عليه بالأجرة ظهرت قدرتها، فكان الرضاع واجب عليها، ومن ثم فلا يجوز أخذ الأجرة على فعل الواجب.

الدليل الثاني: أن أوقات الرضاع مستحقة لاستمتاع الزوج ببدل وهو النفقة فلا يجوز لها أن تأخذ بدلا آخر.

(1/113)

وفي الوجه الثاني تستحق أجرة على إراضع ولدها لأن الرضاع عمل يجوز أخذ الأجرة عليه بعد البينونة فجاز أخذ الأجرة عليه قبل البينونة، كما أن استئجار الأم على إرضاع ولدها عقد إجارة يجوز مع غير الزوج فكذلك يجوز معه وهو الأصح.

(1/114)

مانع المصاهرة:

يقال في اللغة صاهر الرجل جماعة أي تزوج منهم فالتحريم بسبب المصاهرة معناه تحريم بسبب الزواج. واللاتي يحرمن بسبب المصاهرة أربع شعب:

الأولى: من كانت زوجة أصلة وإن علا ذلك الأصل سواء كان من العصبات كأبي الأب أو كان من الأرحام كأبي الأم وسواء دخل بها الأصل أم لم يدخل.

الثانية: من كانت زوجة فرعه سواء كان من العصبات كابن الابن أو من ذوي الأرحام كابن البنت وسواء دخل بها أم لم يدخل.

الثالثة: أصول من كانت زوجته سواء دخل بزوجته أم لم يدخل.

الرابعة: فورع من كانت زوجته وإن نزلن، ولكن بشرط الدخول بزوجته.

ويستدل على تحريم الطائفة الأولى بقول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} 1.

وقد دلت هذه الآية بنصها على تحريم زواج من كانت زوجة للأب وبما اشتملت عليه من تعليل للتحريم تدل على تحريم أزواج الأجداد وإن علوا لأن وصف المقت والفاحشة يتحقق في التزوج ممن كان زوجات الأجداد وإن علوا، كما يتحقق من زوجة الأب، ويصح أن يفهم تحريم زوجات الأصول جميعا من النص على تحريم زوجات الأباء يراد بها الأصول إذ لفظ الأب قد يراد به الأصل مجازا فيشمل الأب الحقيقي والجد وإن علا، وقد انعقد الإجماع على تحريم زوجات الأجداد فكان ذلك التحريم ثابت بالإجماع.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/114)

هذا وإذا كان نكاح زوجة الأصل يفضي إلى قطع الرحم؛ لأنه إذا فارقها أصله، فقد يندم ويريد أن يعيدها فإذا تزوجها ابنه أو حفيده فقد قطع السبيل دون إرادته وأوحشه بذلك، وأن الفطرة السليمة تجافي ذلك النكاح الذي سماه الشارع مقتا وفاحشة.

وتدل الآية الكريمة على أن زوجة الأصل محرمة دخل بها الأصل أم لم يدخل؛ لأن النكاح المراد به العقد، فالعقد وحده سبب للتحريم سواء أكان معه دخول أم لم يكن.

ويستدل على تحريم الطائفة الثانية وهي زوجة الفروع بقول الله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} عطفا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

وقد قيد الله -عز وجل- الأبناء بكونهم من الأصلاب لكي يعرف الأبناء بذلك الوصف، فيفيد النص أن الأبناء هم الذين من الصلب لا الذين يتبنون، وبهذا يتبين أن المحرم هن زوجات الأبناء لا زوجات المتبنين؛ لأنهم ليسوا أبناء.

هذا وقد ثبت تحريم زوجة الابن بالنص وثبت تحريم زوجة غير الابن كزوجة ابن الابن وابن البنت بالقياس المساوي الجلي؛ لأن سبب التحريم هو الجزئية، وكل فروع الشخص أجزاء منه أو يراد من الأبناء كل من اتصل به بصلة الولادة؛ لأن أولئك أبناء مجازا له.

وزوجة الفرع محرمة سواء حصل دخول بها أو لم يحصل.

والحكمة في تحريمها: هي المحافظة على العلائق بين أفراد الأسرة ومنع كل ما يؤدي إلى القطيعة بينهم؛ إذ لو أبيح للرجل أن يتزوج زوجة ابنه بعد أن يطلقها؛ لأدى ذلك إلى الضغينة بينهما؛ لأن الابن ربما يريد معاودة الحياة مع مطلقته فإذا رأى أباه قد تزوجها، أضغنه ذلك وأوحشه.

وإن زوجة الابن كبنت الرجل وكثيرا ما تناديه بنداء البنت لأبيها، فكيف يحل له زواجها وأن هذا ضد الفطرة السليمة.

(1/115)

ويستدل على تحريم الطائفة الثالثة بقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} . عطفا على قول تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

فقد أثبت النص حرمة زواج الأم، وأثبت حرمة زواج الجدات بدلالة النص أو القياس الجلي، أو دلالة الأولى على حسب تسمية علماء الأصول لذلك النوع من الدلالة، وقد انعقد الإجماع على تحريم كل أصوله الزوجة سواء أدخل بالزوجة أم لم يدخل للإطلاق، وعدم التقييد بحال الدخول، كما قيد التحريم في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} .

وهذا رأي الجمهور من الفقهاء:

وهناك رأي آخر روي عن زيد بن ثابت وهو أنه إن حصل فراق البنت عن طلاق قبل الدخول تحل له الأم، وإن كان الفراق بسبب الوفاة فلا تحل؛ لأن الفرق بالموت، كالفراق بعد الدخول يثبت المهر كاملا فكان مثبتا للتحريم كما أثبت المهر.

وحجته في ذلك هي أن الله تعالى قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

وقد جاء القيد الأخير بعد الأمرين، فكان التحريم في الطائفتين مقيدا بالدخول.

وعلى ذلك يكن شرط الدخول ثابتا في تحريم الأمهات، كما هو ثابت في تحريم البنات.

واستدل الجمهور بظاهر الآية؛ لأن الوصف كان للحال الأخيرة دون سابقتها، فكانت الأولى على إطلاقها، وكان التحريم في الثانية مقيدا بحال الدخول، والأصل في الألفاظ أن تجري في ظاهرها.

واعتبار القيد للاثنين تخريج للكلام على غير ظاهره، ولا يخرج الكلام على غير الظاهر إلا لداع إليه، كعدم استقامة المعنى على الظاهر، والمعنى على الظاهر مستقيم لا يحتاج إلى تخريج.

(1/116)

وقد أيدت السنة هذا الظاهر وعينته، فقد روي أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده، فلا بأس أن يتزوج ابنتها، وأيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا يحل له أن يتزوج أمها".

ويستدل على تحريم الطائفة الرابعة وهن فروع من كانت زوجته المدخول بها بقول الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

وذلك عطفا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

والربيبة: هي ابنة الزوجة سميت بذلك لأن زوج أمها يربيها.

وهي حرام بنص الآية سواء أكانت في الحِجْر أم لم تكن ووصفها بأنها في الحجر وصف كاشف وليس بقيد؛ لأن الغالب أنها تكون في الحجر.

ولقد قال بعض أهل العلم: إن تحريم الربيبة مقيد بأن تكون في الحجر، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها واحتجوا بالآية وقالوا حرم الله الربيبة بشرطين:

أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج بأمها.

والثاني الدخول بالأم.

فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم.

واحتجوا كذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة"، فشرط الحِجْر.

ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك.

وليس ذلك بصحيح في نسبته وحجته لأن ذكر الوصف عند التحريم لا يدل على الحل إذا لم يكن بدليل لأنه عندما نص على حال الحل ذكرها في حال الدخول فقط فقال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ولم يذكر عند الحل الحال التي

(1/117)

لا تكون في حِجْره، فأقصى ما يدل عليه الوصف أنه يشير إلى الغالب أو هو مبين للتحريم في حال وجوده والباقي فهم تحريمه من على التحريم أي بالقياس الجلي أو من مفهوم قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 1 فإنه يثبت أنه في حال الدخول تثبت الحرمة سواء أكانت في الحجر أو لم تكن.

فالحق إن ذلك الوصف ليس لتقييد بل خرج تخريج العادة ولبيان قبح التزوج بهن لأنهن غالبا في حجورهن كأبنائهم وبناتهم فلهن ما للبنات من التحريم.

وقبل أن أترك المقام أوضح ثلاث أمور تتعلق بالتحريم بالمصاهرة.

الأمر الأول: اللمس والنظر بشهورة أيعتبر كالدخول الحقيقي ويعطى حكمه فتحرم به الربيبة أو لا؟

قولان في المذهب المختار والمفتى به أنه لا يحرم إلا الدخول الحقيقي لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 2 ولأن النظر اللمس بشهوة مباشرة لا يوجبان العدة فلا يتعلق بها التحريم.

وقيل: يتعلق بذلك تحريم كالدخول الحقيقي لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها وبنتها".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها".

ووجه الدلالة أن الحديث الأول نص على أنه من نظر إلى فرج امرأة حرمت عليه أمها وابنتها، وتوعد الحديث الثاني من نظر إلى فرج امرأة وابنتها بعدم نظر الله إليه والوعيد لا يكون إلا على ارتكاب أمر محرم.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

2 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/118)

الأمر الثاني: الزنا, أثره في التحريم بالمصاهرة

من زنا بامرأة لا يحرم عليه نكاحها ولا تحرم بالزنا أمها ولا ابنتها ولا تحرم الزانية على ابن الزاني ولا على أبيه وذلك لأن الله تعالى بين المحرمات ولم يذكر منهن هذه وأحل ما دون ذلك.

وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها فقال: "لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح" وذكر البخاري تعليقا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ووصله البيهقي بإسناد صحيح أن رجلا غشى أم امرأته فسئل ابن عباس فقال: تخطى حرمتين ولا تحرم عليه امرأته.

وسئل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير -رضي الله عنهما- عن الرجل يزني بالمرأة هل تحل لها أمها؟

فقالا: لا يحرم الحرام الحلال.

ويروى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقال ابن عبد البر: أجمع أهل الفتوى من الأمصار أنه لا يحرم على الزاني نكاح من زنى بها، فنكاح أمها وبنتها أجوز.

ومن زنى بامرأة ثم أتت منه ببنت فقد قال إمامنا الشافعي -يرحمه الله- أكره أن يتزوجها فإن تزوجها لا أفسخ نكاحها.

والصحيح أنه لا تحرم عليه حتى لو تحقق أنها من مائه، وذلك لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب فلا يتعلق بها التحريم.

أما البنت المنفية بلعان فقال بعض فقهاء المذهب: أنها لا تحرم على من نفاها كالبنت من الزنا، ومنهم من قال: تحرم عليه؛ لأنها غير منفية عنه قطعا ولهذا لو أقر بها ثبت النسب.

(1/119)

الأمر الثالث: الوطء بشبهة والدخول في عقد فاسد

من عقد على امرأة فزفت إليه أخرى ودخل بها وهو يعتقد أنها المعقود عليها فإن هذا يعتبر وطئا بشبهة، ومن عقد على امرأة بدون شهود ودخل بها فإنه دخول في عقد فاسد.

وكلا الأمرين الوطء بشبهة والدخول في عقد فاسد كالوطء في ظل عقد صحيح يثبت بهما التحريم بالمصاهرة فتحرم الموطؤة على أصوله وفروعه، ويحرم عليه أصولها وفروعها.

الحكمة في التحريم بالمصاهرة:

إن الشرائع السماوية قد وافقت الشريعة الإسلامية في التحريم بسبب المصاهرة، فكان هذا دليلا على أن ذلك التحريم مشتق من الفطرة الإنسانية؛ إذ لم تختلف فيه الشرائع، والحق أنه يتفق مع الطبع السليم، فإن المرأة إذا اقترنت بالرجل صارت قطعة من نفسه وصار هو قطعة منها {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 1 وإذا صارت جزءًا لا ينفصل من نفسه كان من منطق الزواج أن تكون أمها كأمه، وابنتها كابنته، وتحرم هي على أبيه كما يحرم على أمها؛ إذ صار أبوه أباها أيضا، وتحرم على ابنها كما يحرم ابنها عليها، وما باعدت الحق كثير الشرائع التي تسمي أبا الزوجة أبا للزوج، وابنها ابنا له وأباه أبا لها، وما جاوز الناس في عرفهم الطبيعة والحق إذا أطلقوا هذه الأسماء وأنه لو أبيح للرجل أن يتزوج أم زوجته وابنتها، وهي تتزوج أباه وابنه لأدى ذلك إلى أن تقام الحجب. وبذلك ينقطع الرجل عن أهله، وتنقطع هي عن أهلها، فيكون كلاهما في وحشة لا يجد من يسري عنه، ولا يجد كذلك من يعاونه ويزيل همه ويلقي إليه بدخائل نفسه.

__________

1 من الآية 187 من سورة البقرة.

(1/120)

ولأنه لو ساغ للأم أن تتزوج زوج ابنتها، وللبنت أن تتزوج زوج أمها لقطعت الأرحام ولأوجس الأصل خيفة من فروعه، وأوجس الفرع خيفة من أصله، وما بمثل ذلك تقام دعائم الأسر.

(1/121)

ثانيا: الموانع المؤقتة

المانع الأول: مانع العدد

اتفق الفقهاء على أنه يجوز للرجل الحر أن يجمع بين أربع حرائر ولا يزيد على ذلك.

ولم يخالفهم في ذلك إلا أقواما لا يعتد بخلافهم، وهم بعض الشيعة والروافض، وبعض أهل الظاهر.

وهؤلاء المخالفين سماهم فخر الدين الرازي: قوما سدى أي: ضائعين في تفكيرهم.

كما وصفهم القرطبي بقوله: وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة للإجماع.

الأدلة:

أولا: أدلة الجمهور

استدلوا بقول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 1. ووجه الدلالة: هو أن الواو العاطفة للأعداد بعضها على بعض بمعنى "أو" ويؤيده قوله تعالى في سورة فاطر: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 2 فالآية محمولة على عادة العرب في الخطاب على طريق المجموعات فيكون المراد بها التخيير بين الزواج باثنتين أو ثلاث أو أربع.

وكذلك استدلوا بما رواه ابن عمر قال: أسلم غيلان الثقفي وتحته عشرة نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يختار منهن أربعًا.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

2 من الآية 3 من سورة فاطر.

(1/121)

وروي عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: "اختر منهن أربعا".

وروي عن نوفل بن معاوية أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعا وفارق الأخرى".

فدلت الأحاديث بمجموعها على أنه لا يجوز للحر الزيادة في النكاح عن أربع.

وقال ابن عبد البر: الأحاديث المروية في هذا الباب كلها معلولة، وليست أسانيدها بالقوية، ولكنها لم يرو شيء يخالفها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والأصول تعضدها والقول بها والمصير إليها أولى، وبالله التوفيق.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: والأحاديث بمجموعها لا تقتصر عن رتبة الحسن لغيره فتنهض بمجموعها للاحتجاج بها، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال.

وقال -أيضا- في السيل الجرار: والاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث، وغيلان الثقفي، ونوفل بن معاوية، هو الذي ينبغي الاعتماد عليه، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال، ولكن الاجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل به.

وحكى ذلك الإجماع ابن حجر في الفتح، وصاحب البحر الزخار، ولم ينقل عن أحد من السلف في عهد الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، فدل العمل وفق السنة على أنه لا يجوز الزواج بأكثر من أربع نسوة.

ثانيا: أدلة الرافضة وبعض أهل الظاهر استدلوا بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 1.

وزعموا أن الواو للجمع وأكدوا زعمهم هذا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج تسعا وجمع بينهن في عصمته إذن يباح للرجل المسلم أن يجمع بين تسع

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/122)

من النسوة بل ذهب بعضهم إلى أقبح من هذا. فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة تمسكا منه بأن العدد في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع.

وفند زعمهم هذا القرطبي قائلا: وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة؛ إذ لم يسمع أن أحد من الصحابة والتابعين جمع في عصمته أكثر من أربع. ثم رد عليهم في موضع آخر، فقال: وأما قولهم: إن الواو جامعة، فقد قيل ذلك لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر، وإنما الواو في هذا الموضوع بدل، أي: أنكحوا ثلاثا بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو.

وأما قولهم: تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعا وجمع بينهن، فهذا من خصوصياته.

وكذلك رد على بعض أهل الظاهر القائلين بإباحة الجمع بين ثمان عشرة امرأة فقال: وكذلك جهلة الآخرون؛ لأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، ثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا حصر للعدد، ومثنى وثلاث ورباع بخلافها، ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجة.

الترجيح:

وبعد أن استعرضت أقوال العلماء وأدلتهم مع مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني القائلين بأنه يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع أرى بأن الراجح هو الرأي القائل بأنه لا يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع؛ لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.

(1/123)

هذا بالإضافة إلى أن الاقتصار على أربع عدل وتوسط وحماية للنساء من ظلم يقع عليهن بسبب الزيادة على ذلك، وهذا بخلاف ما كانت عليه العرب في الجاهلية.

ولقد أصحبت هذه الزيادة أمرا استثنائيًّا نادرًا فلا يلزم الرجل بالتعداد بل الزواج بواحدة أصبح هو الأعم الأغلب.

المانع الثاني: مانع الجمع

أولا: الجمع بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها.

اتفق الفقهاء على أنه يحرم الجمع بين المرأة وأختها سواء أكانتا من أب وأم أو من أم أو من أب وسواء أكانتا من نسب أم رضاع وكذلك يحرم الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها بالنكاح.

لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 1 ولقوله -صلى الله عليه سلم: "لا يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها".

ولا يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، عند الرافضة والخوارج ومن أعجبه قولهم وهم كما وصفهم ابن حجر: لا يعتد بخلاقهم؛ لأنهم مرقوا من الدين.

ثم لا فرق بين العمة أو الخالة حقيقة أو مجازًا كعمات آبائها وخالتهم، وعمات أمهاتهن وخالتهن وإن علت درجتهن من نسب أو رضاع.

ولقد استنبط الفقهاء من النصيين السابقين القرآني والنبوي قاعدة لتحريم الجمع بين المحارم، هي يحرم الجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لا يجوز له نكاح أخرى.

وكذلك لا يجوز الجمع بين المرأة ابنتها، قياسا على تحريم الجمع بين الأختين، بل هو أولى؛ لأن قرابة الولادة أقوى من قرابة الأخوة.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/124)

والحكمة من التحريم الجمع بين المرأة وأختها وبينها وبين عماتها أو خالتها هي: أن الجمع بينهما يؤدي إلى قطيعة الرحم بسبب ما يكون بين الضرتين من عداوة وكراهية، وقطيعة الرحم حرام وما أدى إلى حرام فهو حرام.

وكذلك اتفق الفقهاء على أنه يحرم الجمع بين المرأة وأختها وبينها وبين عمتها في عدة طلاق إحداهما طلاقا رجعيا واتفقوا على جواز الجمع بينهما إذا ماتت إحدهما فلو ماتت زوج الرجل جاز له نكاح أختها أو عمتها أو خالتها من غير انتظار مدة العدة.

أما إذا طلقت الزوجة طلاقا بائنا بينونة صغرى أم كبرى فإنه لا يحرم على الزوج عند فقهاء المذهب نكاح أختها أو عمتها أو خالتها في عدتها، لزوال النكاح بينهما بالبينونة، ومن ثم فإنه لو وطئها بعد علمه ببينونتها أقيم عليه الحد.

ثانيا: الجمع بين امرأة الرجل بعد وفاته أو طلاقها وابنته من غيرها بنكاح.

قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها بالنكاح، فأباح أكثر أهل العلم نكاحها، فعل ذلك عبد الله بن جعفر وعبد الله بن صفوان بن أمية، وأباح ذلك ابن سيرين، وسليمان بن يسار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا أعلم ذلك حراما، وبه نقول: وذلك أني لا أجد دلالة أحرم بها، وكره ذلك الحسن البصري وعكرمة.

ثالثا: الجمع بين بنات العم وبنات الخال بنكاح.

يجوز الجمع بينهما بالاتفاق، لدخولهما في عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1.

ولأن أحداهما تحل للأخرى لو كانت ذكرًا.

__________

1 الآية 24 من سورة النساء.

(1/125)

هذا ولم أتعرض للجمع بين المحارم بملك اليمين؛ لأن الله تعالى مَنَّ علينا بنعمة الإسلام التي حرر الله تعالى بها الرقاب من ذل العبودية لغير الله، ومن ثم عزفت عن الخوض في الحديث عنه لعدم وجوده.

المانع الثالث: مانع الكفر

اتفق أهل العلم على تحريم نكاح المسلم للمشركة، ونكاح المشرك المسلمة.

لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 1.

وكذلك اتفقوا على جواز نكاح المسلم للكتابية اليهودية أو النصرانية، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فلقد سئل عن نكاحهما، فقال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، عقب القرطبي على قول ابن عمر، قائلا: أما حديث ابن عمر فلا حجة فيه؛ لأن ابن عمر -رحمه الله- كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين في الواحدة التحليل، وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف.

وقال الجصاص: يعني بآية التحليل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2.

وبآية التحريم: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ} 3.

فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامهما تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته.

وحرم ابن عباس -رضي الله عنهما- نكاح الكتابيات إذا كن من أهل دار الحرب.

__________

1 من الآية 221 من سورة البقرة.

2 من الآية 221 من سورة البقرة.

3 من الآية 221 من سورة البقرة.

(1/126)

وعقب الجصاص على هذه التفرقة، فقال: ولم يفرق غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات الذميات وظاهر الآية يقضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن.

واختلف الروايات عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فمرة قال: بالحل ومرة أخرى قال: بالكراهة.

وإذا تم نكاح المسلم للكتابية كما هو رأي الجمهور على ما سبق بيانه فإن هذا النكاح تترتب عليه جميع الآثار الشريعة والواجبات، إلا أنه لا يجري بينهما توارث لاختلاف الدين، والأولاد يكونون مسلمين لما تقرر في القواعد الفقهية: من أن الولد يتبع أشرف الأبوين دينا.

والغالب في الكتابيات أنهن يجهلن، ما قررته الشريعة الإسلامية من حقوق وواجبات لكل واحد من الزوجين على الآخر، ولهذا رأى ولاة الأمر في مصر أن يضعوا نظاما خاصا للزواج بالكتابيات ينحصر في النقاط التالية:

1- لا يتولى المأذون الزواج الخاص بالكتابيات، بل يترك أمره إلى القاضي الشرعي الذي يتولاه بنفسه، كما نصت على ذلك المادة "27" من لائحة المأذونين ونصها: ليس للمأذون أن يباشر زواج من لا ولي لها من الأيتام، ولا العقود التي يكون أحد الطرفين فيها تابعا لدولة أجنبية أو كان غير مسلم، وإنما ذلك كله من اختصاص القضاء.

2- وضع لهذا الزواج وثيقة خاصة دون فيها ما للزوج من حقوق شريعة بسبب هذا الزواج حتى تكون الزوجة على بينة من الأمر قبل الإقدام عليه، وتتلى هذه الأحكام على الزوجة، وتفهم كل ما تدل عليه، لتكون عالمة بما لها وما عليها راضية بذلك ملتزمة بما فيها ...

نصت هذه الوثيقة على ما يأتي:

أ- للزوج المسلم أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع رضيت بذلك أم كرهت.

(1/127)

ب- أن يطلق متى شاء قبلت أو عارضت وإذا طلقها طلاقا رجعيا فله أن يراجعها في أثناء العدة ولو عارضت ذلك، وإذا كان الطلاق بائنا فليس له أن يعيدها إلا بعقد ومهر جديدين إذا كانت البينونة صغرى، وإذا كانت كبرى فليس له أن يتزوجها إلا إذا تزوجت زوجا آخر، ودخل بها ثم طلقها وانتهت عدتها وأنه إذا طلقها قبل الدخول فلها نصف المهر المسمى وإن طلقها بعد الدخول فلها المهر المسمى أو مهر المثل، وإن طلقها قبل الدخول ولا تسميه للمهر فلها المتعة حسب تقدير القاضي أو اتفاقهما.

ج- له أن يلزمها بالطاعة في مسكنه الشرعي، ويمنعها من الخروج إلا بإذنه، وأنها تستحق النفقة وقت الزواج وفي العدة.

د- الأولاد الذين ترزقهم من المسلم يكونون مسلمين تبعا لدين أبيهم.

هـ- لا توراث بينها وبين زوجها المسلم إذا مات أحدهما؛ لأن شرط الإرث اتحاد الدين وأن الأولاد يرثون أباهم ولا يورثونها.

و لها حق في الحضانة إلا إذا رأى القاضي ما يمنع من بقاء الأولاد تحت سلطانها، وأن لها الحق في إرضاع أولادها، وأن أجرة الرضاعة والحضانة على أبيهم.

نكاح المجوسية 1:

اتفق أهل العلم على تحريم المسلم للمرأة المجوسية؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب بدليل ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في مجوس البحرين: "إن

__________

1 مجس: المجوسية نحلة، والمجوسي: منسوب إليها، والجمع: المجوسي. لسان العرب مادة "مجس".

والمجوس: هم الذين يعبدون النار، ويقولون إن العالم أصلان: النور والظلمة، وقيل: هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل: هم قوم يستعملون النجاسات، وقيل: غير ذلك.

تفيسر الشوكاني 3/ 443.

(1/128)

من أبى منهم الإسلام ضربت عليهم الجزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة".

نكاح الصابئة 1:

ويحرم عليه كذلك نكاح الصابئة؛ لأنها ليست من أهل الكتاب وأقول: لقد انتشر في عصرنا الحاضر الكثير والكثير من شبابنا المسلم في الكثير من الدول الأوروبية يرغبون في الزواج بغير المسلمة زاهدين في المسلمات الطاهرات وهذه فتنة عظيمة.

وأعظم منها: أن اليهود والنصارى يرغبون بناتهم في التزويج بالمسلمين لتنصيرهم وإبعادهم عن دينهم، فإذا نكحت أحداهن مسلما فإنها لا تزال تدعوه إلى دينها وترغبه فيه حتى يرتد ويدخل في دينها، فإذا لم يتحقق لها ذلك فلا أقل من أنها تجعل الأولاد الذين ولدوا تحت فراش المسلم نصارى أو يهود.

لذلك فإنني أرى حرمة نكاح المسلم لغير المسلمة أيا كان دينها، وسندي في ذلك ما روي أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية بالمدائن، فكتب إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة، أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر، أعزم عليك ألا تضع كتابي حتى تخلي سبيلها فإني أخاف أن يقتد بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.

__________

1 يقال: صبأ فلان أي: خرج من دين إلى دين، وهم قوم يعبدون الملائكة وقيل: يعبدون الكواكب، وقيل غير ذلك.

تفسير ابن كثير 1/ 104 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/ 147 عالم الكتب بيروت.

(1/129)

المانع الرابع: مانع الإحرام 1:

ويحرم على المحرم بالحج والعمرة أن يتزوج أو يزوج غيره بالوكالة أو الولاية الخاصة فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

ولأن الإحرام عبادة حرمت الطيب فمن باب أولى يحرم النكاح وهل يجوز للإمام أو الحاكم أن يزوج بولاية الحكم؟

فيه وجهان:

الوجه الأول: لا يجوز كما لا يجوز أن يزوج بالولاية الخاصة.

الوجه الثاني: يجوز؛ لأن الولاية العامة أكد بدليل أنه يزوج بالولاية العامة.

المسلمة والكافرة ولا يملك ذلك بالولاية الخاصة.

شهادة المحرم على النكاح:

وشهادة المحرم على النكاح جائزة ولا تؤثر في العقد؛ لأن العقد هو الإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك.

خطبة المحرم:

ويكره للمحرم أن يخطب؛ لأن النكاح لا يجوز فكرهت الخطبة له.

مراجعة المحرم لزوجته:

يجوز للمحرم أن يراجع الزوجة في الإحرام؛ لأن الرجعة كاستدامة النكاح بدليل أنها تصح من غير ولي ولا شهود.

__________

1 أحرم بالحج والعمرة أي: حرم عليه ما كان حلال له من قبل دخوله في إحرام كالصيد والنساء. والإحرام في الشرع: نية الدخول في النسك.

(1/130)

المانع الخامس: مانع العدة 1

اتفق الفقهاء على أن النكاح لا يجوز في العدة أيا كان نوعها وكذلك اتفقوا على أنه إذا عقد رجل على امرأة في عدتها وجب التفريق بينهما دخل بها أم لم يدخل وذلك لأن نكاحها يفضي إلى اختلاط الأنساب وهو حرام، وما أدى إلى حرام فهو حرام وإذا ما نقضت العدة جاز له نكاحها.

المانع السادس: مانع التطليق ثلاثا للمطلق

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمطلق أن يعقد على امرأته التي طلقها ثلاثا مرة أخرى حتى تتزوج زوجًا آخر، ويدخل بها دخولا شرعيا ثم يطلقها بمحض إرادته، ثم تنقضي عدتها من الثاني.

لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 2.

واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل على مذهبين:

المذهب الأول: ذهب جمهور العلماء والأئمة الأربعة إلى أن الوطء الذي يبيح التحليل هو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق.

المذهب الثاني: وذهب سعيد بن المسيب، والخوارج والشيعة وداود الظاهري أنها تحل للأول بنفس العقد.

__________

1 جمع عدة مأخوذة من العدد لاشتمالها على عدد من الأقراء أو الأشهر غالبا، وشرعا: اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو للتضجع على زوجها الأول.

وشرعت صيانة للإنسان وتحصينا لها من الاختلاط رعاية لحق الزوجين والولد والناكح الثاني، والمغلب فيها جانب التعبد بدليل أنها لا تنقضي بقرء واحد مع حصول البراءة به.

2 من الآية 230 من سورة البقرة.

(1/131)

الأدلة:

أولا: أدلة الجمهور

استدلوا بما ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني، فبت طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإن ما معه مثل الهدبة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".

ووجه الدلالة: هو أن المقصود بالعسيلة في الحديث الجماع ولو لم ينزل.

ثانيا: أدلة أصحاب المذهب الثاني

استدلوا بظاهر قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 1.

الترجيح:

والراجح هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول لقوة ما استدلوا به، ولأن ما ذهب إليه أصحاب المذهب الثاني مردود ببيان النبي -صلى الله عليه وسلم- المقصود من الآية، وإجماع الأمة على أن الدخول الحقيقي شرط للحل. والله أعلم.

المانع السابع: مانع الزوجية

اتفق الفقهاء على أن الزوجية بين المسلمين، وأهل الذمة مانعة من موانع النكاح الشرعية.

لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 2.

ووجه الدلالة: هو أن الله تعالى: عطف المحصنات بالواو العاطفة على قوله تعالى: حرمت عليكم، والعطف يقتضي التشريك في الحكم، والمراد بالمحصنات ها هنا ذوات الأزواج يقال: امرأة محصنة أي متزوجة.

__________

1 من الآية 230 من سورة البقرة.

2 من الآية 24 من سورة النساء.

(1/132)

الركن الرابع من أركان النكاح: الشاهدان

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".

ووجه الدلالة: هو نفي النبي -صلى الله عليه وسلم- النكاح الذي افتقد الولي والشاهدين، والنفي يقتضي الفساد.

قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم التابعين حيث قالوا: "لا نكاح إلا بشهود".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لابد في النكاح من أربعة؛ زوج، وولي، وشاهدي عدل".

وقال إمامنا الشافعي -يرحمه الله- في كتابه الأم: لا نكاح حتى يجمع أربعا، أن ترضى المرأة وهي بالغ، وأن يرضى الزوج البالغ، وأن ينكح المرأة الولي، أو السلطان، وأن يشهد على عقد النكاح شاهدان، فإن نقص النكاح واحدا من هذا كان فاسدًا.

ولأن عقد النكاح يختلف عن بقية العقود في تجاوزه عن العاقدين إلى ثالث وهو الولد الذي يلزم حفظ نسبه خالفها في وجوب الشهادة عليه وجعلها ركنا من أركانه حفظا لنسب الولد ولأن الأبضاع يحتاط لها فأوجبت الشريعة الإسلامية صون الأنكحة عن الجحود فاشترط لعقد النكاح شاهدي عدل.

ويشترط في شاهدي عقد النكاح شروط سبعة:

الشرط الأول: أن يكونا مسلمين سواء أكانت المنكوحة مسلمة أم ذمية؛ إذ الكافر ليس أهلا للشهادة.

الشرط الثاني: أن يكونا رجلين.

قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1.

__________

1 من الآية الثانية من سورة الطلاق.

(1/133)

ووجه الدلالة: هو أن الله تعالى أمر بشاهدين في الرجعة وهي أخف حالا من النكاح فكان ذلك في النكاح أولى.

ولأن الفرج لا يسوغ فيها البذل والإباحة ومن ثم فإنها لا تستباح بشهادة النساء.

الشرط الثالث: إن يكونا عدلين ولو ظاهرًا.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل".

والعدالة التي تقيل معها الشهادة هي ملكة في النفس تمنعها من ارتكاب الذنوب، فلو كانا فاسقين فلا ينعقد النكاح بشهادتهما؛ لأن النكاح لا ينعقد بولاية الفاسق، ومن ثم فلا ينعقد بشهادته فلو عرفا بها ظاهر لا باطنا انعقد النكاح بشهادتهما؛ لأن الظاهر من المسلمين العدالة، ولأن النكاح يجري بين أوساط الناس وعوامهم فلو اعتبر في الشاهدين العدالة الباطنة لاحتاج الناس إلى معرفتها ليحضروا من يتصف بها فيطول بهم الأمر ويشق عليهم ذلك.

فلو ظهر فسق الشاهدين عند إنشاء العقد فالعقد باطل على المذهب لفوات العدالة كما لو ظهرا كافرين.

ويظهر فسق الشاهد بالبينة، أو باتفاق الزوجين، أو بعلم نفسه، ولو أقر الزوجان أن النكاح عقد بشهادة عدلين حكم عليهما بصحة النكاح بإقرارهما، ثم ادعيا أنه عقد بشهادة فاسقين لم يعتد قولهما.

ولا أثر لقولهما كنا عند العقد فاسقين؛ لأن الحق ليس لهما فلا يقبل قولهما على الزوجين.

ولو اعترف الزوج بفسق الشاهدين وأنكرت الزوجة فرق بينهما مؤاخذة له بقوله، وتعتبر فرقة فسخ على الصحيح في المذهب، فلا تنقص عدد الطلاق، لأنه لم ينشئ طلاقا ولم يقر به، وقيل: هي طلقة بائنة تنقصه، وفي تلك الحالة سواء قلنا إنها فرقة فسخ أم فرقة طلاق فعليه نصف المهر المسمى إن لم يدخل وكله إن

(1/134)

دخل بها؛ لأن حكم اعترافه مقصور عليه، ولا يرثها وترثه بعد حلفها أن النكاح عقد بشهادة عدلين.

وإن أقرت الزوجة بفسق الشاهدين وأنكر الزوج ذلك فإنه لا يفرق بينهما بل يقبل قوله عليها بيمينه؛ لأن العصمة بيده وهي تريد رفعها والأصل بقاؤها، وتؤاخذ بإقرارها بالنسبة لما يضرها فلو مات الزوج لا ترثه وإن ماتت هي أو طلقها قبل الدخول سقط المهر، وإن كان قد دخل بها فلها الأقل من المسمى أو مهر المثل، إلا إذا كانت محجورة عليها لسفهها فإن ذلك كله لم يسقط لفساد إقرارها بالمال.

الشرط الرابع: أن يكونا مكلفين أي بالغين عاقلين، فلا تقبل شهادة الصبي المجنون لأنهما لا ولاية لهما على نفسيهما، ومن ثم فلا ولاية لهما على غيرهما لأن الشهادة من باب الولاية.

الشرط الخامس: الحرية فلا ينعقد النكاح بشهادة الرقيق.

الشرط السادس: السمع.

فلا يصلح النكاح بحضور الشاهدين حتى يسمعا لفظ الولي بالبذل ولفظ الزوج بالقبول.

فإن سمعا مع البذل والقبول ذكر الصداق شهدا به وبالعقد، وإن لم يسمعا ذكر الصداق شهدا بالعقد دون الصداق.

الشرط السابع: أن يكونا بصيرين في أحد الوجهين؛ لأن الأقوال لا تثبت إلا بالمعاينة والسماع.

وفي الوجه الثاني: ينعقد النكاح بشهادة الأعمى؛ لأنه أهل للشهادة في الجملة.

والأصح انعقاد النكاح بشهادة ابني الزوجين أو ابن أحدهما وابن الآخر، وكذلك ينعقد بشهادة عدوهما أو عدو أحدهما وعدو الآخر؛ لأنهما من أهل الشهادة.

وقيل: لا ينعقد النكاح بشهادة الأبناء أو الأعداء لتعذر ثبوت النكاح بهما.

(1/135)

الركن الخامس من أركان النكاح: الولي

مدخل

...

الركن الخامس من أركان النكاح: الولي

فالولي ركن مهم في عقد النكاح لا يصح إلا به وليس للمرأة أن تنفرد بإنشاء عقد نكاحها إذن لها الولي أم لم يأذن صغيرة كانت أم كبيرة، شريفة أم غير شريفة بكرا أم ثيبا.

وبه قال من الصحابة -رضوان الله عليهم- عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة.

ومن التابعين: الحسن، وابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وشريع، والنخعي.

ومن الفقهاء: الأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وإسحاق، ومالك الشافعي وأحمد خلافا للحنفية القائلين بأن المرأة البالغة العاقلة الرشيد تزوج نفسها بنفسها ويشترط إذن الولي عند صاحبيه.

ويستدل على أن الولي ركن في النكاح لا ينعقد إلا به بالكتاب والسنة والقياس.

أولا: من الكتاب قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 1.

ووجه الدلالة على ثبوت الولاية من هذه الآية الكريمة من وجهين:

أولهما: نهي الأولياء عن العضل -الذي هو المنع- فلو جاز للنساء الانفراد بالعقد لما أثر عضل الأولياء ولما توجه إليهم النهي عن العضل.

الثاني: قوله في سياق الآية: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 2.

والمعروف ما تناوله العرف بالاختيار، وهو الولي والشاهدان ولا يجوز أن يتوجه النهي عن العضل في الآية إلى الأزواج لأمرين.

أولهما: إن عضل الزوج قبل العدة فحق لا يجوز أن ينهى عنه.

وإن عضل بعدة العدة فهو غير مؤثر.

__________

1 من الآية 232 من سورة البقرة.

2 من الآية 232 من سورة البقرة.

(1/136)

الثاني: ما روي من سبب نزول الآية الكريمة أنها نزلت في معقل بن يسار زوج أخته رجلا ثم طلقها وتراضيا بعد العدة أن يتزوجها فعضلها معقل وحلف أن لا يزوجها فنهاه الله تعالى عن عضلها وأمره أن يزوجها ففعل.

وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 1.

وقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 2.

ووجه الدلالة من الآيتين هو خطاب المولى -عز وجل- بالنكاح للرجال ولم يخاطب به النساء، فيكون المعنى زوجوا أيها الأولياء الأيم التي لا زوج لها من النساء، وكذلك نهاهم قائلا: ولا تزوجوا أيها الأولياء من لكم الولاية عليها من المشركين حتى يؤمنوا.

ثانيا: من السنة

ويستدل على ركنية الولي في النكاح من السنة، بما رواه ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة، وأنس بن مالك، وعمران بن الحصين، أبو موسى الأشعري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: $"لا نكاح إلا بولي". ووجه الدلالة: هو أن النهي فيقوله: "لا نكاح" يقتضي الفساد.

وكذلك يستدل بما روي عن عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها".

ووجه الدلالة: هو أن الحديث نص صريح في إبطال النكاح بغير ولي من غير تخصيص ولا تمييز، فدل ذلك على أن العقد يرجع إلى الولي ولا تباشره المرأة بنفسها وقال الترمذي: حديث حسن.

__________

1 من الآية 32 من سورة النور.

2 من الآية 221 من سورة البقرة.

(1/137)

وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند حسن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها".

ثالثا: من القياس

هو أن كل من كان من زوائد النكاح كان شرطا فيه كالشهود، ولأن كل عقد صارت المرأة فيه فراشا لم تملكه قياسا على الأمة، ولأن كل من عقد على نفسه واعترض عليه غيره في فسخه دل على فساد عقده كالأمة والعبد إذا زوجا أنفسهما بدون إذن السيد ولأن لولي المرأة حقين قبل بلوغها حقا في طلب الكفاءة وحقا في طلب العقد، فلما كان بلوغها غير مسقط لحقه في طلب الكفاءة كان غير مسقط لحقه في مباشرة العقد.

فدلت هذه الأدلة من الكتاب السنة والقياس على بطلان النكاح بدون ولي.

ولكن ما العمل إذا تناكح زوجان بدون ولي؟

الجواب عن ذلك أنه إذا لم يدخل بها يفرق بينهما فورًا ولا عدة عليهما ولا يتوارثان إن مات أحدهما ولا مهر لها، وإن كان قد دخل بها فلا حد عليهما سواء أكانا يعتقدان إباحة النكاح بدون ولي أو يعتقدان تحريمه أو يجهلان حكمه ويترتب على الدخول في النكاح بدون ولي ما يترتب على النكاح الصحيح من أحكام إلا في وجوب التفريق بينهما ولكنه يوجب العدة ويلحق النسب، ويثبت به التحريم بالمصاهرة ويتوراثان إن مات أحدهما.

(1/138)

شروط ولي النكاح:

ويشترط في الولي شروط:

الأول: الإسلام

فلا ولاية لكافر على مسلمة لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 1.

الثاني: البلوغ والعقل

فلا ولاية لصبي ولامجنون؛ لأنهما لا ولاية لهما على أنفسهما فمن باب أولى لا ولاية لهما على غيرهما.

الثالث: الذكورة

فلا تلي المرأة عقد النكاح لنفسها أو لغيرها أذن الولي الذكر أم لم يأذن.

الرابع: الحرية

فلا ولاية لرقيق لأنه ناقص الأهلية.

الخامس: العدالة

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي مرشد" والمراد بالرشد العدالة، ولأنه لفسقه عز عليه أن يتحرى الكفاءة في الزواج.

__________

1 من الآية 141 من سورة النساء.

(1/139)

أسباب الولاية:

للولاية في النكاح أسباب أربعة:

السبب الأول: الأبوة وفي معناها الجدودة، وهي أقوى الأسباب بكمال الشفقة، فللأب تزويج البكر الصغيرة، والكبيرة بغير إذنها، ولكن يستحب استئذان البالغة

(1/139)

لما رواه الدارقطني في سننه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يزوجها أبوها".

ووجه الدلالة: هو أن الحديث جعل الثيب أحق بنفسها من وليها أي أنها لا تجبر على النكاح ونص على أن البكر يزوجها أبوها أي يجبرها على النكاح.

وروى ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صمتها أي سكوتها".

ووجه الدلالة: هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جعل الثيب أحق بنفسها من وليها دل على أن ولي البكر أحق بها من نفسها ويكون قوله: "والبكر تستأذن في نفسها" محمول على الاستحباب دون الوجوب استطابة للنفس؛ لأنه لو كان محمولا على الوجوب لصارت أحق بنفسها من وليها كالثيب.

فالإجبار على النكاح معتبر بالبكارة لا بالصغر، ومن ثم فإن للأب أو الجد إجبار البكر على النكاح؛ لأنها لم تمارس الرجال بالوطء فهي شديدة الحياء، ولأن الولي يحتاط لموليته مخالفة العار وغيره.

ويشترط لإجبار البكر على النكاح شروط:

1- ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة.

2- أن يزوجها من كفء.

3- أن يزوجها بمهر المثل.

4- أن يكون المهر نقدا من نقد البلد.

5- أن يكون الزوج معسرا بالمهر.

6- ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرتة كالأعمى أو الشيخ الهرم.

7- ألا يكون قد وجب عليها الحج لها غرض في تعجيل براءة ذمتها منه فإن الزوج قد يمنعها لكون الحج على التراخي.

8- ألا يكون بينها وبين الزوج الذي يجبرها الولي على نكاحه عداوة ظاهرة.

(1/140)

فإن افتقد شرط من هذه الشروط فليس له إجبارها ويسن ألا تزوج البكر الصغيرة حتى تبلغ ويسن استأذن البكر الكبيرة البالغة بأن يرسل إليها نسوة ثقات ينظرن ما في نفسها والأم بذلك أولى لأنها تطالع على ما لا يطلع عليه غيرها.

والبكر: هي التي لم تفض بكارتها أو زالت بكارتها بغير الوطء كالأصبع أو حدة حدة الطمث، أو طول التعنيس، أو وطئت في دبرها أو زالت بكارتها بسقطة من أعلى إلى أسفل أو خلقت بلا بكارة.

والثيب: هي التي زالت بكارتها بوطء صحيح أو غير صحيح.

والثيب: لا يزوجها الأب إلا بإذنها والجد كالأب إن كانت بالغة وإن كانت غير بالغة فلا تزوج حتى تبلغ؛ لأن إذن الصغيرة غير معتبر فامتنع تزويجها إلى البلوغ.

وتزوج الثيب البالغة العاقلة بصريح الإذن ولا يكفي سكوتها، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي من الثيب أمرًا".

ووجه الدلالة: هو أن الأمر المراد به الإجبار والإلزام وليس للولي إجبار الثيب وإلزامها.

السبب الثاني: عصوبة من كان على حاشية النسب كالأخ والعم وبنيهما.

فليس لأحد من هؤلاء تزويج الصغيرة بكرا كانت أم ثيبا حتى تبلغ وتأذن بالنكاح.

وأما البالغة فإن كانت ثيبا، فلهم تزويجها بإذنها الصريح وإن زوجت بدون رضاها لم ينعقد النكاح.

وإن كانت بكرا فلهم تزوجيها إذا استأذنوها، وهل يكفي سكوتها أم يشترط نطقها؟ وجهان في المذهب:

أصحهما: يكفي سكوتها، وإذا اكتفينا بالسكوت حصل الرضا، ضحكت أم بكت، إلا إذا صاحب بكاؤها ما يدل على الرفض كالصياح وضرب الخد فلا يكون سكوتها رضا؛ لأن ذلك يشعر بعدمه.

(1/141)

والثاني: يشترط صريح نطقها كالثيب.

وإذا أراد تزويج البكر بغير كفء فاستأذنها، فهل يكفي سكوتها؟

وجهان:

أحدهما: يكفي سكوتها ويصح نكاحها.

والثاني: لا يكفي بل لا بد من صريح النطق كالثيب وإذا استأذنها في التزويج بدون مهر أو بأقل من مهر المثل، أو بنقد غير نقد البلد فسكتت فلا يكفي سكوتها، لتعلقه بالمال كبيع مالها.

ويجوز للمرأة أن تأذن لوليها -غير الأب أو الجد- بلفظ الإذن، ويجوز بلفظ الوكالة.

ولو أذنت له ثم رجعت لم يصح تزويجها، كالموكل إذا عزل الوكيل فإن زوجها الولي بعد العزل قبل العلم ففي صحة النكاح وجهان.

ولو قالت: رضيت إن رضيت أمي أو رضيت بما تفعله أمي فلا يكفي؛ لأن الأم لا تعقد، ولأن الصيغة الأولى صيغة تعليق وكذا لا يكفي رضيت إن رضي أبي؛ لأنه تعليق، وإن قالت: رضيت بما يفعله الولي كان إذنا.

ولو أذنت في التزويج بألف، ثم قيل لها عند العقد بخمسمائة فسكتت وهي بكر كان سكوتها إذنا في تزويجها بخمسمائة، ولو قيل ذلك لأمها وهي حاضرة فسكتت لم يكن إذنا.

السبب الثاني: الإعتاق.

فالمعتق وعصبته يزوجون كالأخ.

السبب الرابع: السلطنة.

فيزوج السلطان بالولاية العامة البوالغ ثيبات أو أبكارًا بإذنهن، ولا يزوج الصغار حتى يبلغن، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له".

(1/142)

الأحوال التي يزوج فيها السلطان:

أولا: عضل الولي القريب ولو كان الأب وإن علا.

والعضل: هو أن يمتنع الولي عن تزويج موليته.

حكمه:

صغيرة من الصغائر إلا إذا أصر الولي على الامتناع فإنه يكون كبيرة من الكبائر لإصراره عليه.

دليل تحريمه:

يستدل على تحريم العضل بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 1.

ووجه الدلالة: هو النهي عن العضل في قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} والنهي يقتضي التحريم.

متى يكون الولي عاضلا؟

يعتبر الولي عاضلا في الأحوال التالية:

- إذا طلبت البالغة العاقلة رشيدة كانت أو سفيهة تزويجها من كفء فامتنع.

- إذا دعته إلى تزويجها من عنين أو مجبوب؛ إذ لا حق له في التمتع.

- إذا دعته إلى تزويجها بأقل من مهر مثلها أو بنقد غير نقد البلد ورضيت هي بذلك؛ لأن المهر حق خالص لها.

- إذا دعته إلى تزويجها في نكاح التحليل فيرى بعض فقهاء المذهب إن كان امتناعه للخروج من الخلاف أو لقوة دليل التحريم عنده فلا إثم عليه، بل يثاب على قصده.

__________

1 من الآية 232 من سورة البقرة.

(1/143)

- لو طلبت التزويج من رجل وادعت كفاءته وأنكر الولي رفع أمرهما إلى القاضي، فإن لم تثبت كفاءته لم يعتبر عاضلا؛ لأن له حقا في الكفاءة، وإن ثبتت كفاءته ألزمه القاضي بتزويجها، فإن امتنع زوجها القاضي.

فيما عدا ذلك لو امنتع الولي لم يكن عاضلا.

ثبوت العضل عند الحاكم:

ولا يتحقق العضل حتى يمتنع الولي عن التزويج بدون وجه حق بين يدي القاضي، وذلك بأن يحضر الخاطب والولي والمرأة ويأمره القاضي بالتزويج، فيقول: لا أفعل، أو يسكت، فحينئذ يزوجها القاضي.

هذا إذا تيسر إحضار الولي عند القاضي، إما إذا تعذر إحضاره كأن هرب من القاضي أو امتنع عن الحضور بين يديه فيثبت القاضي عضله بالبينة ثم يقوم بتزويجها.

ثانيا: عند غيبة الولي الأقرب:

إذا غاب الولي الأقرب غيبة قريبة أم بعيدة فلا تنتقل الولاية إلى الولي الأبعد ولكن يزوجها السلطان بعد أن يرضى الخاطب ويحضر العقد أهلها ممن له لاية كالعصابات أولا ولاية له كالأخوال ليشاورهم الحاكم في الأمر وليسألهم عن كفاءة زوجها استطابة لنفوسهم، ولأنهم أعرف بحالها وحال الزوج فإن كان الزوج كفء زوجها الحاكم عن إذنها، وإن كان غير كفء لم يزوجها به وإن أذنت فيه ورضي أهلها؛ لأن للغائب حقا في طلب الأكفاء لها.

ويستحب للحاكم إذا تعذر تزويجها بمن يقع عليه الاختيار أن ينيب الحاضر من أوليائها، فإن لم يفعل وتفرد بالعقد جاز.

ثالثا: عند إرادة الولي تزويجها من نفسه ولا يوجد من يساويه في الولاية كأن كان الولي ابن عم ويريد أن يتزوج بابنة عمه ولا يوجد من يزوجها له ممن يساويه في الدرجة فيزوجها السلطان.

(1/144)

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح؛ خاطب، ولي، وشاهدا عدل".

ووجه الدلالة: هو جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حضور أربعة أمر معتبر في صحة النكاح وجعل الخاطب منهم غير الولي، فلم يجز أن يصح بثلاثة يكون الولي منهم خاطبا، كما لا يجز أن يكون الشاهد منهم خاطبا.

وقوله -صلى الله عليه وسلم- "لا يتزوج الرجل المرأة حتى يكون الولي غيره ولا يشتري الوالي شيئا من الغنيمة ولا والوصي شيئا من الميراث". ولأن الولي مندوب لطلب الحظ لها في التماس من هو أكفأ وأغنى فإذا زوجها من نفسه انصرف نظره إلى حظ نفسه دونها فصار ممنوعا منه.

رابعًا: إذا كان الولي محرما بحج أو عمرة

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" فإن أحرم الولي الأقرب ففي أصح الوجهين يزوجها السلطان كما لو كان غائبا سواء أكان الإحرام بالحج أو العمرة، أو بهما معا صحيحًا أم فاسدًا.

وفي الوجه الثاني: يسلب الإحرام الولاية عن الأقرب وينقلها إلى الأبعد، كما لو جن الأقرب.

خامسا: عند انعدام الولي من سائر العصبات.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له".

سادسا: تزويجه للمجنونة البالغة التي فقد المجير لها على النكاح وهو "الأب وإن علا".

(1/145)

ترتيب الأولياء في النكاح:

تقدم جهة القرابة، ثم الولاء، ثم السلطنة.

ويقدم من القراب الأب وإن علا، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق وإن سفل، ثم ابن الأخ لأب وإن سفل، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق وإن سفل ثم ابن العم لأب وإن سفل.

تولي عقد النكاح عاقد واحد:

الأصل في العقود أن يتولى إنشاءها عاقدان موجب وقابل ومن بينها عقد النكاح ولكن قد يخرج عقد النكاح عن هذا الأصل أحيانا فيتولى إنشاءه عاقد واحد موجب وقابل ولذلك:

إذا كان العاقد الجد، فهل يجوز أن يزوج ابنة ابنه الصغيرة أو الكبيرة بابن ابن آخر صغير له عليه ولاية؟

في أصح الوجهين يجوز ذلك لقوة ولايته قياسا على البيع.

والثاني: لا يصح؛ لأن خطاب الإنسان مع نفسه لا ينتظم لقوله -صلى الله عليه وسلم: $"كل نكاح لا يحضره أربعة فهو سفاح".

ويشترط لتولي الجد طرفي العقد شروط ثلاثة:

أولها: ألا يكون أبو الولد من أهل الولاية.

الثاني: أن يكون ابن الابن محجورا عليه إما لصغر سنه أو لسفهه.

الثالث: أن تكون بنت الابن بكرا صغيرة أو كبيرة أو مجنونة بكرا أو ثيبًا.

فيستفاد من الشرط الثالث أن يكون الجد مجبرا على النكاح.

ولا بد من إيجاب وقبول كالبيع، وقيل: يكفي الإيجاب وذكر بعض فقهاء المذهب أن يقول الجد عند القبول وقلبت بالواو فإن قال: قبلت لم يصح.

(1/146)

موانع الولاية:

الموانع جمع مانع، والمانع في اللغة الحاجز بين شيئين والمنع الحرمان، يقال: فلان ممنوع من كذا أي: محروم منه، ومنعه يمنعه: ضد إعطائه، والمانع في الاصطلاح، ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.

كنزول دم الحيض على المرأة البالغة العاقلة فإنه مانع من الصلاة والصيام.

وموانع ولاية النكاح ثمانية:

المانع الأول: الرق

فلا ولاية لرقيق، ويجوز أن يتوكل لغيره في قبول النكاح بإذن سيده بلا خلاف في المذهب وبغير إذنه في أصح الوجهين.

ولا يصح توكيله في الإيجاب على الأصح عند الجمهور.

المانع الثاني: ما يسلب النظر والبحث عن حال الزوج

وهو واحد من صور ستة:

الصورة الأولى: الصبا والجنون المطبق يمنعان الولاية وينقلانها إلى الأبعد، وفي الجنون المنقطع وجهان:

أصحهما: أنه كالمطبق ويزوجها الولي الأبعد يوم جنون الأقرب، لبطلان أهليته.

والثاني: لا يزيله كالإغماء، فعلى هذا ننتظر حتى يفيق ثم يعقد على الصحيح.

الصورة الثانية: اختلال النظر لهرم أو خبل جبل عليه أو عارض يمنع الولاية وينقلها إلى الأبعد.

الصورة الثالثة: الإغماء الذي يدوم يوما أو يومين فأكثر ففي أحد الوجهين تنتقل الولاية إلى الأبعد.

وفي الوجه الثاني: لا تنتقل الولاية بل ننتظر إفاقته كالنائم.

أما الإغماء الذي لا يدوم غالبا فهو كالنوم باتفاق المذهب ننتظر إفاقته ولا نتنتقل الولاية إلى الأبعد.

(1/147)

الصورة الرابعة: السكران

إن كان متعديا بسكره كان فاسقا فيمنع من الولاية لفسقه، وإن لم يكن متعديا بسكره، فالمذهب أنه لا يزوج وننتظر إفاقته.

الصورة الخامسة: الأمراض والآلام الشاغلة عن النظر ومعرفة المصلحة تمنع الولاية وتنقلها إلى الأبعد.

الصورة السادسة: العمى يقدح في ولاية النكاح؛ لأنه نقص يؤثر في الشهادة فأشبه الصغر فتنتقل الولاية إلى الأبعد.

وفي أصح الوجهين لا يقدح في الولاية لحصول المقصود بالبحث والسماع.

ويجري الخلاف في ولاية الأخرس الذي له كتابة أو إشارة مفهمة فيزوج بهما، فإن لم تكن مفهمة فلا ولاية له وتنتقل الولاية إلى الأبعد.

المانع الثالث: الفسق

فسق عن أمر ربه خرج، ويتحقق الفسق بارتكاب الإنسان كبيرة من الكبائر أو الإصرار على الصغيرة، ولم تغلب طاعته على معاصيه.

والفسق مانع من ولاية النكاح سواء أكان الأب وإن علا أو غيرهما من سائر العصبات، فسق بشرب خمر أو غيره، أعلن فسقه أو لا على المذهب.

فتنتقل الولاية للأبعد، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي مرشد".

رواه الشافعي في مسنده بسند صحيح، وقال الإمام أحمد: إنه أصح شيء في الباب وقال الشافعي: والمرشد العدل.

فالفسوق يمنع الولاية؛ لأنه نقص يقدح في الشهادة كالرق في أظهرالقولين.

وفي القول الثاني: لا يمنع الولاية فيلي الفاسق تزويج موليته؛ لأن الفسقة لم يمنعوا من التزويج في عصر السلف الصالح وهذا ما صححه متأخري فقهاء المذهب وينبغي العمل به يقول الإمام الغزالي: ولا سبيل إلى الفتوى بغيره إذا الفسق قد عم البلاد والعباد، قال النووي: وهذا الذي قاله حسن وينبغي العمل به.

(1/148)

أما الحاكم فلا يقدح فسقه لأنه لا ينعزل به فيزوج بناته وبنات غيره بالولاية العامة تفخيما لشأنه.

ويزوج الفاسق نفسه؛ لأن غايته أنه يضر بنفسه يحتمل في نفسه ما لا يحتمل في حق غيره؛ ولهذا يقبل إقراره على نفسه ولا تقبل شهادته على غيره.

توبة الفاسق:

إذا قلنا: إن الفسق مانع من موانع الولاية كما في أظهر القولين فإذا تاب الفاسق عن فسقه زوج موليته في الحال.

المانع الرابع: اختلاف الدين

فلا يزوج المسلمة وليها الكافر، بل يزوجها الأبعد من أولياء النسب أو الولاء أو السلطان.

ولا يزوج الكافرة وليها المسلم بل يزوجها الكافر الأبعد، فإن لم يكن زوجها قاضي المسلمين بالولاية العامة.

والمرتد لا ولاية له على مسلمة ولا مرتدة ولا غيرها من الكافرات.

ولا فرق في ذلك كله بين أن يكون الزوج كافرًا أو مسلمًا.

المانع الخامس: الإحرام

وهو نية الدخول في النسك حجا كان أو عمرة.

والإحرام مانع من موانع ولاية النكاح فيسلب الولاية وينقلها للأبعد كالجنون في أحد الوجهين.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

وفي أصح الوجهين: أنه مجرد الامتناع دون زوال الولاية لبقاء الرشد والنظر، فعلى هذا يزوجها السلطان كما لو غاب الولي الأقرب.

(1/149)

المانع السادس: البنوة

ولا ولاية للابن على أمه وليس له أن يزوجها بالبنوة؛ لأنه يرى نكاحها عارًا، بمعنى أنه يمنع نكاحها ويراه عارا فهو لا يطلب الحظ لها في نكاح كفئها، فلذلك خرج الابن عن معنى الأولياء.

وما روي من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطب أم سلمة، قالت: يا رسول الله ما لي ولي حاضر، فقال: "ما لك ولي حاضر ولا غائب لا يرضاني"، ثم قال لابنها عمر بن أبي سلمة: "قم يا غلام فزوج أمك".

فهذا الحديث لا يفيد ولاية الابن في تزويج أمه لوجوه ثلاثة:

أحدها: أن ابنها زوجها بالعصوبة لا بالبنوة؛ لأنه كان أقرب عصبتها الحاضرين، فهو عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فكان من بني عمها يجتمعان في عبد الله بن عمر بن مخزوم.

الثاني: أن قوله -صلى الله عليه وسلم: "قم فزوج أمك" أي جئني بمن يزوج أمك؛ لأنها لم يكن لها ولي، ولأن عمر ابنها كان غير بالغ قيل: إنه كان ابن ست سنين وقيل: ابن سبع سنين، فدل ذلك على أن أمره بالتزويج إنما كان أمرًا بإحضار من يتولى التزويج.

الثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من خصوصياته أنه يتزوج بدون ولي، فأمر ابنها بذلك.

هذا بالإضافة إلى أن راوي هذا الحديث إنما هو ثابت عن عمر بن أبي سلمة، وثابت لم يلق عمر فكان منقطعا.

فإذا ما تقرر أن الابن لا يزوج أمه بالبنوة فله تزويجها بواحد من أسباب ثلاثة:

1- أن يكون عصبة لها من النسب بأن يكون ابن ابن عمها، وليس لها من هو أقرب منه.

2- أن يكون الابن قاضيا وليس لها عصبة ما فيزوجها بولاية الحكم.

(1/150)

3- أن يكون الابن وكيلا لوليها المناسب فيجوز له أن يزوجها بالوكالة لا بالولاية.

المانع السابع: السفه

السفه ضد الحلم، وأصله الخفة والحركة، وسفه تسفيها نسبه إلى السفه، ويقال: سفه نفسه، وغبن رأيه، وسفه الرجل صار سفيها.

والسفيه في إصطلاح الفقهاء: هو الذي لا يحسن القيام على شئون ماله وتدبيره، فيبذر في غير موضع الإنفاق.

والسفيه الذي بلغ غير رشيد، أو بذر ماله بعد رشده ثم حجر عليه لا ولاية له في النكاح على المذهب؛ لأنه لا يلي أمر نفسه فمن باب أولى لا يلي أمر غيره.

وقيل: يلي النكاح؛ لأنه كامل النظر في أمر النكاح، وإنما حجر عليه لحفظ ماله.

المانع الثامن: ألا يكون وصيًّا.

إذا أوصى الأب يتزوج ابنته لم يكن لوصية أن يزوجها صغيرة كانت أم كبيرة عين له الزوج أو لم يعينه.

وذلك؛ لأن ولاية النكاح قد انتقلت بموت الأب إلى من يستحقها بنفسه من العصبات فصار موصيا فيما غيره أحق به فكان مردود الوصية فبات على ما لو أوصى بالولاية على مال أولاده ولهم جد إلى غيره بطلت وصيته.

ولاية الأبعد في وجود الأقرب.

لا تنتقل الولاية إلى الولي الأبعد إلا إذا كان الأقرب يوجد به مانع من موانع الولاية السابقة، وذلك لخروج الأقرب عن أن يكون وليا فأشبه المعدوم.

فإن زال المانع للولاية عن الأقرب عادت الولاية إليه، ولو زوج الأبعد وادعى الأقرب أنه زوج بعد أهليته للولاية، فلا قول لهما -الأقرب والأبعد- وإنما القول قول الزوجين؛ لأن العقد لهما ومن ثم فلا يقبل فيه قول غيرهما.

أما إذا تيقين الولي الأبعد أن الأقرب منه لا يوجد به مانع من موانع الولاية وعقد هو فلا يصح عقده.

(1/151)

انعدام الولي:

إذا عدمت المرأة وليا مناسبا لها وكانت في بلد لا حاكم فيه وأرادت نكاح زوج.

ففي أحد الوجهين: ليس لها أن تنكح حتى تجد وليا بنسب أو بحكم كما لو عدمت الشهود لم يجز أن تتزوج حتى تجد الشهود.

والوجه الثاني: يجوز أن تزوج نفسها للضرورة، ولأن الولي إنما جعل في النكاح لنفي العار عنها بتزويجها غير الكفء فإذا عدم زال معناه.

أو تولى أمرها رجل يكون بدلا من وليها حتى لا يخلو العقد من أربعة؛ الولي، والخاطب، والشاهدين.

(1/152)

تعدد الأولياء:

إذا تعدد الأولياء من النسب وكانوا جميعا في درجة واحدة كأخوة أشقاء أو أعمام أشقاء أو لأب، وقالت: ما شاء منكم فليزوجني فيستحب أن يزوجها أفقههم بأحكام النكاح؛ لأنه أعلم بشرائطه، فإن لم يوجد فأكثرهم ورعًا؛ لأنه أشفق وأحرص على طلب الحظ، فإن لم يوجد فأسنهم لزيادة تجربته بشرط رضا الباقين لتجتمع الآراء. فإن زوجها المفضول برضاها بكفء صح ولا يحق للباقين الاعتراض عليه، وإن زوجها بغير كفء لم يصح العقد حتى يرضى الجميع بذلك، ولو أذنت لواحد منهم بعينه لم يزوجها غيره.

فإن تخاصموا ولم يرضوا بواحد منهم وقد أذنت لكل منهم والخاطب لها واحد، وجبت القرعة بينهم قطعا للنزاع فمن خرجت قرعته زوج ولا تنتقل الولاية للسلطان.

أما إذا تعدد الخاطب كأن تقدم لخطبتها أكثر من واحد في وقت احد فإنه يعتبر رضاها بالخاطب.

وإن زوجها غير من خرجت قرعته وقد أذنت لكل منهم أن يزوجها صح تزويجه في أصح وجهين للإذن فيه.

(1/152)

وفي الوجه الثاني: لا يصح ليكون للقرعة فائدة.

ولو أذنت لهم في التزويج فزوجها أحدهم بمن هو كفء لها وزوجها آخر بزوج آخر كفء لها، فللمسألة خمسة أحوال.

الحال الأولى: أن يعرف السابق منهما ببينة فهو الصحيح والثاني باطل لما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى لله عليه وسلم- قال: "إيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما".

ووجه الدلالة: هو أن العقد الأول معلوم للولي الثاني وللزوج الثاني فيكون الثاني قد تزوج امرأة في عصمة زوج فكان عقده باطل.

الحال الثانية: أن يقعا معا في وقت واحد، ففي تلك الحال العقدان باطلان، لأن الجمع بين رجلين ممتنع شرعًا.

الحال الثالثة: أن يقعا ويجهل السابق منهما والمعية كذلك فالعقدان أيضا باطلان فلأنهما إن وقعا معا تدافعا أو مرتبا فلا اطلاع على السابق منهما ,إذا تعذر إمضاء العقد لغا؛ إذ الأصل في الأبضاع الحرمة حتى يتحقق سبب الإباحة.

الحال الرابعة: أن يعرف السابق منهما ولكن لم يعلم عين السابق منهما بطل العقدان أيضا؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.

الحال الخامسة: إن علم السابق ثم نسي من هو هل هو أحمد أم محمد وجب التوقف حتى يتبين السابق منهما لجواز التذكر؛ لأننا تحققنا صحة العقد فلا يرتفع إلا بقين فيمتنعان منها فلا يحل لواحد منهما الاستمتاع بها ولا تنكح غيرهما إلا ببينونة منهما بأن يطلقاها أو يموتا عنها أو يطلقها أحدهما ويموت الآخر وتنقضي عدتها منهما ولا تبالي بطول ضررها كزوجة المفقود، ولكن من حقها طلب فسح نكاحها منهما لتضررها بسبب التوقف.

هذا كله إذا كان كُفْأين، أما إذا كان غير كفأين فنكاحهما باطل أو كان أحدهما كفء والآخر غير كفء فنكاح الكفء هو الصحيح وإن تأخر.

(1/153)

فإن ادعى كل زوج منهما أو أحدهما علمها بسبق نكاحه سمعت دعواهما؛ لئلا يتعطل حقها بشرط أن تكون ممن يقبل إقرارها بالنكاح، فإن لم تكن كذلك لم تسمع دعواهما إذ لا فائدة منها فإن أنكرت علمها به صدقت بيمينها؛ لأن اليمين توجهت عليها بسبب فعل غيرها.

وإن أقرت لأحدهما ثبت نكاحه منها بإقرارها، وتسمع دعوى الزوج الآخر وتحلف اليمين على عدم علمها بنكاحه لها.

(1/154)

الإقرار بالنكاح:

الإقرار في اللغة: مأخوذ من قر الشيء إذا ثبت، وقيل: الإقرار خلاف الجحود.

وفي الشرع: اعتراف من يصح إقراره بإثبات حق له على غيره.

والإقرار كما يقال: سيد الأدلة.

ولا يخلو الحال من أن يكون المقر بالنكاح على نفسه الزوجة أو الزوج، أو الولي.

أولا: إقرار الزوجة بالنكاح

إذا أقرت حرة مكلفة بالنكاح، ففي أظهر القولين يقبل إقرارها بشرط تصديق الزوج بلا بينة؛ لأن النكاح حقهما فيثبت لتصديقهما لا فرق في ذلك بين البكر والثيب هذا إن صدقها في إقرارها الولي باتفاق المذهب.

أما إن كذبها في إقرارها فلفقهاء المذهب ثلاث أوجه:

أولها: وهو الأصح يحكم بقولها؛ لأنها تقر على نفسها.

والثاني: لا يحكم بقولها؛ لأنها كالمقرة على الولي.

والثالث: يقبل إقرار العفيفة ولا يقبل إقرار الفاسقة.

ثانيا: إقرار الزوج بالنكاح

لو قال الخاطب لولي المرأة: زوجت نفسي ابنتك فقبل الولي انعقد النكاح إذا اعتبرنا أن كل واحد من الزوجين معقود عليه.

أما لو اعتبرنا أن المعقود عليه المرأة فقط فلا ينعقد؛ لأنه غير معهود.

ثالثا: إقرار الولي بالنكاح

لو كان الولي ممن له إنشاء النكاح المقربة عند الإقرار بغير رضاها كأن كان الأب وإن علا فقط، قبل إقراره؛ لقدرته على الإنشاء.

وإن لم يكن له الإنشاء بغير رضاها لكونه غير الأب أو الجد أو كانت ممن لا تجبر لكونها ثيبا أو الزوج ليس بكفء لم يقبل إقراره.

(1/155)

الوكالة في النكاح:

والتوكيل في النكاح جائز شرعًا.

ويستدل على جوازه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل عمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة بنت أبي سفيان لرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي بأرض الحبشة فأصدقها النجاشي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة دينارًا.

كما وكل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا رافع في تزويج ميمونة بنت الحارث الهلالية بمكة سنة سبع، فردت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب فزوجها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوكالة أبي رافع، وكان العباس زوج أختها أم الفضل.

يدل كذلك على جواز الوكالة في النكاح، وأن النكاح عقد يقصد به المعاوضة فصحت فيه الوكالة كالبيع.

بخلاف الوصية بالنكاح فإنها لم تصح لانقطاع ولاية الولي الموصي بموته فصار موجبا في حق غيره، وهو في الوكالة موكل مع بقاء حقه فصحت وكالته، وإن لم تصح وصيته.

ممن تكون الوكالة في النكاح؟

تكون الوكالة في النكاح من الزوج أو الولي فقط ولا تصح من الزوجة؛ لأنه لا حق لها في مباشرة العقد، فلم يصح منها التوكيل فيه.

توكيل الولي:

لا يجوز للولي أن يوكل في النكاح إلا من يصح أن يكون وليا فيه وهو أن يكون:

1- ذكرًا.

2- بالغا.

3- عاقلًا.

4- حرًّا.

5- مسلما.

6- رشيدًا.

فإذا ما توفرت في الوكيل بالتزويج هذه الشروط الستة صح توكيله كما تصح ولياته، فإن أخل بهذه الأوصاف الستة بأن يوكل امرأة، أو صغيرًا، أو مجنونا، أو عبدًا، أو

(1/156)

كافرًا، أو سفيها لم يجز وكانت الوكالة باطلة؛ فإن عقد بها كان العقد فاسدا، وإذا ما توفرت في الوكيل هذه الشروط الستة لم يخلُ حال الولي الموكل له من أحد أمرين:

أولهما: أن يكون ممن يجبر على النكاح كالأب والجد مع البكر، فله أن يوكل بإذنها وبغير إذنها كما يجوز له تزويجها بإذنها وغير إذنها.

لكن هل يلز الولي بتعيين الزوج للوكيل أو يرده إلى اختياره؟ فيه قولان:

القول الأول: يجوز أن يرده إلى اختياره؛ لأنه قد أقامه بالتوكيل مقام نفسه، فلم يلزمه التعيين كالتوكيل في الأموال.

لكن يجب على الوكيل أن يزوجها بمن يكون كفئا لها ويستحب استئذانها وإذنها الصمت كإذنها مع الأب.

القول الثاني: يجب على الولي تعيين الزوج للوكيل ولا يترك ذلك إلى اختياره؛ لأنه ليس للوكيل شفقة تدعوه إلى حسن اختيار الأزواج؛ ولأن الولي يعتني بدفع العار عن النسب بخلاف الوكيل.

الأمر الثاني: أن يكون الولي ممن لا يجبر على النكاح كأن كان غير الأب والجد، أو كانت المرأة ثيبا.

وفي هذه الحالة هل يلزم استئذان الولي لها في الوكالة أو لا يلزم؟ في ذلك وجهان:

الوجه الأول: يلزم استئذانها في الوكالة؛ لأن الولي نائب عنها فاشبه الوكيل الذي لا يجوز له أن يوكل فيما هو وكيل فيه إلا بإذن موكله.

ومن ثم فإن وكل الولي بدون إذنها فزوجها الوكيل بإذنها أو بدون إذنها لم يصح العقد لفساد الوكالة.

الوجه الثاني: الوكالة جائزة وإن لم يستأذنها الولي فيها؛ لأنه موكل في حق نفسه الذي ثبت له بالشرع لا بالاستنابة قياسا على عدم استئذان الأب في الوكالة، وليس للوكيل حينئذ أن يزوجها إلا بإذنها، فإن زوجها بدون إذنها كان زواجا فاسدا سواء زوجها بكفء أو بغير كفء، ولو زوجها الوكيل بإذنها من غير كفء كان النكاح باطلا سواء أجازه الولي أو لم يجيزه على الصحيح في المذهب.

(1/157)

وقيل: يصح ولها الخيار، فإن كانت صغيرة خبرت بعد البلوغ وإن كان الولي غير الأب والجد والمرأة بكرا أو ثيبا، أو كان الأب والجد والمرأة ممن لا تجبر على النكاح لكوها ثيبا فإذن المرأة للولي يتضمن صور خمسة:

الأولى: أذنت في التوكيل والتزويج، فله الأمران باتفاق المذهب.

الثانية: أذنت في التوكيل، وسكتت عن التزويج، فله التوكيل، وله كذلك التزويج في الأصح، وقيل: لا يزوج لعدم التصريح من قبلها بالإذن فيه.

الثالثة: أذنت في التوكيل ونهته عن التزويج بنفسه صراحة، بطل الإذن بالتوكيل؛ لأنها منعت الولي من تزويجها وردت التزويج إلى الوكيل الأجنبي فاشبه التوكيل منها له ابتداء.

الرابعة: أذنت له في التزويج ونهته عن التوكيل صراحة فلا يوكل.

الخامسة: أذنت في التزويج وسكتت عن التوكيل لم تأذن به أو تنهى عنه فله أن يوكل في أصح الوجهين؛ لأنه بالإذن متصرف بالولاية، وإذنها في التزويج شرط في صحة تصرفه وقد حصل.

والوجه الثاني: ليس له أن يوكل؛ لأنه يتصرف بالإذن فلا يوكل إلا بالإذن.

توكيل الزوج:

ويشترط في وكيل الزوج بالنكاح شروط ثلاثة:

1- أن يكون ذكرًا.

2- بالغا.

3- عاقلًا.

سواء أكان حرًّا أم عبدًا رشيدًا أم سفيها، وذلك لأن العبد والسفيه يقبلان النكاح لأنفسهما فصح أن يقبلاه لغيرهما.

فأما توكيل المرأة أو الصبي أو المجنون فلا يصح؛ لأنه لا يصح منهم قبوله لأنفسهم ومن ثم فلا يصح منهم قبوله لغيرهم.

(1/158)

ولو عين الزوج للوكيل امرأة بعينها لزم على الوكيل تزويجه بها دون غيرها فإن زوجه بغيرها بطل العقد؛ لأن الوكيل سفير ومعبر عن الموكل، ومن ثم وجب عليه الالتزام بما ألزمه به موكله.

بخلاف ما لو قال له: وكلتك في تزويجي بمن شئت؛ لأنه عام بشرط أن يزوجه بمن تكافئه.

اشتراط المهر في التوكيل:

إذا كان الموكل بالتزويج الولي أو الزوج فهل يشترط ذكر المهر أو لا يشترط؟

لو حدد الموكل للوكيل مهرا مقدرا لم يصح التزويج بدونه بخلاف ما لو أطلق فلا يشترط في التوكيل بقبول النكاح أو تزوجيه ذكر المهر فإن لم يذكره الزوج في التوكيل وجب على الوكيل أن يعقد له على من تكافئه بمهر المثل فما دونه، فإن عقد له بأزيد من مهر المثل صح بمهر المثل وسقطت الزيادة، وإن عقد وكيل الولي بدون ما قدر له الولي صح عقده بمهر المثل، ولو قال الولي للوكيل زوجها بشرط رهن أو ضمين بالمهر فلم يمتثل لم ينعقد تزويجه.

لفظ الوكيل في عقد النكاح:

لا يخلو الحال من أن يكون إنشاء عقد النكاح بالوكالة من طرف واحد كأن يكون منشئ العقد الولي ووكيل الزوج، أو وكيل الولي والزوج، أو يكون منشئ العقد وكيل الولي ووكيل الزوج، فإن كان منشئ العقد وكيل الولي والزوج، وجب على الوكيل أن يقول للزوج: زوجتك بنت فلان إن كانت مميزة باسم الأب وإلا فلا بد من ذكر صفتها ويرفع نسبها إلى أن تعرف معرفة تنفي الجهالة عنها. وإن كان المنشئ للعقد وكيل الزوج والولي، قال الولي: زوجت بنتي موكلك فلانا، ويقول الوكيل عن الزوج: قبلت نكاحها له، فإن لم يقل له وقع العقد للوكيل ولم ينصرف إلى الموكل بالنية بشرط أن يكون الوكيل ممن تحل له المعقود عليها. ولو جرى النكاح بين الوكيلين، فقال وكيل الولي: زوجت فلانة فلانا، فقال وكيل الزوج: قبلت نكاحها لفلان انعقد النكاح، ولو قال وكيل الزوج أولا: قبلت نكاح فلانة منك لفلان، فقال وكيل الولي: زوجتها فلانا جاز عقدهما؛ لأن تقديم القبول على الإيجاب جائز.

فإن اقتصر وكيل الولي على قوله: زوجتها لم يصح؛ لأنه لا بد من تسميتها.

(1/159)

الكفاء في النكاح

...

الكفاءة في النكاح:

تعريفها:

الكفء في اللغة النظير، والكفاءة بالمد: مصدر معناها المساواة، وكل شيء ساوى شيئا فهو مكافئ له.

وفي الاصطلاح: مساواة الرجل للمرأة في أمور مخصوصة.

حكمها والحكمة من مشروعيتها:

ليست الكفاءة شرطا في صحة النكاح بل هي حق للمرأة والولي فلهما إسقاطها، ولأنها شرعت لدفع العار عنهم.

دليل مشروعيتها:

يستدل على مشروعية الكفاءة بالسنة والمعقول.

فمن السنة:

أخرج الحاكم الدارقطني البيهقي من حديث جابر بن عبد الله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ولا يزوجهن إلا الأولياء".

أخرج الحاكم وقال: صحيح الإسناد عن عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم".

وأخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب عن رسول لله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا علي ثلاثة لا تؤخر؛ الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفئا".

ووجه الدلالة: هو أن هذه الأحاديث دلت بمجموعها على أن الكفاءة معتبرة في النكاح، وإن كان في سندها مقال: إلا أنه يقوي بعضها بعضا.

(1/160)

من المعقول:

ويستدل على مشروعيتها، من المعقول بأن في نكاح غير الكفء عار يدخل على الزوجة والأولياء ويتعداهم إلى الأولاد، فكان لها وللأولياء دفع هذا العار عنهم وعن الأولاد.

فيمن تعتبر؟

تعتبر الكفاءة في جانب الزوج حتى لا تيعر الزوجة ولا الأولياء بعدم كفاءته.

ولا تعتبر الكفاءة في جانب الزوجة إلا إذا وكل الزوج غيره في تزويجه وكالة مطلقة وجب على الوكيل أن يعقد له على من تكافئه وكذلك إذا زوج الأب أو الجد الابن الصغير فإنه يجب عليهما تزويجه بمن تكافئه في ظاهر المذهب.

في القول الثاني: يصح تزويجه بمن لا تكافئه ويثبت له الخيار إذا بلغ.

الأمور التي تعتبر فيها الكفاءة:

تعتبر الكفاءة في أمور سبعة:

الدين:

فغير المسلم ليس كفئا للمسلمة؛ بالإجماع؛ لقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} 1.

وإن اتفقا في الإسلام إلا أنهما اختلفا في التدين، فالفاسق ليس كفئا لذات الدين العفيفة؛ لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} 2.

النسب:

لقله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها، ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك".

__________

1 من الآية 20 من سورة الحشر.

2 من الآية 18 من سورة السجدة.

(1/161)

ووجه الدلالة: هو أن المراد بالحسب هو النسب، والاعتبار في النسب بالأب فمن أبوه عجمي وأمه عربية، ليس بكفء لمن أبواها عربي وأمها عجمية.

الحرية:

فلا يكون الرقيق كفئا للحرة الأصيلة، ولا عتيقة، ولا عتيق لحرة أصيلة ولا من مس الرق أحد آبائه لمن يمس الرق أحد آبائه.

السلامة من العيوب المنفرة التي لا يمكن للزوجة العيش معها إلا بتضرر، وهي خمسة يشترك الرجال والنساء منها في ثلاثة: وهي الجنون والجذام والبرص، ويختص الرجال منها باثنين: الجب، والخصاء، وفي مقابلتها من النساء: القرن والرتق.

وإنما اعتبرت هذه العيوب الخمسة في الكفاءة؛ لأنها لما أوجبت وجودها فسخ النكاح الذي لا يوجبه نقص النسب، فمن باب أولى أن تكون معتبرة في الكفاءة كالنسب.

فأما العيوب التي لا توجب فسخ النكاح وتنفر منها النفس كالعمى وقطع عضو من الأعضاء وتشويه الصورة ففي اعتبارها في الكفاءة وجهان:

أحدهما: لا تعتبر؛ لعدم تأثيرها في عقود النكاح.

والثاني: تعتبر؛ لنفور النفس منها ولحصول المعرة بها، وقد روي أن النبي -صلى الله عليه سلم- قال لزيد بن حارثة: "أتزوجت يا زيد؟ " قال: لا، قال: "تزوج فتسعتف مع عفتك، ولا تتزوج من النساء خمسا"، قال: "لا تزوج شهبرة ولا لهبرة ولا نهبرة ولا هبدرة ولا لفوتا"، قال: يا رسول الله لا أعرف ما قلت شيئا، فقال: "أما الشهبرة فالزرقاء البدينة".

وأما اللهبرة: فالطويلة المهزولة، وأما النهبرة فالعجوز المدبرة، وأما الهبدرة فالقصيرة الدميمة، وأما اللفوت: فذات الولد من غيرك".

(1/162)

السن:

إذا لم يكن هناك فارق كبير في السن بين الرجل والمرأة فلا يعتبر السن أمرا معتبرا في الكفاءة.

لكن إذا اختلافا في طرفي السن كأن كان أحدهما ابن خمس عشرة سنة والآخر فوق الخمسين مثلا ففي اعتباره في الكفاءة وجهان:

أحدهما: أنه شرط معتبر فلا يكن الشيخ الهرم كفئا للطفلة ولا المرأة العجوز كفئا للطفل، لما بينهما من التنافي ولأنه مع كبر السن تقل الرغبة وينعدم المقصود بالزوجية.

الثاني: أنه غير معتبر؛ لأنه قد يطول عمر الكبير ويقصر عمر الصغير وربما يقدر الكبير على ما يعجز عنه الصغير.

المال:

لقوله -صلى الله عليه سلم: "تنكح المرأة لأربع، ولمالها" فإن كان الزوجان ممن يتفاخرون ويتكاثرون بالأموال دون الأنساب فالمال فيهم شرط معتبر في الكفاءة.

وإن كانوا من أهل البوادي وعشائر القرى الذين يتفاخرون بالأنساب لا بالأموال ففي أحد الوجهين أن المال شرط معتبر في الكفاءة؛ لما فيه من القدرة على أمور الدنيا.

وفي الوجه الثاني: أنه ليس بشرط؛ لأنه قابل للزوال فيفتقر الغني ويتسغنى الفقير.

الحرفة:

فأصحاب الحرف الدنية ليسوا أكفاء لغيرهم، فالكناس والحارس، والراعي ونحوهم لا يكافئون غيرهم ممن هم من ذوي الجاه.

(1/163)

من صاحب الحق في الكفاءة؟

الكفاءة حق للمرأة والولي واحدا كان أو جماعة في درجة واحدة كالأخوة الأشقاء أو لأب، أو الأعمام الأشقاء أو لأب.

حكم العقد على غير الكفء:

إذا تزوجت امرأة برجل لا يكافئها لم يخلُ حال نكاحها من أقسام سبعة:

القسم الأول: أن يكون قد رضيته الزوجة وكرهه الأولياء فالنكاح باطل لاعتبار حقهم في الكفاءة.

القسم الثاني: أن يكون قد كرهته الزوجة ورضيه الأولياء فالنكاح -أيضا- باطل لاعتبار حقها في الكفاءة.

القسم الثالث: أن يكون قد رضيته الزوجة والأولياء فالنكاح جائز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوج بناته ولا كفء لهن من قريب ولا من بعيد؛ لأنهن أصل الشرف، قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت قيس المخزومية وهي بنت عمته بأن تنكح أسامة بن زيد وهو مولاه، وزوج زيد بن حارثة -رضي الله عنه- بزينب بنت جحش وهي بنت عمته أمية بنت عبد المطلب، وزوج المقداد بن الأسود بضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وقال -صلى الله عليه وسلم: "إنما زوجت مولاي زيد بن حارثة بزينب بنت جحش، والمقداد بن الأسود بضباعة بنت الزبير لتعلموا أن أكرمكم عند الله أحسنكم إسلاما"، ولأن الكفاءة معتبرة في الرجل والمرأة، فلما صح النكاح إذا تزوج الرجل بامرأة لا تكافئه صح النكاح إذا تزوجت المرأة برجل لا يكافئها.

القسم الرابع: أن يزوجها أحد الأولياء برضاها دون رضى الباقين لم يصح النكاح على المذهب، وفي قول: يصح ولهم الخيار في فسخه، وقيل: يصح قطعا، وقيل: لا يصح قطعا.

(1/164)

القسم الخامس: أن يزوجها الأقرب برضاها فليس للأبعد الاعتراض إذ لا حق له في التزويج الآن.

القسم السادس: أن يزوج الأب أو الجد بكرًا صغيرة أو بالغة غير كفء بغير رضاها، ففي أظهر القولين: أن النكاح باطل؛ لأنه على خلاف الغبطة، ولأن ولي المال لا يصح تصرفه بغير الغبطة فولي البضع من باب أولى.

وفي القول الآخر: يصح، وللبالغة الخيار في الحال، وللصغيرة الخيار إذا بلغت.

القسم السابع: أن يزوج السلطان أو نائبه من لا ولي لها برضاها بغير كفء لم يصح النكاح في الأصح؛ لأنه نائب عن المسلمين ولهم حظ في الكفاءة، والثاني: يصح كالولي الخاص.

نقصان مهر المثل:

إذا رضيت المرأة بالنكاح بأقل من مهر مثلها لم يكن للأولياء الاعتراض عليها فيه ولا أن يمنعوها من النكاح لنقصه، فإن منعوها صار المانع لها عاضلا وزوجها الحاكم.

ويستدل على ذلك بما أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح من حديث عامر بن ربيعة أن امرأة تزوجت من نعلين فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها: "أرضيت من نفسك ومالك بهاتين النعلين؟ " قالت: نعم، فأجازه.

ووجه الدلالة من الحديث أنه اعتبر رضاها به دون الأولياء وأنه لم يسأل هل هذا مهر مثلها؟ فدل ذلك على أن نقصان المهر ورضا الأولياء غير معتبرين.

(1/165)

الخيار في النكاح والرد بالعيب:

الخيار في اللغة: طلب خير الأمرين أو الأمور.

وفي الاصطلاح: أن يكون أحد العاقدين أو لكليهما حق إمضاء العقد أو فسخه.

وعقد النكاح من العقود اللازمة طالما أنه قد استوفى أركانه وشروطه ومن ثم فلا ويثبت فيه لواحد من الزوجين خيار المجلس ولا خيار الشرط إلى ثلاث بخلاف

(1/165)

البيع، وذلك لأن الخيار موضوع لاستدراك المعاينة في الأعواض، وليس النكاح منها: لجوازه مع الإخلال بذكر العوض -الصداق- فإن شرط فيه خيار الشرط إلى ثلاث أبطله قولًا واحدًا في المذهب ولكن يدخل عقد النكاح الخيار بأسباب متفق عليها بين فقهاء المذهب وأسباب مختلف فيها بينهم.

أولا: أسباب الخيار المتفق عليها ثلاثة

1- العيب.

2- التغرير.

3- العتق.

العيوب المثبتة للخيار ثلاثة أقسام:

القسم الأول: عيوب يشترك فيها الرجال مع النساء وهي ثلاثة:

الجنون: وهو زوال الشعور من القلب مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء.

فإذا وجد أحد الزوجين بالآخر جنونا سواء أكان مطبقا أم متقطع ثبت له الخيار، بخلاف الإغماء بسبب المرض فلا يثبت به خيار كسائر الأمراض، يلحق بالجنون الخبل والصرع.

الجذام: وهو علة يحمر منها العضو ثم يسود ثم ينقطع ويتناثر، ويكون في أي مكان من الجسم لكنه في الوجه أغلب، ويرجع فيه إلى قول الأطباء.

البرص: وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته.

هذا إذا كان كل من الجذام والبرص مستحكمين، بخلاف غيرهما من أوائل الجذام أو البرص، فلا يثبت به خيار.

القسم الثاني: عيوب تختص بالرجال وهي اثنتان

الجب: وهو قطع الذكر كله أو بعضه بحيث لم يتبق منه أقل من الحشفة، أما إذا كان الباقي منه قدرها بحيث يمكنه الإيلاج به فلا خيار بذلك.

(1/166)

العُنَّة: وهي أن يكون الزوج عاجزا عن الوطء في القبل خاصة، ويسمى الزوج عنينا: للين ذكره انعطافه مأخوذ من عنان الدابة للينة وتثبت العنة بإقرار الزوجة أو ببينة على إقراره؛ لأن الشهود لا يطلعون عليها وتثبت أيضا بيمينها بعد نكوله وإذا ثبت عنته ضرب القاضي له سنة تبدأ من وقت تحديد القاضي وحكمه بها وتعتبر السنة بالأهلة هكذا فعل عمر -رضي الله عنه- وأقره الصحابة على ذلك، فإذا مضت السنة ولم يجامع تبين لنا عجزه.

القسم الثالث: عيوب تختص بالنساء وهي اثنتان

الرتق: وهو انسداد محل الجماع من المرأة بلحم.

القرن: وهو انسداد محل الجماع بعظم.

وليس على الزوج إجبار الرتقاء أو القرناء على شق الموضع فإن شقته وأمكن الوطء فلا خيار له.

فإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا من هذه العيوب كان له الحق في فسخ النكاح على الفور بعد العلم به سواء أكان العيب حادثا بعد العقد أم قبله، أو بعد الوطء في غير العنة، أما هي إذا حدثت بعده فلا خيار ويقبل دعوى الجهل بأصل ثبوت الخيار أو بفوريته إن أمكن بألا يكون مخالطا للعلماء الذين يعرفون هذا الحكم.

ويستدل على ذلك بما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما -أن النبي -صلى الله عليه سلم- تزوج امرأة من بني بياضه فوجد بكشحها بياضا فردا، وقال: "دلستم علي".

ووجه الدلالة: هو أنه لما نقل عنه -صلى الله عليه وسلم- العيب والرد وجب أن يكون الرد؛ لأجل العيب.

وروى ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اجتنبوا من النكاح أربعة: الجنون، والجذام، والبرص، والقرن".

(1/167)

ووجه الدلالة: هو أن تخصيصه لهذه العيوب الأربعة من عيوب النكاح يدل على اختصاصها بالفسخ.

ثبوت العيب عند الحاكم:

ويشترط في الفسخ بالعيب الرفع إلى الحاكم؛ لأنه مجتهد في الأصح، قياسا على الفسخ بالإعسار بالنفقة، وقيل: لا يشترط الرفع في الحاكم، بل لكل منهما الانفراد بالفسخ، كالرد بالعيب.

الآثار المترتبة على الفسخ بالعيب.

إذا كان الفسخ بعيب من هذه العيوب قبل الدخول فإنه يسقط المهر ولا متعة لها؛ لأن العيب إن كان به فهي الفاسخة فلا شيء لها، وإن كان بها فسبب الفسخ معنى وجد فيها فكأنما هي الفاسخة.

وإن كان الفسخ بعد الدخول وكان لا يعلم بالعيب إلا بعده، فالصحيح أنه يجب المسمى، وقيل: يجب مهر المثل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها".

وتجب عليها العدة بالإصابة؛ لأن الإصابة فراش يلحق بها ولدها ولا نفقة لها في العدة سواء أكانت حاملا أم غير حامل؛ لانقطاع أثر النكاح بالفسخ.

ولا يرجع الزوج الفاسخ للنكاح بعد الفسخ بالمهر الذي غرمه على من غره من ولي أو زوجة بالعيب المقارن للعقد على الجديد في المذهب، لاستيفائه منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد.

وفي القديم يرجع به للتدليس عليه بإخفاء العيب المقارن للعقد.

أما العيب الحادث بعد العقد إذا فسخ به فلا يرجع بالمهر قولًا واحدًا في المذهب لانتفاء التدليس.

(1/168)

ثبوت الخيار بالتغرير:

التغرير في اللغة: الخداع

وفي الاصطلاح: إغراء العاقد وخديعته ليأخذ المعقود عليه وهو يظن أنه في مصلحته، بينما هو خلاف ذلك في واقع الأمر.

والتغرير إما أن يكون بالزوج، وإما أن يكون بالزوجة.

أولا: التغرير بالزوج

إذا عقد رجل على امرأة على صفة من الصفات ثم تبين له خلاف ذلك كان عقد عليها على أنها بكر ثم تبين أنها ثثيب، أو عقد عليها على أنها طبيبة ثم تبين له أنها ممرضة مثلا.

ففي أحد القولين: يثبت له خيار الفسخ ولا مهر لها ولا متعة إن لم يكن قد دخل بها، وإن كان قد دخل بها فلها مهر مثلها ولا نفقة لها في العدة حتى ولو كانت حاملا.

وهل يرجع بالمهر على من غرر به؟

ففي الجديد لا يرجع؛ لاستيفائه منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد.

وفي القديم يرجع للتدليس عليه.

والثاني: لا خيار له إن كانت حرة؛ لأن بيده طلاقها.

ثانيا: التغرير بالزوجة

إذا غرر رجل بامرأة وتزوجها على أنه حر فبان عبدا أو أنه قرشي فبان غير قرشيا وعلى أنه طبيب أو مهندس فظهر غير ذلك ففي صحة النكاح قولان:

القول الأول: أن النكاح باطل قياسا على ما لو أذنت في رجل بعينه فزوجت غيره.

(1/169)

والقول الثاني: أن النكاح صحيح ولها الخيار؛ لأنه منكوح بعينه وغرر بشيء وجد دونه فصار ذلك منه تدليسا، والتدليس في العقود يوجب الخيار ولا يوجب الفسخ كالعيوب في البيع.

وعلى كلا القولين لم يكن قد دخل بها فُرِّقَ بينهما ولا شيء عليه إن كان قد دخل بها فُرِّقَ بينهما وعليه مهر المثل ولا حد عليه ويلحقه الولد ولا نفقة لها حاملا كانت أم غير حامل.

خيار العتق:

إذا عتقت امرأة تحت رقيق كان لها الخيار في فسخ النكاح أو عدمه؛ لأنها تُعَيَّر بمن فيه رق.

لما رواه البخاري ومسلم أن بريرة عتقت تحت زوجها مُغِيث فخيرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المفارقة وبين المقام معه فاختارت نفسها.

ويثبت خيار العتق في أظهر القولين على الفور كما في خيار العيب.

وقيل: على التراخي لمدة ثلاثة أيام من حين علمها بالعتق؟ لأنها مدة قريبة تتروى فيها، إلا إذا قالت: جهلت العتق فإنها تصدق بيمينها إن أمكن بأن كان المعتق لها غائبًا، وكذا إن قالت: الخيار به في الأظهر.

فإن فسخت قبل الدخول فلا مهر لها ولا متعة، وإن فسخت بعد الدخول والوطء وجب لها المسمى للاستقرار بالوطء، ويكون المهر لسيدها.

ثالثا: أسباب الخيار المختلف فيها كثيرة

ومنها: إذا زوج الأب أو الجد بكرا بغير كفء وقلنا: بصحة النكاح فلها الخيار.

ومنها: ما لو زوج الصغير من لا تكافئه، وصححناه، فله الخيار إذا بلغ.

ومنها: ما لو ظنها مسلمة فظهرت كتابية، فله الخيار على رأي.

ومنها: أن يجد الزوج المرأة لا تحتمل الوطء إلا بالإقضاء.

ومنها: إعساره بالمهر أو النفقة.

(1/170)

الإعفاف:

تعريفه:

عف، العفة: الكف عما لا يحل ولا يجمل، والاستعفاف: طلب العفاف وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس، أي: من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها، ورجل عف وعفيف، وامرأة عفيفة.

حكمه:

إذا لم يكن الأب بحاجة إلى النكاح لضعف شهوته لم يجب على الابن تزويجه باتفاق في المذهب، وإن كان بحاجة إليه ففي جوب إعفافه بالتزويج قولان:

أحدهما: أنه لا يجب عليه إعفافه وإن وجبت عليه نفقته؛ لأن وجوب النفقة لا يقتضي وجوب تزويجه إن احتاج إليه، وبالقياس على عدم إعفاف الأم بالتزويج إن احتاجت إليه.

والقول الثاني: وهو اختيار جمهور فقهاء المذهب أن إعفافه واجب كنفقته، لعموم قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} 1.

وإعفاف الأب بالتزويج عند الحاجة إليه من باب المصاحبة بالمعروف، ويخالف إعفاف الأم؛ لأن إعفاف الأب إلزام فوجب على الابن، وإعفاف الام اكتساب فلم يجب على الابن.

من يجب إعفافه من الآباء؟

الأب وإن علا سواء أكان من العصبة كأب الأب أم كان ذا رحم كأب الأم فهما في وجوب النفقة والإعفاف سواء بشرطين:

أولهما: أن يكون فاقد مهر الحرة أو ثمن الأمة؛ لأن القادر على ذلك مستغن عن الولد.

__________

1 من الآية 15 من سورة لقمان.

(1/171)

ثانيهما: أن يكون محتاجا إلى النكاح بأن تتوق نفسه إليه وإن لم يخف الزنا أو كانت تحته من لا تعفه كالصغيرة أو العجوز الشوهاء.

وإن احتاج للنكاح لا للتمتع بل للخدمة لنحو مرض أو كبر سن وجب إعفافه.

من يجب عليه الإعفاف؟

ويجب الإعفاف على الابن بشرط أن يكون حرًّا موسرًا، فإن أعسر بذلك الابن تحملته البنت بشرط أن تكون حرة موسرة فلو تعدد الفرع وكانوا ذكورا فقط أو إناثا فقط كان الإعفاف عليهما أو عليهم أو عليهن بالسوية كما في النفقة على المعتمد.

بم يكون الإعفاف؟

يكون الإعفاف بأن يعطيه مهر حرة، أو يقول له: أنكح وأنا أعطيك المهر، ويملكه أمة تحل له أو ثمنها؛ لأن غرض الإعفاف يحصل بكل من هذه الحقوق، بشرط أن تكون المنكوحة إن كانت حرة أو المشتراه، إن كانت أمة مما تعفه ليست عجوزًا شوهاء أو معيبة؛ لأنها إن كانت كذلك فإنها لا تعفه.

ويجب على الابن ألا يسلمه المهر إلا بعد عقد النكاح على الحرة أو بعد شرائه للأمة، ويجب عليه كذلك مؤنتهما.

وليس للأب تعيين النكاح دون التسري ولا تعيين رفيعة بجمال أو نحوه كشرف بل التعيين في ذلك للولد.

ولو اتفقا -الأب والولد- على مهر، فالتعيين حينئذ للأب؛ لأنه أقرب إلى إعفافه ولا ضرر فيه على الولد.

ويجب تجديد الإعفاف إذا ماتت أو انفسخ النكاح بعيب في الزوجة أو فيه، أو بالردة أو بالرضاع كما لو كان تحته صغيرة أو أرضعته زوجته التي أعف بها لأنها صارت أم زوجته من الرضاع.

أما إذا طلقها أو أعتقها بعذر كشفاق أو ريبة ولم يكن الأب مطلاقا.

ففي أصح الوجهين يجب تجديد إعفافه كما لو ماتت.

والثاني: لا يجب؛ لأن الأب قصد بالطلاق أو بالعتق قطع النكاح.

أما لو طلق أو أعتق بغير عذر فلا يجب تجديد إعفافه قولا واحد في المذهب.

(1/172)

آثار عقد النكاح الصحيح

أولا: حقوق الزوج على زوجته

...

آثار عقد النكاح 1:

إذا انعقد النكاح مستوفيا أركانه وشروطه ترتب عليه آثاره في الحال، ومن ثم فإنه يصبح لكل من الزوجين قبل الآخر حقوق شرعية رتبها الشارع على عقد النكاح.

وهذه الحقوق منها ما هو حق للزوج، ومنها ما هو حق للزوجة ومنها ما هو مشترك بينهما.

أولا: حقوق الزوج على زوجته

يقول المولى -عز وجل: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} 2.

ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه أبو داود والترمذي وابن ماجه: "لو أمرت أحد أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها".

لقد كفلت الشريعة الإسلامية حقوق الزوج على زوجته وقررت أن له عليها حقوقا وواجبات كثيرة من أهمها:

1- حقه في الاحتباس والطاعة:

والاحتباس معناه: أن تنتقل الزوجة إلى بيت زوجها بعد العقد عليها وبعد تسليمها المهر المسمى بينهما لتكون طوع أمره ما أطاع الله فيها.

وأما حق الطاعة: فالمقصود به أن تطيع زوجها في كل ما هو من آثار الزواج وما يكون حكما من أحكامه.

__________

1 أي الحقوق المستحقة لكلا الطرفين أو لأحدهما على الآخر.

2 الآية 228 من سورة البقرة.

(1/173)

والطاعة التي أمر الشارع بها وجعلها حقا للزوج على زوجته تتحقق في أن تطيعه في غير معصية لله وأن تحفظه في نفسها وماله، وأن تمتنع عن الإتيان بشيء يضيق به الرجل، فلا تعبس في وجهه ولا تبدو في صورة يكرهها، وقد وصف الله تعالى الزوجات الصالحات المطيعات لأزواجهن فقال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} 1.

ولقد قرن النبي -صلى الله عليه سلم- طاعة الزوج بإقامة الفرائض فقال فيما يرويه أحمد والطبراني: "إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت".

فطاعة الزوج من الأعمال الموجبة للجنة، وعصيانه من الأعمال الموجبة لدخول جهنم -عياذ بالله من ذلك- ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء يَكْفُرَن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط".

وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيب فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح".

وطاعة الزوجة لزوجها ليست على الإطلاق بل هي مقيدة بقيود.

أولا: ألا تكون في معصية المولى -عز وجل- لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثانيا: أن تكون فيما يتعلق بشئون الحياة الزوجية فلو أمرها في شيء يخصها كتصرفها في بيع مالها بدون رضاها فلا يجب عليها أن تطيعه.

ثالثا: أن يقوم هو أولا بقضاء ما وجب لها عليه من الحقوق.

__________

1 من الآية 34 من سورة النساء.

(1/174)

2- حقه في التمكين والقرار في البيت:

وهذا الحق الواجب للزوج على زوجته هو في مقابل إنفاق الزوج عليها.

والتمكين: هوأن تمكن الزوجة زوجها منها بحيث تكون المعاشرة الزوجية بينهما ممكنة.

وأما القرار في البيت: فالمقصود به أن تلزم الزوجة بيت زوجها، وأن يمسكها الزوج بمنزل الزوجية ويمنعها من الخروج منه إلا بإذنه.

بشرط أن يكون مسكنا ملائما لاستقرار المعيشة الزوجية فإذا لم يكن كذلك فلا تلزم الزوجة بالقرار فيه وقرار الزوجة في بيت زوجها اللائق بها أمر تقتضيه طبيعة المرأة، فالمرأة بحسب طبيعتها معدة للإنجاب، ومن ثم فهي ملزمة برعاية أطفالها والقيام بشئون المنزل.

والرجل تقتضي طبيعته أن يسعى على الرزق وأن يجد ويعمل خارج البيت.

ونص فقهاء المذهب على أنه يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية بغير إذن زوجها إلى بيت أبيها أو أقاربها أو جيرانها لزيارة أو عيادة مريض أو تعزية أو قضاء حوائجها التي يقتضي العرف خروج مثلها لها لتعود من قريب.

وهل قرار الزوجة في بيت الزوجية يوجب عليها القيام بجميع الأعمال المنزلية من عجن وطبخ وغسل ونحو ذلك؟

من الأمور المسلم بها أن الحياة الزوجية يجب أن تقوم على التعاون المخلص بين الزوجين، فإذا كان في مقدور الزوجة القيام بخدمة بيتها كان ذلك أمرا واجبا عليها، وذلك لأن الزوج عليه أن يسعى ويكد ويعمل جاهدًا في طلب الرزق لزوجته وأولاده، فيكون في المقابل أن تقوم الزوجة بالإشراف على منزلها وخدمة بيتها إذا كانت تنظر إلى بيتها وزوجها بروح المودة والتفاهم.

فالحياة الزوجية تقوم أساسا على التعاون والإحساس بالمسئولية المشتركة بين الزوجين.

(1/175)

فها هي فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءت يوما تشكو إلى أبيها ما تعانيه من عمل في بيتها، فلم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بأن يحضر لها خادمة، وإنما قسم المسئولية بينها وبين زوجها فجعل على زوجها العمل والكسب وجعل عليها خدمة البيت.

وعلى هذا جرى العرف بين المسلمين في كل زمان ومكان طالما أنه لا يوجد بالزوجة مرض أو علة تمنعها من ذلك.

3- ولاية التأديب:

من الحقوق التي يجب للزوج على زوجته حق التأديب والتقويم عندما يصدر منها ما يدعو لذلك.

لأن الزوج هو القيم على بيته وزوجته، فولاية التأديب إذًا مما تشمله قوامة الزوج على زوجته، والمولى -عز وجل- قد جعل هذا الحق للرجل لما له، من حق التفضيل إذ إنه هو الراعي والمنفق على بيته المسئول عنه.

وولاية التأديب قد وجهت للزوج -أيضا- في مقابل عدل الزوج مع زوجته.

فإذا ما نشزت المرأة بخروجها عن طاعة زوجها فإن المولى-عز وجل- أعطى زوجها ولاية تأديبها ومقاومة هذا النشوز؛ لأنه إن تركها وشأنها فسوف تدمر بذلك الحياة الزوجية وتحولها إلى جحيم لا يطاق يقول الحق -سبحانه تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} 1.

ووجه الاستدلال من هذه الآية الكريمة: أنها تبيح للرجل أن يؤدب زوجته ويقومها عندما يبدو منها النشوز أو يخافه فبينت أن الوعظ أولا عند خوف النشوز أو عند

__________

1 الآية 34 من سورة النساء.

(1/176)

بدايته فإن لم ترجع عن نشوزها انتقل إلى الهجر في المضاجع: بأن يضاجعها -أي ينام في فراشها- ويوليها ظهره ولا يجامعها.

ويكون هذا العلاج ناجحا مع الزوجة التي تحب زوجها ويشق عليها هجره إياها، ولعل هذا ألمًا لها.

وينبغي ألا يصل هجره لها إلى أربعة أشهرحتى لا يصل لمدة الإيلاء.

فإن لم ترجع عن نشوزها انتقل إلى الوسيلة الثالثة وهي الضرب غير المبرح، فيتقي الوجه؛ لأنه موضع المحاسن، وينتقي المواضع المخوفة التي تتأثر بسرعة في جسم الإنسان، ولا يجوز أن يبلغ الضرب مقدار أدنى الحدود، وهو أربعين جلدة والعلاج بالضرب لا يلجأ إليه الإنسان إلا عندما تضيق به الحيل، وهو علاج للزوجات الشرسات اللاتي لا تجدي فيهن موعظة ولا يصلح مثلهن إلا بالضرب، فإن صلحت المرأة وعادت إلى طاعة زوجها وتركت النشوز وإلا فهناك عند الشقاق كما أمر المولى -عز وجل- أن نبعث حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما.

وهل ترك الزوجة للصلاة من النشوز؟

نعم: يعتبر ترك الزوجة للصلاة من النشوز فللزوج إن رأى زوجته، لا تصلي ولا تصوم بغير عذر شرعي أن يعظها أولا بالحسنى وعظا دقيقا نافعا بدون تشدد أو تعنت، فإن لم ترجع عن نشوزها هجرها في المضجع، وألا قام بضربها ضربا غير مبرح حتى تؤدي ما عليها من حقوق وواجبات نحو ربها ودينها.

فيروى عن علي بن أبي طالب -كرم الله جهه ورضي الله عنه- قال: في تفسير قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} 1.

قال: علموهم وأدبوهم.

__________

1 من الآية 6 من سورة التحريم.

(1/177)

نشوز الرجل وأحكامه:

يقول ربنا -جل جلاله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 1.

من المسائل التي تتصل بموضوع النشوز مسألة نشوز الزوج عن زوجته بإعراضه عنها وإظهاره الخشونة في معاملتها بعد أن كان رقيقا حسنا في المعاملة بسبب كبر سنها أو أنها أصبحت لا تلبي حاجاته المختلفة وعلى رأسها مطالب الفراش.

وعلى هذا فإنه يجوز للزوجة عند نشوز زوجها أن تصالحه على ترك شيء من قسمها أو نفقتها أو غير ذلك، ويجوز لها أن ترجع في ذلك؛ لأنها تنازلت عن حقها في القسم والنفقة بمحض إرادتها، ولها أن ترجع عن تنازلها متى شاءت.

4- تزين المرأة لزوجها:

من حق الزوج على زوجته أن تتزين له بالكحل والخضاب والطيب ونحو ذلك من أنواع الزينة.

لما رواه أحمد في المسند عن كريمة بنت همام قالت: لعائشة -رضي الله عنها- ما تقولين في الحناء؟

فقالت: كان حبيبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه لونه، يكره ريحه، وليس يحرم عليكن بين كل حيضتين أو عند كل حيضة.

ويجب على الزوجة عند التزيين أن تتجنب التبرج المنهي عنه شرعًا.

وللشيخ سيد سابق -يرحمه الله- بحث قيم في التبرج وحكمه وأسبابه ونتائجه أذكره بنصه للاستفادة منه عسى أن تعود المرأة المسلمة إلى رشدها وتتمسك بمبادئ دينها الذي فيه عزها وكرامتها.

__________

1 من الآية 128 من سورة النساء.

(1/178)

التبرج:

معناه: التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه، وأصله الخروج من البرج، وهو القصر، ثم استعمل في خروج المرأة من الحشمة وإظهار مفاتنها وإبراز محاسنها.

التبرج في القرآن: وقد ورد التبرج في القرآن في مضعين:

الموضع الأول: في سورة النور: جاء في قول الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} 1.

والموضع الثاني: ورد في النهي عنه والتشنيع عليه في سورة الأحزاب، في قوله سبحانه: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 2.

منافاته للدين والمدنية: إن أهم ما يتميز به الإنسان عن الحيوان اتخاذ الملابس وأدوات الزينة، يقول الله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 3.

والملابس والزينة هما مظهران من مظاهر المدينة والحضارة، والتجرد عنهما إنما هو ردة على الحيوانية، وعودة إلى الحياة البدائية، والحياة وهي تسير سيرها الطبيعي، لا يمكن أن ترجع إلى الوراء إلا إذا حدثت لها نكسة تبدل آراءها، وتغير أفكارها وتجعلها تعود القهقرى ناسية أو متناسية مكاسبها الحضارية، ورقيها الإنساني.

وإذا كان اتخاذ الملابس لازما من لوازم الإنسان الراقي، فإنه بالنسبة للمرأة ألزم؛ لأنه هو الحفاظ الذي يحفظ عليها دينها وشرفها وكرامتها وعفافها وحياءها، وهذه الصفات ألصق بالمرأة، وأولى بها من الرجل، ومن ثم كانت الحشمة أولى بها

__________

1 سورة النورة، الآية 60.

2 سورة الأحزاب، آية 33.

3 سورة الأعراف، الآية 26.

(1/179)

وأحق، إن أعز ما تملكه المرأة، الشرف، والحياء، والعفاف، والمحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانية المرأة في أسمى صورها، وليس من صالح المرأة ولا من صالح المجتمع أن تتخلى المرأة عن الصيانة والاحتشام، ولا سيما وأن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدها على الإطلاق، والتبذل مثير لهذا الغريزة ومطلق لها من عقالها، ووضع الحدود والقيود والسدود أمامها مما يخفف من حدتها ويطفئ من جذوتها ويذهبها تذهيبا جديرا بالإنسان وكرامته، ومن أجل هذا عُني الإسلام عناية خاصة بملابس المرأة، وتناول القرآن ملابس المرأة مفصلا لحدودها، على غير عادة القرآن في تناول المسائل الجزئية، بالتفصيل فهو يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} 1.

وتوجيه الخطاب إلى نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وبناته ونساء المؤمنين دليل على أن جميع النساء مطالبات بتنفيذ هذا الأمر دون استثناء واحدة منهن مهما بلغت من الطهر، ولو كانت طهارة بنات النبي عليه الصلاة والسلام وطهارة نسائه، ويولي القرآن هذا الأمر عناية بالغة ويفصل ذلك تفصيلا، فيبين ما يحل كشفه وما يجب ستره، فيقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} 2 إلخ الآية. حتى ولو كانت المرأة عجوزًا لا رغبة لها ولا رغبة فيها، يقول الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} 3، 4.

__________

1 سورة الأحزاب: الآية: 59.

2 سورة النور: الآية: 31.

3 يستعففن أي:

4 سورة النور: 60.

(1/180)

ويهتم الإسلام بهذه القضية، فيحدد السن التي تبدأ بها المرأة في الاحتشام فيقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه والمرأة فتنة، ليس أضر على الرجال منها، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة إذا أقبلت أقبلت ومعها شيطان، وإذا أدبرت أدبرت ومعها شيطان".

وتجرد المرأة من ملابسها وإبداء مفاتنها يسلبها أخص خصائصها من الحياء والشرف، ويهبط بها عن مستواها الإنساني. ولا يطهرها مما التصق بها من رجس سوى جهنم. يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "صفنان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليشم من مسافة كذا وكذا".

وفي عهد النبوة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بعض مظاهر التبرج، فيلفت نظر النساء إلى أن هذا فسق عن أمر الله، ويردهن إلى الجادة المستقيمة، ويحمل الأولياء والأزواج تبعة هذا.

1- عن موسى بن يسار -رضي الله عنه- قال: مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها: أين تريدين1 يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيبت؟ قالت: نعم، قال: فارجعي واغتسلي، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقبل الله صلاة من امرأة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل" 2 وإنما أمر بالغسل لذهاب رائحتها.

__________

2 أي إلى أي مكان تذهبين يا مخلوقة القهار وأمته.

3 رواه ابن خزيمة في صحيحه قال الحافظ: إسناده متصل رواته ثقات، ورواه أبو داود وابن ماجه، من طريق عاصم بن عبيد الله العمري.

(1/181)

2- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن العشاء" أي: الآخرة. ورواه أبو داود والنسائي.

وروي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد دخلت امرأة من مزينة ترفل في زينة لها في المسجد فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أنهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد" رواه ابن ماجه. وكان عمر-رضي الله عنه- يخشى من هذه الفتنة العارمة فكان يطب لها قبل وقوعها -على قاعدة: "الوقاية خير من العلاج" فقد روي عنه أنه كان يتعسس ذات ليلة فسمع امرأة تقول:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج

فقال: أما في عهد عمر فلا، فلما أصبح استدعى نصر بن حجاج فوجده من أجمل الناس وجها فأمره بحلق شعره فازداد جمالا، فنفاه إلى الشام.

سبب هذا الانحراف: وقد سبب الجهل والتقليد الأعمى الانحراف عن هذا الخط المستقيم، وجاء الاستعمار فنفخ فيه وأوصله إلى غايته ومداه، فأصبح من المعتاد عن يجد المسلم المرأة المسلمة متبدلة، عارضة مفاتنها، خارجة في زينتها، كاشفة عن صدرها ونحرها وظهرها وذراعها وساقها. لا تجد أي غضاضة في قص شعرها، بل تجد من الضروري وضع الأصباغ والمساحيق والتطيب بالطيب

(1/182)

واختيار الملابس المغرية، وأصبح "لموضات" الأزياء مواسم خاصة يعرض فيها كل لون من ألوان الإغراء والإثارة.

وتجد المرأة من مفاخرها ومن مظاهر رقيها أن ترتاد أماكن الفجور والفسق والمراقص والملاهي والمسارح والسينما والملاعب والأندية والقهاوي ... تبلغ منتهى هبوطها في المصايف وعلى البلاج.

وأصبح من الألوف أن تعقد مسابقات الجمال تبرز فيها المرأة أمام الرجال، ويوضع تحت الاختبار كل جزء من بدنها، ويقاس كل عضو من أعضائها على مرأى ومسمع من المتفرجين والمتفرجات، والعابثين والعابثات وللصحف وغيرها من أدوات الإعلام مجال واسع في تشجيع هذه السخافات، والتغرير بالمرأة للوصول إلى المستوى الحيواني الرخيص، كما أن لتجار الأزياء دورًا خطيرًا في هذا الإسفاف.

نتائج هذا الانحراف: وكان من نتائج هذا الانحراف أن كثر الفسق، وانتشر الزنى، وأنهدم كيان الأسرة، وأهملت الواجبات الدينية وتركت العناية بالأطفال، واشتدت أزمة الزواج، وأصبح الحرام أيسر حصولا ومن الحلال ... وبالجملة فقد أدى هذا التهتك إلى انحلال الأخلاق وتدمير الآداب التي اصطلح الناس عليها في جميع المذاهب والأديان.. وقد بلغ هذا الانحراف حدا لم يكن يخطر على بال مسلم، وتفنن دعاة التحلل والتفسخ، واتخذوا أساليب للتجميل واستعمال الزينة ووضعوا لها منهجا وأعدوا معهدا للتدريس هذه الأساليب نشرت جريدة الأهرام تحت عنوان "مع المرأة" ما يلي "أول معهد لتدريس تصفيف الشعر السيدات في الإسكندرية" "خبير ألماني يقوم بالتدريس في المعهد بعد شهر".

لأول مرة تقيم رابطة مصففي شعر السيدات في الإسكندرية معهدا لتصفيف شعر السيدات.. أقيم المعهد من تبرعات أعضاء الرابطة، تبرع أحدهم "بسشوار"

(1/183)

وتبرع آخر ببعض المكاوي ودبابيس الشعر والفرش.. وهكذا تكون المعهد بعد أن استأجرت له الرابطة شقة صغيرة ليكون نواة معهد كبير في المستقبل.

وقد أصدرت الرابطة "أمر تكليف" إلى جميع أعضائها أصحاب المهنة" بالحضور لإلقاء المحاضرات النظرية والقيام بالتجارب والدروس العلمية أمام طلاب المعهد.

افتتح المعهد صباح أمس في مقر الرابطة في كليوباترا قام أحد أعضاء الرابطة بإلقاء محاضرة في كيفية قص الشعر، وبعض الطرق في فن القص، ثم قام بعمل تسريحة جديدة من تصميمه سماها "الشعلة" لإحدى "المنيكانات" وكان يشرح التسريحة وهو يقوم بها.

سيدرس في المعهد فن تصفيف الشعر، والصباغة، والألوان، والقص، وتقليم الأظافر، والمساج، والتدليك، يقول رئيس الرابطة في القاهرة وضيف رابطة الإسكندرية: إنه أنشأ مثل هذا المعهد في القاهرة من 5 أشهر، ورغم قصر المدة أحرز المعهد نتيجة مشرفة؛ إذ إن الطلبة والطلبات يستفيدون من تبادل الأفكار بين أعضاء الرابطة، ومن عرض التسريحات وشرحها أمامهم، مما يرفع مستوى المهنة كما استفادوا أيضا من حضور بعض الخبراء الألمان ومحاضراتهم العلمية والنظرية أمام الطلبة، وسوف يحضر خبير ألماني إلى معهد الإسكندرية في الشهر القادم، كما تعقد الرابطة في الشهر نفسه مسابقة للحصول على جائزة الجمهورية في فن تصفيف الشعر، وستكون الدراسة في المعهد أسبوعية بصفة مبدئية، انتهى من نشر بالأهرام.

هذا فضلا عن الأموال الطائلة التي تستهلك في شراء أدوات التجميل، فقد بلغ عدد الصالونات في القاهرة وحدها ألف صالون لتصفيف وتجميل الشعر، ويوزع في العام 10 ملايين قلم روج وعطر وبودرة.

(1/184)

ولم يقتصر هذا الفساد على ناحية دون ناحية، بل تجاوزها إلى دور العلم، ومعاهد التربية وكليات الجامعة ... وكان المفروض أن تصان هذه الدور من الهبوط حتى تبقى لها حرمتها وكيانها المقدس، فقد جاء في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ 29/ 2/ 1962م ما يلي:

"فتاة الجامعة لا تفرق بين حرم الجامعة وصالة عرض الأزياء".

في هذه الأيام من كل عام، عندما تعلن الجامعة عن افتتاح أبوابها، تبدأ الصحف والمجلات في الكتابة عن الفتاة الجامعية وتثار المناقشات حول زيها ومكياجها.. فيطالب البعض بتوحيد زيها، ينادي آخرون بمنعها من وضع المكياج، قالت الكاتبة: وأنا لا أؤيد هذه الآراء، لإيماني بأن اخيتار الفتاة لأزيائها ينمي من شخصيتها، ويساعد على تكوين ذوقها.. والفتيات في معظم جامعات الخارج لا يرتدين زيا موحدا، ولا يحرمن من وضع المكياج، ولكني مع هذا لا ألوم كثيرا أصحاب هذه الآراء المتطرفة ... فالفتاة الجامعية عندنا تدفعهم إلى المطالبة بذلك؛ لأنها لا تعرف كيف تختار الزي والمكياج المناسبين لها كطالبة، ولا تبذل أي مجهود في هذا السبيل ... إنها لا تفرق كثيرا بين حرم الجامعة وصالة عرض الأزياء أو الكرنفال ... فهي تذهب إلى الجامعة في "عز الصباح" بفستان ضيق يكاد يمنعها من الحركة، مع الكعب العالي الذي ترتديه.. وعندما تغيره تستبدل به فتسانا واسعا تحته أكثر من "جيبونة" تشل بدورها حركة صاحبتها، وتجعلها أشبه بالأباجورة المتحركة، وهي فوق هذا إن نسيت كتبها ومجلد محاضراتها فهي لا تنسى أبدًا الحلق، والعقد، والسوار، والبروش، الذي تحلي به أذنيها وصدرها وذراعيها وشعرها في غير تناسق أو ذوق.

ثم مضت الكاتبة تقول: وهذا كله يرجع في رأيي إلى أن الفتاة الجامعية عندنا لا تأخذ الدراسة الجامعية مأخذ الجد ... فهي تضع فوقها زينتها وأناقتها ... والمفروض أن يكون العكس هو الصحيح، في وقت نالت فيه ثقافة المرأة أعلى

(1/185)

تقدير ليس معنى هذا أنني أطالب الفتاة الجامعية بإهمال ملابسها وزينتها ...

إنني أطالب بالاهتمام أولا بدروسها، ثم بتخفيف ماكياج وجهها، إن لم يكن مرعاة لحرم الجامعة، فعلى الأقل مراعاة لبشرتها التي يفسدها كثيرة الماكياج، في سن تكون نضارة الوجه فيها أجمل بكثير من الماكياج المصطنع ... ثم بعد ذلك أطالبها بالحد من استعمال الحلي، وبارتداء الملابس البسيطة التي تناسب الفتاة الجامعية كالفستان "الشيرزييه" و"التايير" ذي الخطوط البسيطة، والفستان الذي تنسدل جوبته إلى أسفل، في وسع خفيف لا يعرقل حركتها "والجوب والبلوزة، أو الجوب والبلوفر، أو الجوب والجاكت" وأن ترعي في اختيارها لهذه الأزياء الألوان الهادئة التي لا تثير "القيل والقال" بين زملائها الطلبة.

إنني إطلاب الفتاة الجامعية باتباع هذا. وأطالب أولياء أمورها بضرورة الإشراف التام على ثياب بناتهم، فالفتاة في العهد الجديد لم يعد هدفها الأول والأخير في الحياة إلا جلب الأنظار إليها "بالدندشة والشخلعة" إنها اليوم يجب أن تصقل بالثقافة والعلم والذوق السليم، فلم يعد أقصى ما تصبو إليه هو مكتب سكرتيرة تجلس عليه لترد على تليفونات المدير وإنما المجال قد فتح أمامها وجلست إلى مكتب الوزارة ... "هذا ما قالته إحدى الكاتبات في الأخبار، وهي تعتب على بنات جنسها، وتنعى عليهم هذا التصرف المعيب.

وهذه الحالة قد أثارت اهتمام زائرات القاهرة من الأجنبيات؛ إذ لم تكن المرأة الغربية تفكر في مدى الانحدار الذي تردت في المرأة الشرقية ... ففي "أهرام" 27/ مارس 1962 جاء في باب "مع المرأة" هذا العنوان: "المرأة الغربية غير راضية عن تقليد المرأة الشرقية لها" جاء تحت هذا العنوان: "اهتمام المرأة العربية بالموضات الغربية وحرصها على تقليد المرأة الغربية في تصرفاتها وفي طباعها لا تستسيغه السائحات الغربيات اللائي يحضرن لزيارة القاهرة، ولا يرفع سمعتها في الخارج كما تظن، فأصبحت عن ذلك الرأي صحفية إنجليزية زارت

(1/186)

القاهرة أخيرًا، وكتبت مقالا في مجلتها تقول: فيه: "لقد صدمت جدا بمجرد نزولي أرض المطار، فقد كنت أتصور أنني سأقابل المرأة الشرقية بمعنى الكلمة، ولا أقصد بهذا المرأة التي ترتدي الحجاب والحبرة، وإنما المرأة الشرقية المتحضرة التي ترتدي الأزياء العملية التي تتسم بالطابع الشرقي، وتتصرف بطريقة شرقية، لكنني لم أجد شيئا من هذا، فالمرأة هناك هي نفسها المرأة التي تجدها عندما تنزل إلى أي مطار أوروبي، فالأزياء هي نفسها بالحرف الواحد، وتسريحات الشعر هي نفسها والماكياج هو نفسه، حتى طريقة الكلام والمشية، وفي بعض الأحيان اللغة، إما الفرنسية أو الإنجليزية.

وقد صدمني من المرأة الشرقية أنها تصورت أن التمدن والتحضر هو تقليد المرأة الغربية، ونسيت أنها تستطيع أن تتطور وأن تتقدم كما شاءت، مع الاحتفاظ بطابعها الشرقي الجميل وفي "جمهورية" السبت 9 يونيو 1962 نشر تحت هذا العنوان: "كاتبة أمريكية تقول: امنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية المرأة" نقلت الصحيفة، تحت هذا العنوان كلاما ثمنيا صريحا، وقد بدأت فقدمت الكاتبة الأمريكية للقراء، فقالت: غادرت القاهرة الصحفية الأمريكية "هيلسيان ستانسبري" بعد أن أمضت عدة أسابيع ها هنا، وزارت خلالها المدراس، والجامعات، ومعسكرات الشباب والمؤسسات الاجتماعية، ومركز الأحداث، والمرأة والأطفال وبعض الاسر في مختلف الأحياء، وذلك في رحلة دراسة لبحث مشاكل الشباب، والأسرة في المجتمع العربي "وهيلسيان" صحفية متجولة تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية، ولها مقال يومي، يقرؤه الملايين، ويتناول مشاكل الشباب تحت سن العشرين، وعملت في الإذاعة والتليفزيون، وفي الصحافة أكثر من عشرين عاما، وزارت جميع بلاد العالم، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها.

(1/187)

تقول الصحفية الأمريكية بعد أن أمضت شهرا في الجمهورية العربية بعد أن قدمتها الجريدة هذا التقديم: "إن المجمتع العربي كامل سليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول. وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة، وتحتم احترام الأب والأم، تحتم أكثر من ذلك، عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا. ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة -وأقصد ما تحت سن العشرين- هذه القيود صالحة ونافعة، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق، ومجون أوروبا وأمريكا، امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين فقد عانينا منه في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعا معقدا، مليئا بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين، يملئون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، وإن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات "جيمس دين" وعصابات للمخدرات، والرقيق. إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي قد هدد الأسر وزلزل القيم والأخلاق فالفتاة الصغيرة تحت سن العشرين في المجتمع الحديث تخالط الشبان، وترقص "تشاتشا" وتشرب الخمر والسجائر، وتتعاطى المخدات باسم المدنية والحرية والإباحية.

والعجيب في أوروبا أمريكا أن الفتاة الصغيرة تحت العشرين تلعب.. وتلهو وتعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها، بل وتتحدى والديها ومدرسيها والمشرفين عليها، تتحداهم باسم الحرية والاختلاط، تتحداهم باسم الإباحية والانطلاق، تتزوج في دقائق

(1/188)

وتطلق بعد ساعات ولا يكلفها هذا أكثر من إمضاء عشرين قرشا وعريس ليلة أو لبضع ليال، وبعدها الطلاق.. وربما الزواج فالطلاق مرة أخرى.

علاج هذا الوضع الشاذ: ولا مناص من وضع خطة حازمة للخلاص من هذه الموبقات، وذلك باتخاذ ما يأتي:

- نشر الوعي الديني وتبصير الناس بخطورة الاندفاع في هذا التيار الشديد.

- المطالبة بسن قانوني يحمي الأخلاق والآداب، ومعاقبة من تخرج عليه بشدة وحزم.

- منع الصحف وجميع أدوات الأعلام من نشر الصور العارية، ووضع رقابة على مصممي الأزياء.

- منع مسابقات الجمال والرقص الفاجر، وتحقير كل ما يتصل بهذا الأمر.

- اختيار ملابس مناسبة أشبه بملابس الراهبات، وتكلف كل من يشتغل بعمل رسمي بارتدائها.

- يبدأ كل فرد بنفسه، ثم يدعو غيره.

- الإشادة بالفضيلة والحشمة والصيانة والتستر.

- العمل على شغل أوقات الفراغ حتى لا يبقى متسع من الوقت لمثل هذا العبث.

اعتبار الزمن جزء من العلاج؛ إذ إنها تحتاج إلى وقت طويل.

دفع شبهة: ويحلو لبعض الناس أن يسايروا التيار ويمشوا مع الركب

، زاعمين أن ذلك تطور حتمي اقتضته ظروف المدنية الحديثة، ونحن لا نمنع أن يسير التطور في طريقه، وأن يصل إلى مداه، ولكنا نخشى أن يفسر التطور على حساب

الدين والأخلاق والآداب، فإن الدين وما يتبعه من تعاليم خلقية وأدبية، إنما هو من وحي الله، شرعه لكل عصر ولكل زمان ومكان ... فإذا كان التطور جائزا في أمور الدنيا، وشئون الحياة، فليس ذلك مما يجوز في دين الله. إن الدين نفسه هو الذي فتح للعقل الإنساني آفاق الكون، لينظر فيه، وينتفع بها فيه من قوى وبركات ويطور حياته لتصل إلى أقصى ما قدر له من تقدم ورقي ... فثمة فرق كبير بين ما يقبل التطور وبين ما لا يقبله، والدين ليس لعبة تخضع للأهواء وتوجهها الشهوات والرغبات. ا. هـ.

(1/189)

ثانيا: حقوق الزوجة

المهر

...

ثانيا: حقوق الزوجة

للزوجة على زوجها بموجب عقد النكاح الصحيح حقوق وواجبات مالية، وغير مالية.

أما الحقوق المالية، فهي المهر والنفقة.

أ- المهر:

تعريفه:

هو ما وجب علي الرجل بنكاح أو وطء أو تفويت يضع قهرًا.

وله ثمانية أسماء مجموعة في قول الشاعر:

صداق ومهر نحلة وفريضة

حباء وأجر ثم عفر علائق

شرح التعريف:

ما وجب: عام يدخل فيه المال والمنفعة وكل ما يصلح أن يكن ثمنا عند البيع ويقدم من الزوج لزوجته.

بنكاح: أي بعقد وذلك في غير المفوضة.

أو وطء: يدخل في الوطء بشبهة أو في النكاح الفاسد.

أو تفويت بضع قهرًا: كأن وطئت امرأة مكرهة على الزنا.

حكمه في العقد:

ليس المهر ركنا من أركان العقد ولا شرط من شروطه وإنما هو أثر من آثاره التي تجب بعده، ومن ثم فإنه يجب بالعقد وإن لم يسم فيه أصلا.

ولكن من السنة تسميته في العقد عند إنشائه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحل نكاحه ولا نكاح بناته منه.

ويسن ألا يدخل الزوج بزوجته حتى يعطيها شيئا من المهر خروجا من خلاف من أوجبه.

(1/190)

دليل مشروعيته:

يستدل على مشروعية المهر بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

دليل مشروعيته من الكتاب:

لقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من موضع عن المهر فوصفه مرة بأنه صدقة وهدية ومرة أخرى بأنه فريضة.

قال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} 1.

وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 2.

وقال -جل شأنه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} 3.

ووجه الدلالة من هذه الآيات الكريمات أنها تقرر وجوب المهر للزوجة على زوجها، وذلك لأن الخطاب فيها جميعا موجه للأزواج حيث أمرهم المولى -عز وجل- بأن يعطوا المهور لأزواجهم عن طيب نفس بأمر الله تعالى وفرضه من غير تنازع ولا شقاق.

السنة:

ويستدل على مشروعية المهر من السنة بأن النبي -صلى الله عليه سلم- لم يعقد زواجا له ولا لبناته إلا وجد به مهرا، ولأنه لو لم يكن واجبا لتركه ولو مرة واحدة ليدل على عدم وجوبه.

__________

1 الآية 4 من سورة النساء.

2 الآية 24 من سورة النساء.

3 الآية 50 من سورة الأحزاب.

(1/191)

الإجماع:

وأجمعت الأمة على مشروعيته.

ومن المعقول:

في مشروعية الصداق إظهار لكرامة المرأة إذ بتقديمه لها يشعر الزوج بأنها شيء غال نفيس لا ينال بطريق الحلال إلا إذا دفع عصب الحياة وهو المال.

فيحرص عليها ويعالج الحياة عند التصدع والشقاق.

الحكمة من مشروعيته:

شرع المهر، وفرض على الزوج لزوجته لأسباب كثيرة من أهمها:

أوجب الشرع مهرا على الزوج لزوجته حتى لا يفرط فيها بسهولة بعد أن حصل عليها وإظهار لمكانة الزوجة في نفسه وإشعارًا له بأن الزوجة لا يسهل الحصول عليها إلا بالإنفاق والبذل.

إن الرجل في الإسلام هو الذي له القوامة على الزوجة والبيت وعليه المسئولية المنوطة بذلك، وتقديم المهر للزوجة هو أحد مظاهر تلك القوامة. إن إيجاب المهر على الزوج لزوجته يجعل الزوج يحرص جاهدا على استبقاء الحياة الزوجية قدر الإمكان ويحمله على التأني في الطلاق إن دعت إليه الحاجة، فلا يقدم عليه إلا عند الحاجة والضرورة لما يتطلب الطلاق من نفقات يتحملها الزوج مثل مؤخر الصداق الذي يدفع للمطلقة وكذلك دفع مهر لزوجة جديدة عند الرغبة في الزواج منها.

أسباب وجوبه:

ويجب المهر على الزوج بواحد من سببين:

أولهما: العقد الصحيح.

إلا أن وجوبه بالعقد الصحيح غير مستقر، أحيانا يسقط كله كما لو حصلت الفرقة بسبب من جهة الزوجة قبل الدخول بها حقيقة أو حكما كأن ارتدت عن الإسلام

(1/192)

وقد يسقط بعضه كما لو طلقت قبل الدخول بها حقيقة أو حكما وكان قد سمي لها مهرًا في العقد.

ويتأكد وجوبه بالدخول بها حقيقة أو حكما -الخلوة الصحيح أو بموت أحدهما قبل الدخل والخلوة- كما سنوضحه بعد إن شاء الله تعالى.

2- بالدخول في الزواج الفاسد كالزواج بغير شهود، أو الوطء بشبهة كأن زفت إليه امرأة على أنها زوجته ثم تبين أنها ليست بزوجته.

لقوله -صلى الله عليكم وسلم: "فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها" ولأن دخول الزوج بالزوجة دخولا حقيقا قد استوفى الاستمتاع فوجب عليه حقها أي مهرها إذا تفرقا سواء كان التفرق من جهتها أم فرق بينهما القاضي ولا تبرأ منه ذمة الزوج.

ما يصلح أن يكون مهرًا وقدره:

كل ما صلح أن يكون مبيعا عوضا أو معوضا عينا أو دينا قليلا أو كثيرا ما لم ينته في القلة إلى حد لا يتمول صح كونه مهرا مؤجلا أو حالا وما لا يصح أن يكون كذلك فلا يصح أن يكون مهرًا، فإن عقد بما لا يتمول ولا يقابل بما لا يتمول فسدت التسمية ووجب مهر المثل.

أنواع المهر:

للمهر نوعان:

النوع الأول: المهر المسمى

وهو ما سمي في العقد تسمية صحيحة واتفق الطرفان عليه، أو فرض للزوجة بعد العقد الذي خلا عن التسمية بالتراضي وكان العقد صحيحا.

النوع الثاني: مهر المثل

والمراد به مهر امرأة تماثلها أو تقاربها من نساء العصبات في السن والمال والجمال والثيوبة والبكارة والبلد، فإن لم يكن نساء عصبات اعتبر بمهر أقرب

(1/193)

النساء إليها من أرحامها، فإن لم يكن لها أقارب من النساء اعتبر بنساء بلدها، ثم بأقرب النساء شبها بها.

ويجب مهر المثل في الأحوال التالية:

إذا كان المسمى غير مال كالدم أو الميتة.

إذا كان المسمى مالا غير محترم في حق المسلم كالخمر أو الخنزير.

إذا كان المسمى مجهولا جهالة فاحشة.

إذا عقدا على ما يتفقان عليه.

إذا وطئت امرأة بشبهة أو أكرهت على الزنا أو دخل بها بموجب عقد فاسد.

أحوال وجوبه كاملا:

ويجب للزوجة المهر كاملا على زوجها سواء أكان المسمى أم مهر المثل بواحد من أمور ثلاثة:

الأول: الدخول الحقيقي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها" ولأن الزوج بدخوله بمن تزوجها دخولا حقيقيا يكون قد استوفى المقصود بالزواج وهو الاستمتاع بزوجته فوجب لها في المقابل المهر ولأن وطء الشبه يوجب المهر ابتداء فذلك من باب أولى سواء وطئ الزوج زوجته بعد الدخول بها وطئا حلالًا أم حرمًا كأن كانت حائضا أو محرمة بالحج أو بالعمرة، ولا يستقر المهر كاملا بوطئه فيما دون الفرج كوطئه في الدبر ولا باستدخاله المني في فرجها بدون جماع، ولا بإزالة بكارتها بغير آلة الجماع.

الثاني: موت أحد الزوجين قبل الدخل الحقيقي وقبل الخلوة لإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- ولأنه لا يبطل به النكاح بدليل التوارث وإنما هو نهاية له.

الثالث: الخلوة الصحيحة: وهي أن يجتمع الزوجان بعد العقد الصحيح في مكان يأمنان فيه من دخول الغير عليهما أو اطلاعه عليهما بدون إذنها، ولا يوجد هناك

(1/194)

مانع حسي، أو شرعي أو طبيعي يمنع الزوج من الوطء لزوجته في القديم في المذهب.

وعلى الجديد في المذهب وهو الأظهر أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر لا ولا تؤثر فيه.

تنصيفه:

يجب للزوجة نصف الصداق ويسقط نصفه بواحد من أمرين:

أولهما: إذا عقد الزوج على زوجته عقدا صحيحا وفرض لها مهرا عند العقد برضاهما ثم طلقها قبل الدخول بها دخولا حقيقيا أو الخلوة الصحيحة على القديم في المذهب وجب لها نصف المسمى وسقط النصف الآخر، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 1.

تعويضا للزوجة عما لحقها من ضرر معنوي وجبرا لها وتخفيفا للحزن والأسى الذي أصابها بسبب من قبل الزوج، وأوجب الشرع على الزوجة أن تتنازل عن نصف ما كانت تستحقه لأنها لم تفقد شيئا.

الثاني: إذا حدثت الفرقة بينهما قبل الدخول الحقيقي أو الحكمي بسبب من جهة الزوج كالفرقة بسبب اللعان، أو الإيلاء، أو الفرقة بسبب امتناع الزوج عن الإسلام بعد إسلام الزوجة، أو وطئها أبوه أو ابنه بشبهة وهي تظنه زوجها.

سقوط المهر كله:

إذا وجب للزوجة على زوجها المهر بواحد من موجباته سالفة الذكر فإنه يسقط كله عن الزوج ولا يجب للزوجة عليه شيئا بواحد من أمور خمسة:

1- إذا أبرأت الزوجة زوجها قبل الدخول أو بعده بشرط أن تكون من أهل التبرع، وبشرط أن يكون المهر دينا في الذمة كالنقود وجميع المكيلات والموزونات إذا لم تكن معينة ولا مقصودة لذاتها.

__________

1 من الآية 237 من سورة البقرة.

(1/195)

2- إذا كانت الفرقة بسبب من جهة الزوجة كأن ارتدت عن الإسلام، أو امتنعت عن الدخول في الإسلام بعد إسلام زوجها، أو فسخ الزواج بناء على طلب ولي أمر الزوجة لعدم كفاءة الزوجة أو لنقصان المهر عن مهر المثل.

3- إذا كانت الفرقة من جهة الزوج قبل الدخول أو الخلوة الصحيحة وكانت الفرقة فسخا بسبب خيار البلوغ أو خيار الإفاقة من الجنون والعته وذلك إذا كان المزوج له حال صغره أو جنونه غير الأب أو الجد ثم يبلغ أو يفيق فيختار نفسه قبل الدخول حقيقة أو حكما، لما له من حق الخيار وطلب الفرقة بينه وبين زوجته فعند ذلك لا حق للزوجة في شيء من المهر.

4- إذا وهبت الزوجة مهرها كله للزوج وهي من أهل التبرع وقيل الزوج الهبة في المجلس، سواء قبضت الزوجة المهر أم لم تقبضه، وسواء أكان المهر عينا أم دينا.

5- إذا فسد العقد بسبب من الأسباب المقتضية لفساد كأن كان العقد بدون شهود، وحصلت الفرقة بينهما من تلقاء نفسها أو فرق القاضي بينهما قبل الدخول الحقيقي.

نكاح التفويض:

التفويض: التزويج بلا مهر، وفوضت المرأة بضعها أي: أذنت لوليها في تزويجها بغير تسمية مهر.

المفوضة: لا يجب لها المهر بالعقد، ولها أن تطالب بفرضه فإن فرض لها كان المسمى في جميع ما ذكر، وإن لم يفرض حتى دخل بها وجب لها مهر المثل.

وإن مات أحدهما قبل الفرض ففي أحد القولين يجب لها مهر المثل، والثاني: لا يجب وإن طلقها قبل الفرض وجب لها المتعة.

(1/196)

المتعة وأحكامها:

تعريفها:

المتعة: بضم الميم وحكي كسرها مشتقة من المتابع وهو: ما يستمع به.

وفي الشرع: اسم للمال الذي يدفعه الزوج لزوجته لمفارقته إياها.

دليل مشروعيتها:

يستدل على مشروعية المتعة بقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} 1.

ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى رفع الحرج عن المطلق قبل الدخول بقوله -سبحانه وتعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

وذلك إذا خلا النكاح عن التسمية، فقد أمر المولى -عز وجل- الأزواج بإعطاء المرأة تعويضا لها وإشعارًا بأن الزوج لا بد وأن يعوضها عما يكون قد فاتها لمجرد الإعلان عن زواجها منه حتى ولو لم يتم الزواج.

وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 2.

حكمها:

باتفاق في المذهب تجب المتعة للمطلقة قبل الدخول بها والتي لم يفرض لها مهرا. أما المطلقة بعد الدخول سمي لها مهرا أم لم يسم له ففي القديم في المذهب لا متعة لها؛ لأن الله تعالى علق وجوب المتعة على شرطين: هما عدم المهر، وعدم الدخول فلا يجوز أن تجب بفقدهما.

__________

1 الآية 236 من سورة البقرة.

2 الآية 241 من سورة البقرة.

(1/197)

وعلى الجديد من المذهب تجب لها متعة لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 1.

ووجه الدلالة: هو أن قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} عام فيبقى على عمومه إلا ما خصه الدليل في المطلقة قبل الدخول وليس لها مهر مسمى، ولأنه طلاق لم يسقط به شيء من المهر فجاز أن تجب لها المتعة كالمطلقة قبل الفرض وقبل الدخول.

وكل فرقة وردت من جهة الزوج أو من جهة أجنبي كالرضاع فحكمه حكم الطلاق في وجوب المتعة.

وكل فرقة وردت من جهة الزوجة أو بسببها كردتها أو فسخ النكاح لوجود عيب فيها من العيوب الموجبة للفسخ فلا متعة لها وذلك لأنها لا يجب لها مهرًا وبالتالي لا تجب لها متعة.

قدرها:

تقدير المتعة يرجع إلى الحاكم أو نائبه حسبما يرى على الموسع قدره على المقتر قدره، وقيل: يختلف باختلاف حال المرأة.

إعسار الزوج بالمهر:

إذا أعسر الزوج بالصداق قبل الدخول ثبت للزوجة بعساره الحق في فسخ النكح أو عدم فسخه.

وإن أعسر به بعد الدخول ففي أحد القولين يثبت لها الحق في فسخ النكاح، وفي القول الثاني لا حق لها في ذلك وعليها أن تنذره إلى ميسرة.

الاختلاف في الصداق:

الاختلاف في القبض:

إن اختلفا في قبضه فالقول قولها مع اليمين؛ لأن الأصل عدم القبض، وإن كان قد دفع لها شيئا وادعى أنه من المهر وادعت المرأة أنه هدية فإن اتفقا على أنه لم

__________

1 الآية 241 من سورة البقرة.

(1/198)

يتلفظ بشيء عند تقديمه لها، فالقول قوله من غير يمين؛ لأن الهدية لا تصح بغير قول، وإن اختلفا في اللفظ فادعى الزوج أنه قال: هذا من صداقك وادعت المرأة أنه قال: هو هدية، فالقول قول الزوج؛ لأن الملك له.

الاختلاف في قدره أو في أجله أو في جنسه أو في عينه:

إن اختلفا في قدره كأن يقول الزوج عقدت بمائة فتقول الزوجة بل بمائتين، أو في جنسه كأن يقول الزوج تزوجتك على دراهم فتقول الزوجة: بل على دنانير، أو في أجله كأن يقول الزوج بمهر مؤجل، فتقول الزوجة بل بمهر حال، أو في عينه كأن يقول الزوج: تزوجتك بمهر قدره عشرة جمال فتقول الزوجة: بل بمهر عبارة عن منزل من طابقين.

فإن كان مع أحدهما بينة حكم له بها؛ لأن البينة على من ادعى، وإن لم يكن معهما بينة أو كان مع كل منهما بينة تعارض بينة الآخر فإنه لم يعتد بهما لتعارضهما ويتحالفان عند الحاكم؛ لأن الأيمان في الحقوق لا يستوفيها إلا الحاكم ويبدأ الزوج باليمين لقوة جانبه بعد التحالف ببقاء البضع له.

ثم بعد التحالف لا يفسد النكاح بل يسقط المسمى المختلف فيه لمصيره بالتحالف مجهولا ويجب مهر المثل حتى ولو زاد على ما دعته؛ لأنهما لما تحالفا وجب رد البضع فوجب بدله كالمبيع التالف.

لا خلاف في ذلك بين أن يختلف الزوجان قبل الدخول أو بعده أو يكون المختلف أحدهما مع ورثة الآخر أو مع ورثتهما معا، أو المختلف الزوج مع ولي الصغيرة البكر.

قبض المهر:

إذا كانت الزوجة بكرًا صغيرة أو كبيرة يلي أبوها بضعها ومالها كالمجنونة والسفيهة تولى الأب قبض المهر بنفسه؛ لاستحقاقه الولاية على مالها ولو قبضته من زوجها لم يصح ولم يبرأ الزوج منه إلا أن يبادر الأب إلى أخذه منها فيبرأ

(1/199)

الزوج حينئذ منه فإن كانت ثيبا لا تجبر على النكاح فليس للأب قبض مهرها إلا بإذنها فإن قبضه بغير إذنها لم يبرأ الزوج منه.

وإن كانت بكرا يجبرها أبوها على النكاح فالصحيح في المذهب أنه لا يملك قبض مهرها إلا بإذنها، وقيل: له قبض مهرها لأنه يجبرها على النكاح كالصغيرة.

المهر وجهاز المرأة:

من المسائل التي لها علاقة وثيقة بموضوع المهر مسألة تجهيز المرأة بما تحتاجه من أثاث منزلي أو ملابس وغير ذلك عند زفافها على زوجها فهل تجهيز بيت الزوجية مسئولية الزوج أم أن المرأة ملزمة شرعا بشراء ما يحتاجه بيت الزوجية من أثاث من مهرها أو مالها أو مال أبيها؟

يقول المولى -عز وجل: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} 1.

فهذا خطاب من المولى -عز وجل- لأولياء النساء، وذلك لأن العرب في الجاهلية كانت لا تعطي النساء من مهورهن شيئا، ولذلك كان إذا ولد لواحد منهم بنتا يهنئونه بقولهم: هنيئا لك النافجة: أي أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك، وقال بعض علماءاللغة: النافجة: ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر الأولياء بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول جمهور العلماء وأهل اللغة.

فدلت الآية الكريمة على أن المهر حق خالص للمرأة ولا يجوز لأحد أن يأخذ منه شيئا.

وفي الحديث المتفق عليه من حيث سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله جئت أهب نفسي لك، فقامت طويلا فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك حاجة بها،

__________

1 من الآية 4 من سورة النساء.

(1/200)

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ " فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك" الحديث.

يقول ابن عبد البر -يرحمه الله: في هذا الحديث دليل على أن ما يصدقه الرجل لزوجته لا يملك شيئا منه، وأنه للمرأة دونه، ألا ترى إلى قوله: "إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك".

وأقول: من خلال النص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف يفهم أن المهر حق خالص للزوجة ليس لأبيها ولا لزوجها، ولا لأحد حق فيه ومن ثم فلا تلزم شرعا بشراء ما يحتاجه بيت الزوجية من جهاز أو متاع إنما ذلك على الزوج، ولكن تعارف أهل مصر قديما وحديثا على قيام الزوجة بشراء ما يحتاجه بيت الزوجية من أثاث منزلي بما قبضته من مهر وربما يزيد عنه على أن يكون هذا الجهاز ملكا خاصا لها وللزوج وغيره جواز الاتنفاع به بإذنها ما دامت الزوجية قائمة بينهما وأبقت الزوجة الجهاز في بيت الزوجية.

وما تعارف عليه أهل مصر لا يتعارض مع الشرع بل هناك من الشرع ما يؤيده فروى السنائي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: جهز النبي -صلى الله عليه سلم- فاطمة في خميل قطيفة، أي ثوب له وبر من أي شيء، وقربة، ووسادة حشوها إذخر: أي نبات طيب الرائحة تحشى به الوسائد.

كما تعارف أهل مصر حديثا على كتابة ما يسمونه بقائمة الجهاز التي تأخذها الزوجة على الزوج لإثبات ملكيتها لأثاث بيت الزوجية عند حدوث شقاق بينهما.

وقد اعتبر واضعو قانون الأحوال الشخصية العرف في ذلك فجاء في المادة 66 منه: أن الزوجة تلزم بتجهيز نفسها بما يتناسب وما تعجل من مهر قبل الدخول ما لم يتفق على غير ذلك، فإذا لم يجعل شيء من المهر فلا تلزم بالجهاز إلا بمقتضى الاتفاق أو العرف.

(1/201)

اختلاف الزوجين أو ورثتهما في ملكية متاع البيت أو بعضه:

إن اختلاف الزوجان حال حياتهما في ملكية الجهاز والأثاث المنزلي ومع أحدهما بينة تثبت ملكيته له حكم له بها وكذلك إن اختلف أحدهما مع ورثة الآخر أو ورثتهما بعد وفاتهما وإن لم يكن تمت بينة الجهاز يقسم بينهما نصفين أو بين ورثتهما بغض النظر عما يصلح للجار وما يصلح للنساء.

(1/202)

النفقة تعريفها وسبب وجوبها ودليله

...

ب- النفقة:

من الحقوق المالية الواجبة للزوجة على زوجها النفقة.

تعريفها:

النفقة لغة: الصرف يقال: أنفق ماله أي صرفه ولا تستعمل إلا في الخير.

وفي الاصطلاح: اسم لما يصرفه الإنسان على زوجته وعياله وأقاربه من طعام وكسوة ومسكن وخدمة.

والمراد بنفقة الزوجة: كل ما تحتاج إليه لمعيشتها من طعام وكسوة ومسكن وخادم وكل ما تحتاج إليه من فرش وغطاء حسبما تعارف أهل كل زمان ومكان. ويقول صاحب المغني المحتاج: والحقوق الواجبة للزوجية سبعة: الطعام، الإدام والكسوة وآلة التنظيف ومتاع البيت والسكنى وخادم إن كانت ممن تخدم.

سبب وجوبها للزوجة ودليله:

على الجديد في المذهب تجب نفقة الزوجة على زوجها بالتمكين التام من نفسها؛ لأنها سلمت ما ملك عليها وهو البضع فتستحق ما يقابله من الأجرة لها.

ولا تجب بمجرد العقد فقط، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عقد على السيدة عائشة -رضي الله عنها- وهي بنت ست سنين، ودخل بها بعد سنتين، ولم ينقل أنه أنفق عليها قبل الدخول بها، ولو كانت النفقة حقا لها لقدمها إليها، ولو قدمها لنقل إلينا.

وعلى القديم في المذهب تجب بالعقد وتستقر بالتمكين.

(1/202)

ويستدل على وجوبها بالكتاب والسنة والإجماع.

فمن الكتاب قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 1.

ووجه الدلالة هو أن الله تعالى جعل القوامة للرجل على المرأة والقيم على غيره هو المتكفل بأمره.

وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 2.

ووجه الدلالة: هو أن الله تعالى أمر الأزواج بإسكان المطلقات في فترة العدة من حيث سكنوا من سعهم وطاقتهم والأمر للوجوب، فإذا كان الأمر بالإسكان والرعاية هنا للمطلقات، فمن باب أولى يجب للزوجات عند قيام الزوجية حقيقة أو حكما.

ومن السنة: ما رواه جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: في خطبة الوداع: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".

ومنها: أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلا: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا كسيت".

ومنها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهند زوجة أبي سفيان: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

ووجه الدلالة هو أن هذه الأحاديث دلت بمجموعها على وجوب نفقة الزوجة على زوجها.

__________

1 الآية 34 من سورة النساء.

2 الآية 6 من سورة الطلاق.

(1/203)

وانعقد إجماع الأمة من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل العصور على ذلك حتى عصرنا الحاضر مستندين إلى الأدلة الشرعية التي دلت على ذلك كما أجمعت الأمة على أنه إذا امتنع الزوج من الإنفاق على زوجته التي مكنته من نفسها بدون مبرر شرعي كان ظالما وألزمه القاضي بأدائها.

الحكمة من مشروعيتها:

أجب الشرع على الزوج لزوجته النفقة لحكم سامية من أهمها:

1- أن الزوجة بتمكينها للزوج من نفسها أصبحت محبوسة في بيت الزوجية لحقه وهذا الاحتباس استوجب حقا لها في الإنفاق والكسوة والسكنى.

2- أن الزوجة بالتمكين من نفسها تكون قد فرغت نفسها للحياة الزوجية من حفظ النسل والقيام على تربية الأولاد ورعاية شئون البيت، وخصصت نفسها لمنفعة زوجها، وهي بذلك لا تتمكن من الخروج للاكتساب والسعي على الرزق، فوجب لها نظير ذلك حق النفقة، عملا بالقاعدة العامة "كل من حبس نفسه لحق غيره ومنفعته فنفقته على من احتبس لأجله".

3- اقتضت حكمة المولى -عز وجل- أن يودع في الرجل القدرة على العمل والتكسب والتفوق في التدبير وحسن الأداء وجعل له القوامة والزعامة على الأسرة لذا كان واجبا عليه أن يكفي زوجته النفقة هي وأولادها وجعل الشرع نفقتها بابا من أبواب التقرب إلى الله، ومصدقا لقوله -صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك".

فالرجل يكد ويتعب في سبيل الحصول على نفقة زوجته وعياله والزوجة ألقي على عاتقها رعاية البيت والسهر على تربية أبنائها.

وهذا أساس سليم تستقيم به الأسر وتنشأ في ظلها الأبناء.

(1/204)

ويوم أن انقلبت الموازين وخرجت المرأة في ظل ما يسمونه بالمدينة والتحضر للعمل وتركت مسئوليتها الأولى -البيت والأبناء- تزلزلت الأسرة وأنجبت للأمة جيلا فقد الحنان والعطف؛ لأنه افتقد الأم ودفأها وتربى بعيدا عنها، إما في ظل المربيات، وإما في ظل القريبات وكلاهما لا يعطي الطفل ما يحتاج إليه من الرعاية والعناية وحسن التربية والعجيب في الأمر أن المرأة عندما خرجت إلى منطلق الحياة في عصرنا حملت بذلك نفسها وبيتها ما قد كان في غنى عنه لو أنها استقرت في بيتها وراعت أولادها وتركت مهمة الإنفاق لزوجها.

والأعجب من ذلك أن المرأة لا تفهم هدف الإسلام في هذه الناحية فخيل لها أعداء الإسلام أن قيام الزوج على شئونها وقرارها في البيت ظلم لها وانتقاص من شأنها وصداقتهم في ذلك.

والحق الذي لا ريب فيه أنه تكريم وصيانة لها وتطبيق لفطرة الله -عز وجل- الذي خلق الرجل وكيفه للعمل والكسب، وخلق المرأة وهيأها للقرار في البيت وبث العطف والحنان لأبنائها.

شروط وجوب النفقة:

يشترط لوجوب نفقة الزوجة على زوجها الشروط التالية:

1- أن يكون عقد الزواج صحيحا.

2- أن تمكن زوجها من نفسها بأن تسلم نفسها له ولا تمتنع من الدخول في طاعته.

3- ألا تمتنع من الانتقال حيث يريد الزوج إلا إذا أراد الزوج الإضرار بها بالسفر أو كانت لا تأمن على نفسها ومالها.

4- أن يكونا من أهل الاستمتاع.

فإذا افتقد شرط في هذه الشرط لا تجب لها النفقة.

(1/205)

تقدير النفقة:

إذا كانت الزوجة مقيمة في بيت زوجها ويتولى الزوج الإنفاق عليها وإحضار ما يكفيها من طعام وكسوة وغيرهما، فليس للزوجة حينئذ مطالبته بفرض نفقة لها، ذلك لأن الزوج قائما بالواجب عليه نحوها.

أما إذا كان الزوج بخيلا لا يقوم بكفاية زوجته أو تركها بلا نفقة بغير حق، فلها الحق في مطالبته بأن يفرض لها نفقة من طعام وكسوة وغيرهما وللقاضي أن يحكم لها بذلك متى تثبت صحة دعواها، كما أن لها الحق أن تأخذ من ماله ما يكفيها بالمعروف ولو بدون علم الزوج.

ويستدل على ذلك بما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن هند زوجة أبي سفيان قالت لرسول الله -صلى الله عليه سلم: "يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك ولدك بالمعروف" فتقدر نفقة الزوجة حسب حالة الزوج.

فإن كان موسرا كل يوم مدان من غالب قوت البلد، وإن كان معسرا لزمه مد واحد، وإن كان متوسط فمد ونصف.

ويجوز في ظاهر المذهب أن تأخذ ثمن ذلك نقدا، ويجب لها من الكسوة والسكنى ما جرت به العادة عرف.

لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} 1.

وهذا ما جرت عليه المحاكم الآن في تقدير نفقة الزوجة على زوجها تطبيقا للمادة 16 من القانون رقم 25 لسنة 1929م ونصها: تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا، مهما كان حال زوجته.

__________

1 من الآية 7 من سورة الطلاق.

(1/206)

ولا يدخل في نفقة الزوجة الطيب وثمن الأدوية ففي التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي، ولا يجب عليه ثمن الطيب ولا أجرة الطبيب ولا شراء الأودية". ا. هـ.

الإعسار بالنفقة:

إذا ما أعسر الزوج بأداء النفقة الواجبة عليه لزوجته شرعا فللزوجة الخيار إن شاءت أقامت على النكاح وجعلت النفقة دينا في ذمة الزوج، وإن اختارات المقام مع إعساره بالنفقة وأرادت بعد ذلك فسخ النكاح جاز لها ذلك.

وإن شاءت أقامت على النكاح حالا، أو بعد إمهاله ثلاثة أيام على الأصح في المذهب.

وإن أعسر بنفقة الموسر أو المتوسط لم يكن لها الحق في فسخ النكاح ولكن لها نفقة المعسر، وما زاد عنها لا يكن دينا في ذمته.

وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ قولا واحدا في المذهب وإن أعسر بالأدم لم تفسخ، وإن أعسر بالسكنى إن شاءت فسخت النكاح وإن شاء أقامت عليه وكانت السكنى دينا في ذمته.

الاختلاف في النفقة:

إنا اختلفا في قبضها فالقول قولها مع اليمين، وإن اختلفا في تسليمها نفسها الموجب لنفقتها قول الزوج مع يمينه.

الإبراء في دين النفقة:

إذا صارت النفقة دينا في ذمة الزوج لزوجته جاز أن تبرئة من هذا الدين كله أو بعضه، ولو أبرأته مما يكون لها من نفقة في المستقبل لم يصح إبراؤها؛ لأنه لم يثبت دينا بعد في ذمته، إلا إذا فرضت النفقة مشاهرة أو سنة جاز إبراؤها.

(1/207)

الحقوق غير المالية الواجبة للزوجة على زوجها:

من أهمها:

1- حسن المعاشرة:

امتثالا قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 1.

ومن مظاهرحسن الخلق وكمال الإيمان معاشرة المرأة بالمعروف، يقول -صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا وخياركم خياركم لنسائهم" وإكرام الزوجة دليل على الشخصية المتكاملة، وإهانتها عنوان الخسة والدناءة.

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا ليئم".

صيانتها:

يجب على الزوج أن يصون زوجته وأن يحفظها من كل سوء يخدش شرفها ويدنس عرضها ويعرض سمعتها للقيل والقال، وهذا من الغيرة التي يحبها الله ورسوله.

2- العدل:

ويُعنى به القَسْم: بفتح القاف وسكون السين يقال: قسمت المال بين الشركاء، أي: فرقته بينهم، ومنه القسم بين النساء؛ لأن الزوج يقسم بينهن في المبيت ونحوه.

والعدل من الحقوق التي كفلتها الشريعة الإسلامية للزوجة عموما سواء أكان للزوج زوجة أم أكثر.

لقول الله -عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} 2.

__________

1 الآية 19 من سورة النساء.

2 الآية 3 من سورة النساء.

(1/208)

فالعدل بالنسبة للزوجة الواحدة يقصد به معاملتها بالمعروف، وعدم إيذائها بالقول أو بالفعل، وأن يكون أمينا معها فيطعمها مما ياكل ويكسوها بما يليق بها وأن يسكنها المسكن اللائق بها.

والعدل بين الزوجات يقصد به تقسيم أيام وجود الزوج عند كل واحدة بمعنى أن يعدل فلا يزيد إحداهن أياما على حساب الأخرى.

لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل".

تعريف القَسْم وحكمه:

القسمة: في اللغة التسوية بين الزوجات في المبيت.

والتسوية بين الزوجات مستحبة وليست بواجبة، ولكن الزوج إذا لم يَقْسِم بينهن فإنه يأثم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: $"اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" ولأن النبي -صلى الله عليه سلم- كان شديد الميل إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ولأن المبيت حقه فله تركه.

زمان القسم:

والأصل في القسم الليل؛ لأنه زمان السكن والراحة، لقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} 1.

إلا إذا كان الزوج ممن عمله ليلا كالحارس ونحوه فعماد القسم في حقه النهار؛ لأنه زمان سكنه وراحته والليل زمان معاشه.

فمن كان عماد قسمه الليل حرم عليه أن يدخل في نوبة واحدة من نسائه على غيرها منهن سواء أكان دخوله لحاجة أم لغيرها على الصحيح في المذهب، إلا لضرورة كأن تكون في النزع الأخيرة أو تكون قد فارقت الحياة أو شب حريق

__________

1 آية 10، 11 من سورة النبأ.

(1/209)

بالبيت، وإذا دخل للضرورة فمكث طويلا قضي لصاحبة النوبة مثل ذلك القدر في نوبة المدخول عليها.

فلو تعدي بالدخول بلا ضرورة ولو كان لحاجة فإن طال زمانه قضي وإلا فلا قضاء عليه ولكنه يعصي.

مكان القسم:

يجب على الزوج أن يفرد لكل واحدة من نسائه مسكنا خاصا بها، لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك.

ولأنهن لا يشتركن في النفقة فكذلك لا يشتركن في المسكن، ولأن بين الضرائر تنافسا وتباغضا إن اجتمعن خرجن إلى الافتراء والقبح، ولأنهن إذا اجتمعن شاهدت كل واحدة منهن خلوة الزوج بضرتها وذلك مكروه.

ويحرم عليه أن يقيم بمسكن واحد منهن ويدعو من بقي منهن إليه؛ لأن الحضور إلى بيت الضرة شاق على النفس ولا يلزمهن الإجابة فإن أجبنه فعلى صاحبة البيت التمنع وإن كان البيت ملك للزوج؛ لأنه لها حق السكنى فيه.

ويحرم أن يجمع ولو ليلة واحدة بين ضرتين في مسكن واحد لما بينهما من التباغض إلا برضاهما؛ لأن الحق لهما ولو رجعا بعد رضاهما جاز ذلك.

وإذا رضيا أو رضين الجمع في بيت واحد يكره كراهة تنزيهية أن يطأ إحداهما بحضرة الأخرة؛ لأنه عمل بعيد عن المروءة، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن الوَجْسِ، وهو أن يطأ الزوج زوجته بحيث يسمع حسه فإن أسكنهن في بيت واحد وأفراد لكل واحدة منهن حجرة منه بحيث إذا دخلت توارت فيها عن ضرائرها، جاز ذلك بشرط أن يسكن مثلهن ذلك وليس من حق واحدة منهن أن تطالبه بمسكن منفرد.

(1/210)

وإن كان مثلهن لا يسكن مثل ذلك لجلالة قدرهن ويسر زواجهن وجب عليه أن يفرد كل واحدة منهن بدار فسيحة اعتبارا بالعرف، كما يعتبر العرف في كسوتهن.

قدر القسم:

للزوج أن يقسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها، ويجوز ليلتين وثلاثا بغير رضاهن، وقيل: لا تجوز الزيادة على ليل إلا برضاهن.

هبة أحدى الزوجات نوبتها من القسم لضرتها:

ويجوز أن تهب إحدى الزوجات نوبتها من القسم لأخرى, لما روي عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة وهبت نوبتها من قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ولا يلزم على الزوج قبول هذه الهبة وله أن يبيت عند الواهبة في نوبتها.

فإن رضي بالهبة وكانت الواهبة قد وهبته لمعينة بات عند الموهوب لها ليلتين، ولا يشترط في الهبة رضا الموهوب لها على الصحيح، ولو وهبت حقها للزوج، فهل له أن يختص واحدة بنوبة الأخرى؟ وجهان في المذهب.

ولو وهبت حقها لجميع الضرائر أو أسقطته مطلقا وجبت النوبة فيه بين الباقيات بلا خلاف.

وللواهبة الرجوع في هبتها متى شاءت، ويعود حقها في المستقبل؛ لأن المستقبل هبة لم تقبض حتى لو رجعت في اثناء الليل وجب عليه الخروج فورا من عند الموهوب لها.

ولا يجوز للواهبة أن تأخذ من حقها من القسم عوضا لا من الزوج ولا من الموهوب لها. فإن أخذت لزمها رده؛ لأن الحقوق لا تقبل العوض.

(1/211)

ويأخذ حكم طلاق الكناية قول الزوج على الطلاق فإن نوى بذلك الطلاق وقع وإن لم ينوي لم يقع لكن الخلاف في كفارة اليمين فيرى ابن تيمية أن عليه كفارة وهذا ما نرجحه ويرى ابن القيم أنه لا كفارة عليه.

ثانيها: أقسامه باعتبار السنة والبدعة

يكون الطلاق سنيا إذا طلق الزوج زوجته المدخول بها في طهر لم يمسها فيه وكانت هي غير حامل طلقة واحدة.

ويكون بدعيا إذا كانت مدخولا بها وطلقها أثناء الحيض أو النفاس أو في طهر جومعت فيه ولم يتبين حملها سواء كان الطلاق بلفظ واحد أو جمع الثلاث.

ولا يوصف الطلاق بلفظ سني ولا بدعي إذا طلق قبل الدخول أو بعد الدخول وكانت حامل أو لا تحيض

هل يقع الطلاق البدعي أو لا يقع؟

يرى جمهور الفقهاء وعلى رأسهم الأئمة الأربعة أن الطلاق البدعي يقع ويرى الشيعة الإمامية وابن تيمية وابن القيم أنه لا يقع.

والراجح رأي الجمهور إن كانت الطلقة الأولى أو الثانية ويؤخذ برأي ابن تيمية ومن وافقه إذا كانت الطلقة الثالثة جمعا بين الأدلة وحفاظا على الأسرة.

ثالثهما: أقسامه باعتبار العدد

يملك الحر على زوجته ثلاث طلقات فإن طلقها الأولى أو الثانية فإن الطلاق يكون رجعيا وله مراجعتها ما دامت في العدة إما بالقول كأن يقول راجعتك أو بالفعل كان يجامعها وتكون الرجعة بدون عقد ومهر جديدين ما دامت في العدة لكن إن انتهت عدتها ولم يراجعها فيها فإنها تكون بائنة منه بينونة صغرى فإن أراد مراجعتها فلا تحل له إلا بعقد ومهر جديدين وبرضاها.

ويكون الطلاق بائنا بينونة كبرى إذا طلق الزوج زوجته المدخول بها الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

(1/212)

وإن كانت الجديدة ثيبا فإن من المستحب أن يخبرها بين أن يقيم عندها ثلاثا بلا قضاء، وبين أن يقيم عندها سبعا ويقضي للباقيات كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة عندما دخل بها: "إن شئت سبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت"، أي بالقسم الأول بلا قضاء.

ما يسقط حق الزوجة في القسم:

إذا استحقت الزوجة القسم فإنه يسقط حقها فيه بواحد من الأمور ثلاثة:

1- إن سافرت بغير إذنه قولا واحدا في المذهب وهي في سفرها آثمة وصارت أسوأ حالا من المقيمة الناشزة.

وإن سافرت بإذنه ففي أحد القولين يسقط حقها وفي القول الثاني: لا يسقط.

2- إذا خرج سهمها عند الاقتراع وامتنعت بدون عذر عن الخروج مع الزوج.

3- إذا كان بالزوجة جنون وخاف على نفسه منها.

ولا يمنع من القسم مرض الزوج ولا مرض الزوجة لما روي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يطاف به على نسائه في مرضه الذي مات فيه حتى أذن له بالتمريض في بيت عائشة -رضي الله عنها.

فيقسم للمريضة والرتقاء والحائض والنفساء والتي حلف عليها يمين إيلاء أو ظهار، ولا يقربها حتى يكفر؛ لأن القسم للألفة والسكن لا الجماع.

حق الزوجة في طلب التطليق عند عدم العدل:

إذا لم يعدل الزوج بين زوجاته في المبيت ووجدت الزوجة غير المقسوم لها أنها متضررة بذلك، فهل الضرر الواقع عليها يعطيها الحق في طلب التفريق بينهما وبين زوجها؟

سبقت الإشارة إلى أن القسم بين الزوجات في المبيت ليس واجبا على الزوج وغير لازم عليه، فيجوز له تركه وليس لزوجاته مطالبته بذلك؛ لأن هذه الأمور ترجع إلى الطبع، ولكن يستحب عدم تعطيل الزوجات في المبيت؛ لأنه من باب

(1/213)

المعاشرة بالمعروف وتحصين الزوجات واجب عليه، ولأن ترك الزوج المبيت مع زوجته يؤدي إلى الفجور، ومن ثم فلا يجوز شرعا للزوجة للطلب التفريق بينها وبين زوجها عند تركه القسم في المبيت.

هل يلزم الزوج بالجماع عند القسم أو لا؟

اذا استقر القسم للزوجات فإنه لا يجبر على الجماع ولا يجب عليه وله أن يجامع من يشاء منهن؛ لأن الجماع إنما هو من دواعي الشهوة وخلوص المحبة التي لا يقدر على تكلفها بالتصنع لها.

لقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 1.

قال الإمام الشافعي -يرحمه الله- معناه: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء بما في القلوب فلا تميلوا كل الميل في أن تتبعوا أهواءكم وأفعالكم "فتذورها كالمعلقة".

وهي التي ليست بزوجة ولا مفارقة.

فدلت هذه الآية الكريمة على أن التسوية بينهن فيما يقدر عليه من أفعاله في القسم والإيواء، ولا يلزمه التسوية بينهن فيما لا يقدر عليه من المحبة والشهوة فكذلك الجماع.

لذلك قال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا قَسْمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".

ولكن يستحب أن يحصنهن بالجماع قدر استطاعته؛ لأنه من باب المعاشرة بالمعروف ولأن تركه قد يؤدي إلى الفجور فإن كانت الزوجة واحدة جامعها كل أربع ليال مرة اعتبارا بمن له أربع زوجات.

__________

1 من الآية 29 من سورة النساء.

(1/214)

وإن رأى الزوج من نفسه عجزا عن إقامة حق الزوجة في مضجعها فلا بأس بأن يتناول الأدوية التي تزيد من قوته ونشاطه حتى يعفها بشرط ألا تكون محرمة.

واعتبر الشرع جماع الرجل زوجته من باب الصدقات التي يثاب عليها ففي صحيح مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ولك في جماع زوجتك أجرًا".

قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟

قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال".

ويستحب أن يناما في فراش واحد إلا إذا كان لأحدهها عذر في الانفراد.

ويستحب المداعبة والملاعبة والملاطفة والتقبيل حتى تقضي المرأة حاجتها.

لما رواه أبو يعلى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جامع أحدكم أهله فليصدقها فإذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها" ومن الواجب أن يستترا عند الجماع.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين" أي: الحمارين.

وتسن التسمية والاستعاذة عند الجماع للحديث المتفق عليه أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- قال: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر بينهما في ذلك ولد لن يضر ذلك الولد الشيطان أبدًا".

ويحرم إتيان الزوجة في دبرها؛ لأنه عمل تنفر منه الفطرة ويأباه الطبع ويحرمه الشرع.

(1/215)

يقول المولى -عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 1.

والحرث هو موضع الغرس والزرع وموضع الحرث من الزوجة هو القبل للدبر.

العزل:

العزل: هو أن ينزع الرجل ذكره بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج منعا للحمل.

وهو جائز شرعًا، لما رواه البخاري ومسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: كنا نعزل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن ينزل، وفي رواية عنه عند مسلم: نعزل على عهد رسول الله -صلى الله عليه سلم- فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينهانا وروي عن الإمام الشافعي -يرحمه الله- أنه قال: نحن نروي عن عدد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم رخصوا في ذلك ولم يروا بأسًا.

تحديد النسل:

من مقاصد النكاح التناسل والتكاثر كما سبقت الإشارة إليه ولكن الإسلام لا يمنع من تنظيم النسل باستخدام الوسائل الحديثة عند الضرورة كأن يكون الرجل ذا عيال لا يستطيع القيام على تربيتهم التربية الصحيحة، وكذلك إذا كانت الزوجة مريضة لا تقوى على مواصلة الحمل وتكراره ونحو ذلك.

تزين الرجل لزوجته:

يستحب أن يتزين الرجل لزوجته كما يجب أن تتزين هي له.

يقول جد الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: "إني لأتزين لأمرأتي كما تتزين لي وما أحب أن آخذ الحق كله الذي لي عليها، فستستوجب حقها الذي لها علي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 2.

__________

1 من الآية 223 من سورة البقرة.

2 من الآية 228 من سورة البقرة.

(1/216)

فعلي الزوج أن يظهر في نظر زوجته بالمنظر اللائق، ليكون عند زوجته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال.

(1/217)

الحقوق المشتركة بين الزوجين

مدخل

...

ثالثا: الحقوق المشتركة بين الزوجين

1- حل العشرة واستمتاع كل منهما بالآخر بالطريق المشروع ما لم يكن هناك ما يحرم الاستمتاع كأن تكون الزوجة حائضا أو نفساء أو محرمة بحج أو عمرة أو صائمة صيامًا فرضًا.

2- ثبوت التوارث بينهما بمجرد إنشاء العقد حتى ولو لم يدخل بها فإذا مات أحدهما ورثه الآخر.

3- ثبوت نسب الولد صاحب الفراش، فثبوت نسب الولد حق للوالد في صيانة وحفظ نسبه، وهو حق للزوج في إثبات نسب ولده إليه، وهو حق للزوجة في إثبات نسب الولد وإبعادها عن التهمة.

4- حرمة المصاهرة، فتحرم الزوجة على آباء زوجها وأبنائه وفروع أبنائه وفروع بناته كذلك يحرم الزوج على أمهات الزوجة وبناتها وفروع أبنائها وفروع بناتها كذلك.

(1/217)

الطلاق:

الطلاق لغة: رفع القيد.

وشرعًا: رفع القيد الثابت بالنكاح الصحيح بألفاظ مخصوصة.

دليل مشروعيته:

يستدل على مشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع.

فمن الكتاب: آيات الطلاق ومنها قول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 1.

ومن السنة: أحاديث كثيرة منها: ما روي أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر لله بها" 2.

ومن الإجماع: أجمعت الأمة على مشروعيته.

الحكمة من مشروعية الطلاق:

أنه سبيل للخلاص من الحياة الزوجية إذا استحالت فالطلاق راحة للطرفين عملا بقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} 3.

حكم الطلاق:

اختلف الفقهاء في الأصل في الطلاق أهو التحريم أم الإباحة.

يرى الحنفية أن الأصل فيه الإباحة لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 4.

__________

1 الآية رقم 229 من سورة البقرة.

2 متفق عليه.

3 من الآية 130 من سورة النساء.

4 من الآية 236 من سورة البقرة.

(1/218)

ونفي الجناح يقتضي الإباحة كما ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- طلق زوجته حفصة -رضي الله عنها- كما فعل ذلك الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك الفعل.

وذهب البعض الآخر من الفقهاء إلى أن الأصل فيه التحريم إلا لحاجة واستدلوا على ذلك بقول تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} 1 والطلاق من غير حاجة سبيل إلى الظلم فلا يصار إليه واستدلوا على ذلك أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لعن الله كل ذواق مطلاق" فدل ذلك على أن الأصل في الطلاق التحريم.

وسواء قلنا بترجيح التحريم أم الإباحة في الطلاق فإن تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة وهي:

1- فيكون حراما إذا علم الرجل أنه لو طلق زوجته وقع في الزنا لتعلقه بها أو لعدم قدرته على الزواج بغيرها، وكذلك يكون حرامًا إذا طلق زوجته أثناء الحيض أو النفاس أو في طهر جامعها فيه وهو المعروف بالطلاق البدعي.

2- يكون مكروها إذا كان من غير حاجة تدعو إليه.

3- يكون واجبا إذا أيقن الزوج ظلمه لزوجته ماديا أو معنويا وكذلك طلاق المولى إذا انتهت مدة الإيلاء ولم يطأ زوجته.

4 و5- ويكون مندوبا أو مستحبا إذا كانت المرأة بذيئة اللسان ويخاف الوقوع منها في الحرام بأن تسب أمه أو أباه ويقع منهما الغضب عليه أو كانت الزوجة مفرطة في حقوق الله من صلوات وغيرها ولا يستطيع إجبارها على ذلك أو كانت غير عفيفة.

ويستحب الطلاق أيضا إذا تضررت الزوجة من الزوج لبغض أو غيره.

__________

1 من الآية 34 من سورة النساء.

(1/219)

أركان الطلاق:

اختلف الفقهاء في عد أركان الطلاق على النحو التالي:

أولًا: يرى الحنفية أن ركن الطلاق واحد وهو اللفظ الدال على معنى الطلاق أو ما يقوم مقام اللفظ كالإشارة من الأخرس بشرط أن تكون مفهومة أو الهاتف أو الكتابة.

ثانيا: يرى المالكية أن أركان الطلاق أربعة

زوج، زوجة، اللفظ، القصد "النية".

ثانيا: يرى الشافعية والحنابلة أن أركان الطلاق خمسة:

الأربعة السابقة ويزاد عليها الولاية وذلك من طلاق الصغير أو الصغيرة أو المجنون والمجنونة.

الحكمة من جعل الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة.

وجعل الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة لأمرين:

الأمر الأول: أن الرجل يعالج الأمور بعقله لا بعاطفته فيتريث ولا يتعجل.

الأمر الثاني: أن الرجل عزم عند الارتباط الشرعي بالمرأة النصيب الأوفر من مهر وخلافه وسيغرم ما يترتب على الطلاق من مؤخر صداق ونفقة ومتعة فلا يتسرع حتى لا يضيع عليه ما غرمه أضف إلى هذا أنه من حق المرأة عند العقد عليها أن تشترط أن يكون الطلاق بيدها إذا رضي الزوج بذلك. كما أن لها هي الأخرى إنهاء العلاقة الزوجية إن تضررت بمعاشرة الزوج بذلك عن طريق الخلع وطلب التطليق من القاضي.

(1/220)

وإن كان مثلهن لا يسكن مثل ذلك لجلالة قدرهن ويسر زوجهن وجب عليه أن يفرد كل واحدة منهن بدار فسيحة اعتبارا بالعرف، كما يعتبر العرف في كسوتهن ونفقتهن.

قدر القسم:

للزوج أن يقسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها، ويجوز ليلتين وثلاثا بغير رضاهن، وقيل: لا تجوز الزيادة على ليلة إلا برضاهن.

هبة إحدى الزوجات نوبتها من القسم لضر

ويجوز أن تهب إحدى الزوجات نوبتها من القسم لأخرى.

لما روي أن أم المؤمنين سودة بنت زمعة وهبت نوبتها من قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ولا يلزم على الزوج قبول هذه الهبة وله أن يبيت عند الواهبة في نوبتها.

فإن رضي بالهبة وكانت الواهبة قد وهبته لمعينة بات عند الموهوب لها ليلتين، ولا يشترط في الهبة رضا الموهوب لها على الصحيح، ولو وهبت حقها للزوج، فهل له أن يختص واحدة بنوبة الأخرى؟ وجهان في المذهب.

ولو وهبت حقها لجميع الضرائر أو أسقطته مطلقا وجبت النوبة فيه بين الباقيات بلا خاف.

وللواهبة الرجوع في هبتها متى شاءت، ويعود حقها في المستقبل؛ لأن المستقبل هبة لم تقبض حتى لو رجعت في أثناء الليل وجب عليه الخروج فورا من عند الموهوب لها.

ولا يجوز للواهبة أن تأخذ عن حقها من القسم عوضا لا من الزوج ولا من الموهوب لها، فإن أخذت لزمها رده؛ لأن الحقوق لا تقبل العوض.

(1/221)

تقسيمات الطلاق

واجبات الزوجة المعتدة

...

واجبات الزوجة المعتدة:

وأوجبت الشريعة الإسلامية على الزوجة إذا فارقها زوجها أمرين، وأحد هذين الأمرين عام في كل معتدة، وثانيهما خاص ببعض المعتدات دون البعض.

أما الأمر الأول: وهو العام في كل معتدة فهو أن تقضي عدتها في منزلها التي كانت تقيم فيه وقت قيام الزوجية، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} 1.

والحكمة التي قصدتها الشريعة من ذلك: بالنسبة للزوجة التي توفي عنها زوجها فلكي تكون المرأة بمشهد من المعالم التي كانت تعاشر زوجها فيها حتى تتمثله في قيامها وقعودها وفي حركاتها وسكناتها، وتذكر ما كان بينهما من وثيق الائتلاف فتقوم بواجب الوفاء له.

وأما بالنظر إلى من طلقها زوجها فلكي تكون هذه الزوجة تحت مسمعه وعلى قرب منه ليراقب أعمالها ويصونها عن الابتذال للناس ما بقيت آثار الزوجية بينهما؛ فعله يرى من آدابها وعفافها ما يعيد إليهما الحياة الزوجية هائنة سعيدة، وتدبر في قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 2.

__________

1 الآية 1 من سورة الطلاق.

2 الآية 1 من سورة الطلاق.

(1/230)

ويترتب على ما ذكرنا -من أنه يجب على الزوجة الاعتدال في منزل الزوجية- ما يلي:

- لا يجوز للزوجة أن تعتد في منزل آخر غير المنزل التي كانت تعاشر فيه زوجها إلا لعذر يبيح لها ذلك، ومن الأعذار التي تبيح لها ذلك أن ينهدم البيت أو يكون آيلا للسقوط، أو يكون بمنأى عن الجيران وحفظه الأمن فتخاف من السكنى فيه على نفسها أو مالها، أو يكون أجره فوق طاقتها، أو يخرجهما مالكه منه، أو يمنعها الورثة من السكنى فيه.

ومتى وجد عذر يبيح الخروج منه والسكنى في غيره كان لها ذلك، لكن إن كانت معتدة من طلاق سكنت حينئذ حيث يسكنها مطلقها، وإن كانت معتدة من وفاة سكنت في أقرب منزل يمكنها أن تسكن فيه؛ لتتحقق الحكمة في لزوم مسكن الزوجية بقدر الإمكان.

إذا خرجت المعتدة من المنزل الذي كانت تعاشر زوجها فيه بغير عذر يبيح لها ذلك كانت ناشزة، وسقطت نفقة عدتها إن كانت لها نفقة.

وأما الأمرالثاني -وهو الذي يخص بعض المعتدات دون البعض- فهو الإحداد، وهو ترك الزينة والطيب ونحوها؛ فلا يجوز لها أن تلبس الحلى ولا ثياب الحرير ونحوها ولا تتطيب ولا أن تدهن شعرها ولا تتكحل إلا لعذر وهذا واجب على من توفي عنها زوجها باتفاق الفقهاء.

وعلى المطلقة طلاقا بائنا عند الحنفية ولا حداد عليها عند الجمهور وهو الراجح وحكمته بالنظر إلى الأولى إظهار الحزن على وفاة زوجها وبالنظر إلى الثانية إظهار الأسف على انقطاع حبل الزوجية التي كانت بينهما.

ولا يجب الإحداد على المطلقة طلاقا رجعيا باتفاق الفقهاء بل المستحب لها أن تتزين وتلبس الحرير ونحوه لعل قلب زوجها يتحول إليها فيراجعها كما لا يجب الإحداد على من فارقها زوجها بعد زواج فاسد أو وطء بشبهة.

(1/231)

بيان من لا تجب لها نفقة العدة، ومن تجب لها:

لا تجب نفقة العدة لثلاث أنواع من النساء:

النوع الأول: كل امرأة توفي عنها زوجها؛ إذ لا سبيل إلى إيجاب نفقتها على أحد؛ أما على زوجها الذي مات فلعدم إمكان إيجابها عليه؛ لأنه لا ملك له بعد الوفاة، وهو ليس أهلا بعدها للإيجاب عليه وأما عدم إيجابها على ورثته فلأن نفقة الزوجية حق شخصي على الزوج فلا ينوب فيه وارثه عنه.

النوع الثاني:

كل امرأة تعتد بسبب فرقة حاصلة من جهتها وهي محظورة شرعًا، كالمرأة التي كان سبب فراقها لزوجها أنها طاوعت أباه أو ابنه على الزنا والسر في عدم استحقاق هذا النوع من النساء لنفقة العدة أنه يستحق العقاب والزجر على فعل المحظور الذي كان سببا في الفرقة، وإذا كان يستحق العقاب والزجر لم تجعل الشريعة له حق النفقة؛ لأنه تكريم لا عقاب.

والنوع الثالث:

كل امرأة فارقها زوجها بعد أن كان يعاشرها بعقد غير صحيح، وذلك يشمل نوعين: المفارقة بعد زواج فاسد، والموطوءة بشبهة والسر في عدم إيجاب نفقة العدة لأحد هذين أن الزواج الفاسد والوطء بشبهة لا يكون سببا في احتباس الرجل للمرأة، بل يجب عليهما أن يفترقا منه، والنفقة إنما تجب جزاء الاحتباس، وإذا كان الاحتباس غير جائز شرعًا كانت النفقة غير واجبة، لا في أثناء الاحتباس غير المشروع ولا فيما بعده.

وكل امرأة غير داخلة في أحد من هذه الأنواع الثلاثة فإنه يجب لها نفقة العدة، وذلك يشمل ثلاث أنواع أيضا:

النوع الأول: كل امرأة فارقها زوجها بغير وفاة بعد زواج صحيح شرعا بسبب من عنده، سواء أكانت الفرقة بالطلاق أم كانت بالفسخ، وسواء أكان سبب الفسخ

(1/232)

مشروعًا كاختياره بعد البلوغ أم لم يكن مشرعا كارتداده وفعله بأحد أصولها أو فروعها ما يوجب حرمة المصاهرة.

النوع الثاني: كل امرأة كانت سبب افتراقها عن زوجها من جهتها، ولكنه -مع ذلك- سبب غير محظور شرعًا، كأن تختار نفسها بالبلوغ، أو لنقصان مهرها عن مهر أمثالها.

النوع الثالث:

كل امرأة طلقها القاضي على زوجها بعد طلبها ذلك بواحد من أسباب طلب التطليق كغياب الزوج أو إعساره بالنفقة أو دفعا للضرر الواقع عليها بسبب الزوجية ماديا أو معنويا.

نفقة العدة وشروطها وسبب وجودها:

المراد بنفقة العدة التي تجب لبعض الزوجات، ولا تجب لبعضهن، هو الطعام والكسوة فقط ولا تدخل السكنى فيها كما كانت تدخل في نفقة الزوجية.

والسر في هذا أن السكنى بالنظر إلى المعتدة حق الشرع لا حق الزوجة، ولهذا لو أبرأت الزوجة الزوج من نفقة عدتها تناول هذا الإبراء ما يجب عليه من طعامها وكسوتها ولم يتناول السكنى؛ لأن الإنسان يستطيع أن يسقط حق نفسه وأما حق الشرع فليس في قدرته أن يسقطه.

ولوجوب نفقة العدة للزوجة على زوجها شرطان:

أحدهما: أن تكون المرأة المعتدة واحدة من الأنواع الثلاثة التي قدمنا أنه تجب لهن نفقة العدة.

وثانيهما: أن تكون غير ناشزة وذلك بألا تخرج من بيت الزوجية إلا لعذر من الأعذار التي بيناها وما أشبهها.

والسبب الذي اقتضى وجوب نفقة العدة على الزوج لزوجته هو أنها محتبسة في مدة العدة لحق هذا الزوج؛ أفلا ترى أنه لا يجوز لها أن تتزوج رجلا غيره ما لم تنقض عدتها منه؟!

(1/233)

ويترتب على جميع ما قدمنا بيان أمران:

الأول: أنه تجب السكنى وحدها لكل امرأة قلنا إن نفقة عدتها واجبة على زوجها، والثاني: أنه تجب النفقة بأنواعها الثلاثة الطعام والكسوة والسكنى لكل مرأة قلنا إنها تستحق نفقة العدة، ويجب أن يراعى في تقدير نفقة العدة كل ما ذكرنا أنه يراعى في نفقة الزوجية، من مراعاة حال الزوج يسارًا وإعسارًا، دون مراعاة حال الزوجة، كما رجحناه فيما سبق، ومن مراعاة غلاء أسعار الحاجيات ورخصها، ونحو ذلك.

متى تكون النفقة العدة دينا على الزوج؟

تكون نفقة العدة دينا على الزوج لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء سواء أذن القاضي للزوجة بالاستدانة على زوجها أم لم يأذن.

وقد اعتبر القانون رقم 25 لسنة 1920م نفقة المعتدة من تاريخ الطلاق دينا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء سواء أقضى القاضي بها أو تراضى الزوجان عليها أو لم يحصل واحد منهما.

(1/234)

الرجعة:

تعريفها:

الرجعة: بفتح الراء وسكون الجيم لغة: المرة والواحدة من الرجوع.

وشرعًا: استدامة الزواج القائم بين الزوج وزوجته وإلغاء عمل السبب وهو الطلاق الذي حدد أمد الزوجية بينهما بانقضاء العدة.

مشروعيتها:

شرعت الرجعة بالكتاب والسنة والإجماع:

فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} 1.

ووجه الدلالة هو أن المراد بالرد الرجعة.

ومن السنة:

روى أبو داود في سننه عن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق زوجته حفصة بنت عمر ثم راجعها.

روى الجماعة أن ابن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض فسأل عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مره فليراجعها".

وأجمع أهل العلم أن الحر إذا طلق الحرة المدخول بها دون الثلاث أن له الرجعة في العدة.

شروطها:

يشترط في صحة الرجعة شرطان:

الشرط الأول: أن يكون الطلاق رجعيًّا، فلو كان الطلاق بائنا فلا يملك الزوج رجعة زوجته.

__________

1 من الآية 228 من سورة البقرة.

(1/235)

الشرط الثاني: أن تكون الرجعة في أثناء العدة فلو انقضت فلا يملك الزوج مراجعتها؛ لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} . ثم قال بعد ذلك: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} 1.

والمعنى: وأزواجهن أحق بإعادتهم إلى عصمتهم في أثناء ذلك الوقت الذي أمن بالتربص فيه.

هل يشترط في صحة الرجعة رضا الزوجة؟

لا يشترط لصحة الرجعة رضا الزوجة ولا علمها ولا حضور شهود ولكن ينبغي للزوج أن يعلمها حتى لا تتزوج غيره بعد انقضاء عدتها، وينبغي له أن يشهد عليها بالعلم مخافة من أن تنكرها الزوجة بعد انقضاء عدتها فيصعب عليه إثباتها.

والرجعة حق أثبته الشارع للزوج متى استوفى الشرطين اللذين ذكرناهما، ولا يملك الزوج أن يسقط هذا الحق عن نفسه بقوله، نعم يملك أن يسكت عن مراجعتها حتى تنقضي عدتها، وحينئذ يسقط عنه حق إعادتها إلى عصمته، وعلى هذا لو قال الرجل لزوجته: لا رجعة لي عليك، لم يزل عنه بهذا القول ذلك الحق.

بم تكون الرجعة؟

تكون الرجعة بالقول وبالفعل فأما الرجعة بالقول فإنها تحصل بكل لفظ يصدر من الزوج يدل على معناها، كقوله: راجعتك، أو قوله: راجعت زوجتي، ويشترط للرجعة بالقول أن تكون منجزة، فلو كانت معلقة على شرط أو مضافة إلى المستقبل لم تصح؛ لأنها كالزوج وهو لا يقبل ذلك.

وأما الرجعة بالفعل فإنها تحصل بالمباشرة ودواعها التي توجب حرمة المصاهرة كالتقبيل واللمس بشهوة وتكون بالقول فقط عند الشافعية ومن وافقهم.

__________

1 من الآية 228 من سورة البقرة.

(1/236)

ومتى انقضت عدة الزوجة بانت من زوجها ولم تصح له مراجعتها إلا بعقد ومهر جديدين ورضاها.

ما أقل مدة يمكن فيها تصديق المرأة بأن عدتها قد انقضت؟

أقل مدة يمكن تصديق الزوجة بأن عدتها قد انقضت هي ستون يوما من وقت حصول الطلاق؛ وذلك لأنها تحتاج في انقضاء عدتها إلى ثلاث حيضات كاملة وطهرين يتخللانها وأكثر مدة الحيض عشرة أيام وأقل مدة الطهر الفاصل بين الحيضتين خمسة عشر يومًا فتحتاج إلى ثلاث حيضات إلى ثلاثين يوما ويحتاج الطهران إلى ثلاثين يوما فإذا مضى عليها من وقت طلاقها أقل من ستين يوما وادعت أن عدتها قد انقضت بثلاثة أقراء لم تصدق في هذه الدعوى ويصح لزوجها أن يراجعها، ولو كان قد انقضى عليها من وقت طلاقها ستون يوما أو أكثر وادعت انقضاء عدتها بثلاثة أقراء صدقت في هذه الدعوى وعليها اليمين بأنها حاضت ثلاث مرات، ولم يعد لزوجها أن يراجعها هذا عند الحنفية وبه أخذ القانون.

أما عند الشافعية ومن وافقهم فأكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما وأقل الطهر بين الحيضين خمسة عشر يوما ومن ثم فإنها تحتاج في انقضاء عدتها إلى خمس وسبعين يوما من وقت حصول الطلاق وذلك لأنها تحتاج في انقضاء عدتها إلى ثلاث حيضات كاملة وطهرين يتخللانها، وأكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما وأقل الطهر الفاصل بين الحيضين خمسة عشر يوما فتحتاج ثلاث حيضات إلى خمسة وأربعين يوما ويحتاج الطهرين إلى ثلاثين يوما فإذا مضى عليها من وقت طلاقها أقل من خمسة وسبعين يوما ودعت أن عدتها قد انقضت بثلاثة أقراء لم تصدق ولو كان قد انقضى عليها من وقت طلاقها خمسة وسبعين يوما أو أكثر وادعت انقضاء عدتها بثلاثة قروء صدقت في هذه الدعوى وعليها اليمين بأنها حاضت ثلاث مرات ولم يعد لزوجها أن يراجعها.

(1/237)

الخلاف في الرجعة:

الخلاف في الرجعة يكون بين الزوج وزوجته، وهذا الخلاف لا ينحصر في مسائل معينة، فقد يكون الخلاف بينهما في أنه لا يملك عليها الرجعة بسبب كونها مطلقة قبل الدخول، ولا عدة لها عليها، ويدعي هو أن الطلاق حصل بعد الدخول الحقيقي فهو يملك مراجعتها.

ولكن الفقهاء ذكروا أن الخلاف بينهما إما أن يكون في أصل الرجعة، بأن يدعي الزوج أنه راجع زوجته، وتنكر الزوجة حصول الرجعة، وإما أن يكون في صحة الرجعة لاختلافهما في وجود شرط الرجعة، وذلك بأن يدعي أنه راجع زوجته في أثناء العدة فرجعته صحيحة وتدعي الزوجة أنه راجعها بعد انقضاء عدتها فرجعته غير صحيحة مثلا.

فإن كان الخلاف بينهما في أصل الرجعة، فإما أن تكون الزوجة في حال الاختلاف لا تزال في عدتها، وإما أن تكون قد انقضت عدتها.

فإن اختلفا في أصل الرجعة والمرأة لا تزال في عدتها فالقول قول الزوج لأنه يخبر عن حصول شيء لا يزال يملك حق إنشائه رضيت الزوجة أم لم ترض، فلا معنى لتكذيبه فيه، أفلا ترى أنا لو كذبناه لكان بصدد أن يقول: وعلى فرض أني كاذب فقد راجعتها الآن فلا نملك أن نرد حقه حينئذ في ذلك، وإن كان اختلافهما في أصل الرجعة بعد انقضاء العدة فالبينة على الزوج الذي يدعي الرجعة، فإن جاء ببينة مقبولة تؤيد دعواه حكمنا له بها وإن عجز فالقول للزوجة بلا يمين.

وإن كان الخلاف بينهما في صحة الرجعة وذلك بأن يجيء الرجل بعد أن تنقضي عدتها فيدعي أنه قد راجعها وهي في العدة فرجعته صحيحة وتقول الزوجة: إنه راجعها حقيقة، وحينئذ إما أن تذكر الزوجة تاريخا لمراجعة الزوج إياها وإما ألا تذكر تاريخا.

(1/238)

فإن ذكرت تاريخا للرجعة وكان بينه وبين وقت التطليق ستون يوما فأكثر فالقول للزوجة بيمينها.

ومعنى هذا أن الرجل لو أقام بينة مقبولة تؤيد دعواه على أن الرجعة كانت في أثناء العدة حكم له بها وإن لم يقم بينة أصلا، أو أقام بينة غير مقبولة، حلفنا الزوجة أن مراجعته إياها كانت بعد انقضاء العدة: فإن حلفت حكمنا لها بما تدعيه وإن نكلت حكمنا لزوجها بما يدعيه.

وإن ذكرت تاريخا للرجعة ولم يكن بينه وبين وقت التطليق ستون يوما عند الحنفية وخمسة وسبعون يوما عند الجمهور فالقول للزوج، ولا تصدق الزوجة في ذلك؛ لأن الظاهر يكذبها.

(1/239)

الخلع

مدخل

...

الخلع:

تمهيد:

الحياة الزوجية لا تقوم إلا على السكن، والمودة، والرحمة، وحسن المعاشرة، وأداء كل من الزوجين ما عليه من حقوق، وقد يحدث أن يتغير قلب أي من الزوجين قبل الآخر، فتحل فيه الكراهية محل المودة والرحمة، والإسلام في هذه الحالة يوصي بالصبر والاحتمال، وينصح بعلاج ما عسى أن يكون من أسباب الكراهية، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 1.

وفي الحديث الصحيح: "لا يفَرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها خلقًا آخر" 2.

إلا أنه قد يستحكم النفور بين الزوجين، ويشتد الشقاق ويصعب العلاج، وينفد الصبر ويذهب ما تأسس عليه البيت من السكن والمودة والرحمة وأداء الحقوق فتصبح الحياة الزوجية غير قابلة للإصلاح وحينئذ يرخص الإسلام بالعلاج الوحيد الذي لا بد منه.

فإن كانت الكراهية من جهة الزوج فبيده الطلاق وهو حق من حقوقه وله أن يستعمله في حدود ما شرع الله.

وإن كانت الكراهية من جهة المرأة فقد أباح لها الإسلام أن تتخلص من الحياة الزوجية بطريق الخلع وذلك بأن تعطي الزوج ما أخذته منه مهرًا بسبب الزوجية لتنهي علاقتها به فلا ضرر ولا ضرار.

وإن كانت الكراهية منهما معا فإن طلب الزوج التفريق فيبده الطلاق وعليه تبعاته، وإن طلبت الزوجة الفرقة فبيدها الخلع وعليها تبعاته كذلك.

__________

1 الآية 19 من سورة النساء.

2 أخرجه مسلم كتاب الرضاع، باب حديث رقم 9614، الفرك بكسر الفاء وسكون الراء: البغض.

(1/240)

تعريفه:

لغة: مأخوذ من النزع والإزالة، تقول: خلعت الثوب ونحوه إذا نزعته عنك.

وشرعًا: حل عقد الزوجية بلفظ الخلع وما في معناه في مقابل عوض تلتزم به المرأة.

مشروعيته:

شرع الخلع بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 1.

ووجه الدلالة: أن افتداءها نفسها هو الخلع.

ومن السنة: ما روي أن جميلة بنت سهل زوجة ثابت بن قيس بن الشماس جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ولا ما أعطاني، وسألته أن يطلقها على حديقتها التي أصدقها إياها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "خذ الحديقة وطلقها تطليقة".

وأجمعت الأمة على مشروعيته.

صفة الخلع:

الخلع من جانب الزوج يمين، وذلك لأن الزوج بمخالفته زوجته قد علق طلاقها على قبولها أن تعطيه ما ذكره من البدل، أفلا ترى أنه حين يقول لها: خالعتك على مائة دينار إنما بقصد معنى: إن أديت لي مائة دينار فقد خلعتك من رباط الزوجية الذي يربطك بي، والتعليق يمين.

وهو من جانب الزوجة معارضة، وذلك لأن الزوجة تقصد بقبولها إعطاءه ذلك البدل الذي ذكره افتداء نفسها منه، ألا ترى أنها حين تقول له: قبلت، أو حين

__________

1 من الآية 229 من سورة البقرة.

(1/241)

تقوله له: خالعني على مائة دينار -إنما تقصد معنى: رضيت أن أشتري منك عصمتي بمائة دينار- وإذا كان الأمر على هذا الوجه كان النظر إليها على أنها عقد معاوضة.

ومن أحكام اليمين: أنها تلزم من صدرت منه بمجرد صدورها، وأنه لا يجوز له أن يشرط فيها الخيار لنفسه، ويجوز له أن يعلقها على ما يريد من الشروط، كما يجوز له أن يضيفها إلى ما يريد من الزمان المستقبل، ولا يشترط فيها الرضا بل تنعقد ولو كان من صدرت له منه مكرها عليها.

ومن أحكام عقود المعاوضات: بأنها لا تلزم الموجب لها بمجرد إيجابه، وإنما تلزمه بعد قبول الطرف الثاني، وأنه يجوز فيها اشتراط الخيار، وأنه لا يجوز تعليقها على الشروط، ولا إضافتها إلى زمان مستقبل وأنه يتعين فيها رضا العاقد، وعلمه بمعنى العبارة الدالة عليها.

وإذ كان الخلع يمينا من جهة الزوج وجب أن نطبق عليه جميع ما نطبقه على اليمين بالنظر إليه، وإذ كان معاوضة من جهة الزوجية وجب أن نطبق عليه جميع ما نطبقه على عقود المعاوضات بالنظر إليها.

أركان الخلع:

ركن الشيء: هو ما لا يتم الشيء إلا به وهو جزء منه.

وللخلع أركان خمسة:

الأول: الزوج

ويشترط فيه أن يكون ممن ينفذ طلاقه، ومن ثم فلا يصح خلع الصبي والمجنون ويصح خلع المحجور عليه بفلس أو سفه سواء أذن الولي أم لا، وسواء كان العوض مهر الزوجة أو غيره، ولكن لا يسلم عوض الخلع إلى السفيه بل يسلمه إلى الولي.

(1/242)

الثاني: الزوجة "المختلعة"

ويشترط فيها أن تكون أهلا للتبرع، وذلك بأن تكون بالغة، عاقلة، ألا تكون مريضة مرض الموت، ألا تكون محجورة عليها لسفه.

الثالث: المعروض وهو "البضع"

ويشترط فيه أن يكون مملوكا للزوج.

فأما البائنة بخلع وغيره فلا يصح خلعها، ويصح خلع الرجعية على الأظهر لأنها زوجة.

وقيل: لا يصح خلعها لعدم الحاجة إلى الافتداء.

وقيل: يصح خلعها بالطلقة الثالثة دون الثانية لتحصيل البيونة الكبرى.

الرابع: العوض

وهو كالصداق فيجوز قليلا وكثيرا، عينا ودينا، ويشترط فيه أن يكون معلوما متمولا مع سائر شروط الأعواض، كالقدرة على التسليم واستقرار الملك وغيرهما.

الخامس: الصيغة

ويشترط فيها ألا يتخلل بين الإيجاب والقبول كلام أجنبي فإن تخلل كلام كثير، بطل الارتباط بينهما، وإن تخلل كلام يسير لم يضر على الصحيح.

شروط الخلع:

شرط الشيء: ما لا يتم الشيء إلا به وهو خارج عنه.

ويشترط في صحة الخلع شروط ثلاثة:

الأول: أن يكون بلفظ الخلع أو ما في معناه كالمفاداة.

الثاني: أن يكون نظير عوض.

الثالث: أن يكون برضا الطرفين.

(1/243)

آثار الخلع:

متى وقع الخلع مستوفيا أركانه وشروطه فإنه يرتبت عليه آثاره الشرعية التالية.

أن يقع به الطلاق بائنا، لما روي في الأثر "الخلع طلقة بائنة".

ولأن الخلع طلاق على مال بوجه مخصوص، والطلاق على المال بائن، وقيل: الخلع فسخ لعقد النكاح.

دفع العوض الذي ذكر فيه للزوج وذلك لأن الزوج قد علق طلاقها على قبولها لهذا العوض وقد رضيت به.

سقوط جميع الآثار المترتبة على فرقة النكاح من مؤخر صداق ونفقة وخلافة سواء ذكرا إسقاط مثل ذلك أم لم يذكراه.

وقيل: لا يسقط إلا ما ذكراه فقط.

المقارنة بين الخلع وبين الطلاق على مال:

يشترط الخلع والطلاق على مال في ثلاث أمور:

1- أن كل واحد منهما يشترط فيه قبول الزوجة.

2- أنه متى صح البدل وقع به الطلاق البائن.

3- أن البدل يلزم ذمة الزوجة فيهما.

والفرق بين الخلع والطلاق على مال من أربعة أوجه:

1- أن الخلع لا تكون صيغته إلا من مادة الخلع أو ما يقوم مقامه، فأما الطلاق على مال فقد تكون عبارته من مادة الخلع كأن يقول لها: خلعتك على أن تعطيني عشرين جنيها؛ فتقول: قبلت. وقد تكون عبارته من غير مادة الخلع، كأن يقول لها: طلقتك أو خلصتك أو ابنتك على عوض قدره عشرون جنيها.

2- أن الخلع المستكمل لشروطه تسقط به الحقوق الثابتة لكل واحد من الزوجين قبل الآخر عند العقد سواء نص على سقوطه أم لا لم ينص على

(1/244)

نحو ما بيناه في آثار الخلع، أما الطلاق على مال فلا يسقط به شيء من الحقوق إلا بالنص على سقوطه.

3- أنه لو بطل البدل في الخلع -كأن يخالعها على خمر أو خنزير- وقع به الطلاق بائن بدون عوض عند الجمهور، ولو بطل البدل في الطلاق على مال وقع به طلاق رجعي.

4- أن الخلع يجوز في الطهر والحيض ولا يتقيد وقوعه بوقت لأن الله -سبحانه وتعالى- أطلق إباحة الافتداء ولم يقيده بزمن دون زمن فقال تعالى: {ِفَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 1.

ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أطلق الحكم في الخلع بالنسبة لامرأة ثابت بن قيس من غير بحث ولا استفسار عن حال الزوجة.

أما الطلاق فإنه منهي عنه في حال الحيض حتى لا تطول العدة على المطلقة.

أما في الخلع فالمرأة هي التي تطلب الطلاق فتجاب إليه سواء أكانت في حيض أو طهر.

__________

1 من الآية 229 من سورة البقرة.

(1/245)

التوكيل في الخلع:

ويصح التوكيل في الخلع من كل واحد من الزوجين أو من أحدهما منفردًا.

وذلك لأن كل واحد منهما يجوز أن يوجب الخلع فصح أن يكون وكيلا وموكلا وذالك باتفاق الفقهاء.

اختلاف الزوجين في الخلع:

إذا اختلفا في الخلع فادعاه الزوج وأنكرته المرأة بانت منه بإقراره ولم يستحق عليها عوضًا؛ لأنها منكرة وعليها اليمين.

وإن ادعته المرأة أنكره الزوج فالقول قوله لذلك، ولا يستحق عليها عوضًا؛ لأنه لا يدعيه، وذلك باتفاق الفقهاء.

(1/245)

وإن اتفقا على الخلع واختلفا في قدر العوض أو جنسه أو حلوله أو تأجيله أو صفته فالقول قول المرأة عند الجمهور قياسا على الطلاق على مال؛ ولأن المرأة منكرة للزيادة فالقول قولها لقوله -صلى الله عليه وسلم: "اليمن على المدعي عليه".

وعند الشافعية يتحالفان لأنه اختلاف في عوض العقد فيتحالفان فيه كالمتبايعين إن اختلفا في الثمن.

هل الخلع فسخ أم طلاق؟

اختار جمهور أهل العلم أنه طلاق.

مستدلين على ذلك بما رواه البخاري من حديث ابن عباس في قصة فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لثابت بن قيس: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة".

وبما رواه البيهقي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الخلع تطليقة بائنة.

ويرى البعض الآخر من أهل العلم أن الخلع فسخ وليس بطلاق مستدلين على ذلك بأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَان} ثم ذكرالخلع بقوله -سبحانه: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثم قال -سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .

فلو كان الخلع طلاقا لكان عدد التطليقات أربعا صح الأثر بذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما أخرج عبد الرزاق 7/ 487 وسعيد بن منصور الأثر رقم 1455 والبيهقي 7/ 316.

وكذلك استدلوا بما أخرجه الترمذي رقم 11/ 95 عن سلمان بن يسار عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-

(1/246)

فأمرها أن تعتد بحيضة. فلو كان الخلع طلاقا ما أمرت أن تعتد بحيضة ومن ثم فهو فسخ.

وأقول: إن القائلين بأن الخلع فسخ حجتهم أقوى.

(1/247)

العدة:

معناها:

العِدة -بكسر العين- في اللغة معناها إحصاء الشيء، تقول: عددت الشيء أعده عدة؛ تريد أحصيته إحصاء، وربما أطلق لفظ العدة على الشيء المعدود، ومنه قولهم عدة المرأة أيام أقرائها، وعليه يحمل قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} 1 تطلق شرعا على زمن قدره الشاعر لزوال ما بقي من آثار الزواج بعد الفرقة.

وقولنا: زمن قدره الشارع، سيأتي إيضاحه وبيان أنه قد يكون بالأشهر وقد يكون بالإقراء وقد يكون بوضع الحمل.

وقولنا: لزوال ما بقي من آثار الزواج، إشارة إلى علة وجوب الاعتداد وسيأتي إيضاحها.

وقولنا: بعد الفرقة، أعم من أن تكون الفرقة بالطلاق أو بالفسخ أو بالموت.

هل على الزوج عدة؟؟

قد يكون انتظار الأمد الذي حددته الشريعة واجبا على المرأة، وهذا هو الغالب، وقد يكون ذلك الانتظار واجبا على الرجل.

فالزوجة التي دخل بها زوجها ثم حل رباط الزوجية بسبب أي سبب يجب عليها أن تنتظر ولا تتزوج بغير زوجها الذي فارقها حتى ينقضي الأمد الذي حدده الشارع، والزوجة التي توفي عنها زوجها يجب عليها أن تتربص ولا تتزوج بغيره حتى ينتهي الزمن الذي حددته الشريعة لها، والمرأة التي عقد عليها عقد زواج فاسد ودخل بها زوجها دخولا حقيقيا ثم تركها أو قضى القاضي بفسخ زواجهما يجب عليها أن تنتظر ولا تتزوج بغير زوجها الذي فارقها الأمد الذي حددته الشريعة لها.

__________

1 من الآية 1 من سورة الطلاق.

(1/248)

وأما الرجل الذي فارق زوجته بطلاق أو فسخ فلا يجب عليه الانتظار أن يتزوج سواها إلا في مواضع نذكر لك منها ما يلي:

1- إذا كان قد فارق امرأة ويريد أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها أو بنت أخيها أو بنت أختها فإنه لا يجوز له أن يتزوج واحد من هؤلاء إلا بعد انقضاء عدة التي فارقها؛ لأنه لا يجوز له الجمع بين المرأة وإحدى محارمها في عصمة رجل واحد، وما دامت العدة باقية فالعصمة لم تزل.

2- إذاكان الرجل قد فارق امرأة وهو متزوج بثلاث غيرها فإنه لا يجوز له أن يتزوج امرأة أخرى إلا بعد أن تنقضي عدة التي فارقها؛ لأنه لو فعل ذلك يكون قد جمع في عصمته بين أكثر من أربع نساء وهو غير جائز شرعًا.

3- إذا كان الرجل قد فارق امرأته الحرة وأراد أن يتزوج أمة فإنه لا يجوز له أن يعقد عليها إلا بعد انقضاء عدة التي فارقها؛ لأنه لو فعل ذلك كان قد تزوج أمة وهو واحد لطول الحرة وهو لا يجوز.

حكمة مشروعية العدة:

وجبت العدة على من وجبت عليهن من النساء لحكم سامية.

فمنها: الوفاء للزوج المتوفى، بإظهار الحداد عليه والحزن على فقدانه. وفي ذلك من سمو العاطفة ومن تقدير الرابطة الزوجية بين الزوجين اللذين ارتبطا بعقد صحيح مقبول شرعًا ما ليس يخفى أمره.

ومنها: التحقق من براءة رحم المرأة وخلوه من الأولاد، ولما كانت هذه الحكمة لحق الأزواج الذين فارقوا هؤلاء الزوجات حتى لا ينسب أولادهم لغيرهم، ولحق الأزواج الذين يريدون التزوج بهؤلاء الزوجات من بعد، لئلا ينسب إليهم من الأولاد من ليس منهم في قبيل أو دبير؛ لم تفرق الشريعة فيها بين من تفارق الرجل بعد زواج صحيح محترم شرعًا ومن تفارقه بعد زواج لا احترام له شرعًا

(1/249)

لأنه إن فات النظر إلى الرجل الذي فارقها فقد بقي النظر إلى الرجل الذي يريد أن يتزوجها.

ومنها: إعطاء الزوج الذي فارق زوجتها فرصة ليرتجعها إن بدا له؛ فلعله فارقها تحت تأثير لم يكن في طوقه أن يدفعه عن نفسه، أو لعله تخيل الشيء ثم خاله صحيحا ليس من الصحة في شيء، فيأخذه الندم ويتحرق قلبه حسرة أو أسفا على ما جر على نفسه، فلئلا تنقطع عليه السبل أوجبت الشريعة على الزوجة أن تنتظره مدة معلومة، حتى إذا انقضت المدة ولم يعدها إلى عصمته فقد أوصدت عليه أبواب المعذرة واقرأ إن شئت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 1.

ثم تأمل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} 2.

تدرك وجه ما نقول.

أسباب العدة:

للعدة أسباب ثلاثة:

1- الطلاق بنوعيه الرجعي والبائن بعد الدخول.

2- الوفاة.

3- الوطء بشبهة.

__________

1 من الآية رقم 1 من سورة الطلاق.

2 من الآية 228 من سورة البقرة.

(1/250)

بيان من تجب عليها العدة من النساء ومن لم تجب:

تجب العدة على أربع أنواع من النساء:

1- كل امرأة توفي نها زوجها بعد عقد زواج صحيح شرعًا، سواء كان قد دخل بها قبل وفاته أم لم يكن قد دخل بها.

والدليل على ذلك قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 1.

ووجه الاستدلال من الآية أنه سبحانه أوجب على الزوجات اللاتي يتوفى أزواجهن الانتظار هذه المدة من غير تفرقة بين أن يكون الزوج قد دخل بها أو لم يدخل؛ فعلمنا أن كل زوجة يتوفى عنها زوجها تجب عليها العدة.

2- كل امرأة يتوفى عنها زوجها بعد عقد غير صحيح شرعًا، بشرط أن يكون قد دخل بها دخولا حقيقيا وهذه العدة واجبة لمعرفة براءة رحمها من الحمل لا وفاء لحق زوجها المتوفى عليها؛ ولهذا تعتد عدة من فارقها زوجها بغير الموت.

3- كل امرأة طلقها زوجها أو فسخ زواجها بعد الدخول بها حقيقة أو حكما، إذا كان عقد زواجهما صحيحًا شرعًا.

4- كل امرأة فارقها زوجها بعد الدخول بها حقيقة إذا كان قد دخل بها بناء على عقد زواج غير صحيح شرعًا أو بناء على وطء بشبهة.

ولا تجب العدة على نوعين من النساء:

1- كل امرأة توفي عنها زوجها قبل أن يدخل بها إذا كان عقد زواجهما غير صحيح شرعًا، وذلك لأنه سبحانه إنما أوجب الانتظار على الزوجات اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن واسم الزوجة والزوج لا يطلق شرعا إلا على من تكون زوجيتهما صحيحة في نظر الشرع.

__________

1 من الآية 234 من سورة البقرة.

(1/251)

2- كل امرأة فارقها زوجها بسبب غير الوفاة قبل أن يدخل بها دخولا حقيقيا وقبل أن يخلو بها خلوة صحيحة، إذا كان عقد زواجهما صحيحا شرعًا أو غير صحيح.

والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 1.

متى تبدأ العدة؟

تبدأ العدة من حين المفارقة سواء كانت بسبب الوفاة أو الطلاق بنوعيه بعد الدخول أو بسبب الوطء بشبهة.

أنواع المعتدة:

- إن كانت المرأة المعتدة حاملا فعدتها وضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2.

سواء أكانت مطلقة أم توفي عنها زوجها أو موطوءة بشبهة وإن كانت غير حامل فلا يخلو حالها من أمرين:

1- أن يكون متوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 3.

أن تكون مطلقة أو موطوءة بشبهة: فإن كانت من ذوات الحيض فعدتها ثلاثة قروء أي ثلاثة حيضات لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 4.

__________

1 من الآية 49 من سورة الأحزاب.

2 من الآية 4 من سورة الطلاق.

3 من الآية 234 من سورة البقرة.

4 من الآية 228 من سورة البقرة.

(1/252)

وإن لم تكن من ذوات الحيض لصغرها أو لبلوغها سن اليأس فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} 1.

انتقال العدة من نوع إلى نوع:

قد تفارق المرأة زوجها وهي من غير ذوات الحيض فتكون عدتها ثلاث أشهر، ثم يطرأ عليها الحيض فتكون ممن يجب عليهن الاعتداد بالقروء، وقد تفارق المرأة زوجها وهي من ذوات الحيض فتكون عدتها بالإقراء ثم ينقطع عنها الدم فتصبح من اللائي يجب عليهن الاعتداد بالأشهر، أو يمتد بها الدم بلا انقطاع فلا تعرف كيف تعتد، وقد يكون سبب الفرقة غير وفاة الزوج فيكون على المرأة أن تعتد بثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر ثم يموت الزوج قبل انقضاء ذلك فتصبح ممن يجب اعتدادهن بأربعة أشهر وعشرة أيام فهذه ثلاثة أنواع وسنتكلم على كل نوع منها كلمة مجملة فنقول:

إذا فارق الرجل المرأة وهي ممن تعتد بثلاثة أشهر، وشرعت في الاعتداد فعلا ثم حاضت في أثناء العدة فإنه يجب عليها شيئان:

الأول: أن تلغي ما مضى لها من العدة قبل الحيض ولا تحتسب به.

الثاني: أن تبدأ العدة بالحيض فتتربص ثلاث حيضات كاملة وذلك لأن الأصل في الاعتداد إنما هو بالأقراء والشهور الثلاثة نيابة عنها وقد كنا جعلنا عدتها بالأشهر لأن الأصل غير ممكن فإذا حصل الأصل فعلا فلا يجوز العدول عنه، فإن كان الدم قد طرأ عليها بعد ما انقضت عدتها بانقضاء ثلاث أشهر لم نكلفها الاستئناف لأن الأصل لم يحصل إلا بعد ما تم قيام الفرع مقامه.

__________

1 من الآية 4 من سورة الطلاق.

(1/253)

إذا فارق الرجل زوجته وهي من ذوات الحيض وشرعت في الاعتداد بالأقراء فعلا ثم انقطع عنها الدم فلم تعد تراه أصلا فإنا على الرأي الصحيح والمعمول به قانونا عليها أن تنتظر تسعة أشهر ثم تعتد بثلاثة أشهر.

لما أثر عن عمر -رضي الله عنه- قال: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها فإنها تنتظر تسعة أشهر فإن بان حمل فذاك، وإلا اعتدت بعد التسعة أشهر ثم حلت.

ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة فكان إجماعا.

أما إذا فارق الرجل زوجته وهي من ذوات الحيض ثم استمر نزول الدم عليها بدون انقطاع بحيث صارت لا تستطيع أن تميز بين أيام طهرها من أيام حيضها ولا يمكنها تحديد ثلاث حيضات كاملة؛ فإنه ينظر في أمر هذه المرأة: فإن كان لها عادة سابقة في الحيض والطهر، وكانت تذكر هذه العادة رددناها إلى عادتها، وإن لم تكن لها عادة سابقة، أو كان لها عادة سابقة ولكنا لا تذكرها؛ فإنها تسمى حينئذ ممتدة الحيض ويسميها الفقهاء المتحيرة.

وقد اختلف الفقهاء في الأمد الذي تنقضي عدتها به، فقال قوم: تنقضي عدتها بسبعة أشهر من تاريخ الفرقة، وقال قوم: ترد إلى الأشهر فتعتد بثلاثة أشهر.

وإذا طلق الرجل زوجته فشرعت في الاعتداد بالأقراء إن كانت من ذوات الحيض أو بالأشهر إن كانت من غير ذوات الحيض، ثم مات عنها زوجها وهي في أثناء العدة؛ فإما أن يكون طلاقها رجعيا وإما أن يكون طلاقها بائنًا، فإن كان طلاقها رجعيا فإنه يجب عليها أمران: الأول: أن تلغي القدر الذي أمضته في الاعتداد من حين الطلاق إلى حين الوفاة، والثاني: أن تعتد عدة المتوفى عنهن أزواجهن وهي أربعة أشهر وعشرة أيام؛ وذلك لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملكا ولا حلا، والزوجية قائمة بعده ما دامت الزوجة في العدة فيصدق على هذه المرأة وهي في العدة من الطلاق الرجعي أنها قد توفي عنها زوجها

(1/254)

فكان عليها أن تعتد عدة النساء اللاتي يتوفى أزواجهن عنهن، وإن كان طلاقها بائنا فإما أن يكون زوجها حين طلقها مريضا مرض الموت بحيث يصدق عليها أنه فار بتطليقها وإما أن يكون حين طلقها صحيحا، فإن كان زوجها صحيحا حين طلقها فإنها تتم عدة طلاقها ولا تعتد عدة الوفاة، وذلك لأن الطلاق البائن يقطع الزوجية من حين صدوره من الزوج؛ فلا يصدق عليها حين يتوفى أنها توفي عنها زوجها، وإن كان زوجها حين طلقها مريضا مرض الموت بحيث يعتبر فارا بطلاقها ويكون لها نصيبها في تركته فقد اختلف العلماء في المدة التي تعتدها فقال قوم: تعتد عدة المطلقات ومثلها مثل كل امرأة أبانها زوجها، والذي عليه الفتوى أنها حينئذ تعتد بأبعد الأجلين: عدة الوفاة، وعدة الطلاق، فأيتهما كانت أطول من الأخرى فهي عدتها، وذلك لأن في هذه المرأة شبهين شبها من الزوجات وشبها من المبانات، فأما شبهها بالزوجات فأنها وارثة لهذا المتوفى وبمقتضى هذه الشبهة تجب عليها عدة الوفاة، وأما شبهها بالمبانات فأن زوجيتهما قد انقطعت من حين صدور الطلاق وبمقتضى هذه الشبه تجب عليها عدة الطلاق، فأعطيناها حكم الشبهين جميعًا، ولكنا قضينا بتداخل أقصرهما أمدًا في أطولهما أمدًا، فمتى انتهى أطول العدتين أمدا فقد انتهتا جميعًا.

عدة المختلعة من زوجها:

يرى جمهور العلماء أن عدتها عدة طلاق لأن الفرقة بينها وبين زوجها حدثت بعد الدخول في حال الحياة فكانت ثلاث حيضات كغير الخلع وهذا هو الراجح.

ويروى عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عباس، وإسحاق، وابن المنذر، أن عدة المختلعة حيضة، وذلك لما روي عن ابن عباس "أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عدتها حيضة".

(1/255)

الإيلاء:

تعريفه:

الإيلاء لغة الحلف.

وشرعًا: حلف الزوج عن الامتناع من وطء الزوجة مطلقا أو مدة تزيد عن أربعة أشهر.

مشروعيته:

كان الرجل من أهل الجاهلية يحلف على ألا يمس امرأته السنة والسنتين، والأكثر من ذلك يقصد الإضرار بها فيتركها لا هي زوجة ولا هي مطلقة فأراد المولى -عز وجل- أن يضع حدا لهذا العمل الضار فوقته بمدة أربعة أشهر، ليتروى فيها الرجل لعل وعسى يرجع إلى رشده فإن رجع في تلك المدة أو في آخرها بأن حنث في اليمين ووطء زوجته وكفر عن يمينه فيها وإلا طلق.

فقال -عز من قائل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.

أركانه:

للإيلاء أركان أربعة:

الحالف: وهو كل زوج بالغ عاقل مختار قادر على الوطء فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون والمكروه والمجبوب والأشل.

المحلوف به: هو الله تعالى أو صفة من صفاته باتفاق في المذهب وكذا إذا حلف بغير الله على الجديد وهو الصحيح؛ لأنه يمين يلزمه بالحنث فيها حق فصح به الإيلاء كاليمين بالله -عز وجل- ولما روي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كل يمين منعت جماعها في إيلاء، ولأنها يمين منعت جماعها فكانت

__________

1 الآية 227، 326 من سورة البقرة.

(1/256)

إيلاء كالحلف بالله ولأن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف فيكون موليا لتحقيق المنع باليمين.

فلو قال: إن طئت فعبدي حر أو أنت طالق، أو قال: إن وطئتك فلله علي نذر كذا كان موليا.

المحلوف عليه: وهو الجماع في الفرج، فلو حلف على ترك الجماع في الدبر أو فيما دون الفرج لم يكن موليا بشرط أن تكون المحلوف على ترك جماعها زوجة حقيق لقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 1.

ولأن غير الوجه لا حق له في وطئها فلا يكون موليا منها كالأجنبية وإن حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها، لم يكن موليا؛ لأنه إذا كانت اليمين قبل النكاح لم يكن قاصدا الإضرار، فأشبه الممتنع بغير يمين.

ويصح الإيلاء من المطلقة الرجعية في عدتها؛ لأنها في حكم الزوجة يلحقها الطلاق فيلحقها الإيلاء، سواء أكانت مسلمة أم ذمية قبل الدخول وبعده بالغة أو غير بالغة صغيرة أو غير صغيرة إلا أنه لا يطالب بالرجوع إذا كانت الزوجة مجنونة أو صغيرة لأنهما ليستا من أهل المطالبة.

الألفاظ المستخدمة في الإيلاء:

تنقسم الألفاظ المستخدمة في الإيلاء إلى خمسة أقسام:

1- ما كان صريحا في الظاهر والباطن كقوله لها: والله لا أجامعك.

2- ما كان صريحا في الظاهر كناية في الباطن كقوله لها: والله لا وطئتك ولا جامعتك، فهذا صريح في الظاهر اعتبارًا بالعرف، فيجعله موليا في الحكم، وكناية في الباطن لاحتمال لا أطؤك بقدمي فإن قصد الإيلاء كان مواليا وإلا فلا.

3- ما كان كناية في الظاهر والباطن كقوله: والله لا ضاجعتك أو لا أجمع رأسي ورأسك، ونحو ذلك من الألفاظ المحتملة للوطء وغيره فلا يكون موليا بها إلا بالنية.

__________

1 من الآية 226 من سورة البقرة.

(1/257)

4- ما كان مختلفا فيه وهو ثلاثة ألفاظ: لا باضعتك، لا باشرتك لا مسستك ففي هذه الألفاظ الثلاثة قولان:

القول الأول: وهو القديم من المذهب أنها صريح في الظاهر كناية في الباطن.

القول الثاني: وهو الجديد أنها كناية في الظاهر والباطن.

5- ما لم يكن صريحا ولا كناية كقوله: لأوحشتك أو لا أخزنتك ونحو ذلك فلا يكون بها الحالف موليا.

المدة:

تقدر مدة الإيلاء بما لا يزيد على أربعة أشهر تبدأ من وقت اليمين، فإن حلف على عدم جماعها أربعة أشهر فما دونها لا يعتبر موليا.

ولا تخلو مدة الإيلاء من أقسام ثلاثة:

أحدها: أن تكون مطلقة كأن يقول والله لا أجامعك أبدًا.

الثاني: أن تكون مقدرة بزمان كأن يقول: والله لا أجامعك إلى سنة أو إلى شهر كذا وإلى يوم كذا.

فينظر في هذا الزمان فإن زاد على أربعة أشهر كان موليا، وإن قدر بأربعة أشهر فما دونها لم يكن موليا.

الثالث: أن تكون المدة معلقة على شرط مستحيل كقوله: والله لا أجامعك حتى تصعدي إلى السماء، أو كان أمرًا يستبعد حصوله في الاعتقاد كقوله: والله لا أجامعك حتى تقوم الساعة، أو علقه بأمر يعلم تأخره عن أربعة أشهر كقوله: والله لا أجامعك حتى يقدم فلان من السفر وهو يعلم أنه لا يقدم إلا بعد أكثر من أربعة أشهر، فهو قول في هذه الأحوال الثلاثة.

وإن علق إيلاءه على شرط يتحقق وجوده قبل أربعة أشهر كقوله: والله لا أجامعك حتى تمام الشهر، أو يظن تحقق وجوده كقوله: والله لا أجامعك حتى يجيء المطر وكان الوقت وقت نزوله غالبا، فلا يعتبر في الحالتين موليا.

(1/258)

وإن علق إيلاءه على موته أو موتها أو موت فلان فعلى الأصح يكون موليا. وقيل: لايعتبر موليا.

وإن علق الإيلاء على حمل الزوجة وكانت ممن لا تحمل لصغر سنها أو لبلوغها سن اليأس فهو مول -وإن كانت ممن تحمل فلا يعتبر موليا؛ لإمكان حملها.

وإن علق الإيلاء على فطام الولد فقال: والله لا أجامعك حتى تفطمي ولدك فإن أراد به قطع الرضاع لم يكن موليا؛ لأنه يمكنه قطعه في الحال، وإن أراد به مدة رضاع الحولين ينظر في الباقي منها فإن كان أكثر من أربعة أشهر كان موليا وإن كان أقل لم يكن موليا.

وإن علق الإيلاء على المشيئة فلا يخلو الحال من أمرين:

أولها: تعليقه على مشيئتها فإن شاءت ألا يقربها فهو مول، وإن لم تشأ فلا يعتبر موليا، وتعتبر مشيئتها على الفور في المجلس؛ لأن فيه تمليك لها فيراعى فيه الفورية.

الثاني: تعليقه على مشيئة أجنبي كقوله: والله لا أجامعك إن شاء أبي فشاء أبوه عدم مجامعتها فهو مول إن زادت المدة عن أربعة أشهر وإلا فلا، ولا تعتبر مشيئة الأب هنا على الفور في المجلس على الأصح.

الآثار الشرعية المترتبة على الإيلاء:

يترتب على الإيلاء الآثار الشرعية التالية:

1- تضر الزوج -المولي- مدة أربعة أشهر بنص القرآن الكريم لا تحتاج إلى حكم القاضي في ضربها، وهي حق للزوج لا مطالبة عليها فيها بشيء؛ لأن الله تعالى أنظره بها فصار كإنظار تأجيل الدين لا يجوز المطالبة بها قبل انقضائها، وتحتسب المدة من وقت الإيلاء، لا من وقت المحاكمة، فإذا انقضت مدة التربص أربعة أشهر كانت الزوجة بالخيار إن شاءت تركته ولم تطالبه بشيء.

(1/259)

وإن شاءت طالبته بواحد من أمرين:

أولهما: الفيء: وهو الجماع سواء أكان وطئه حلالا أم محظورا كأن تكون حائضا أو نفساء أوصائمة أو محرمة أو هو صائم أو محرم؛ لأن الفيء في اللغة الرجوع إلى ما فارق، وهو بالإيلاء ممتنع من الجماع فكانت الفيئة الرجوع إليه.

وإذا كانت الفيئة الرجوع إلى الجماع فلا يخلو حاله من أن يكون قادرًا عليه، أو عاجزًا عنه فإن كان قادرًا عليه لا يصح فيئه إلا بالجماع وأقله التقاء الختانين، وإن كان عاجزًا عنه بعذر من مرض أو غيره فاء بلسانه وهو أن يقول: لست أقدر على الوطء ولو قدرت عليه لفعلته، وإذا قدرت عليه فعلته، فيقوم فيئه بلسانه في حال عذره في إسقاط المطالبة مقام فيئه بوطئه، وذلك لأنه لا فرق بين الرجوع بالقول أو الرجوع بالفعل، ولأن الفيئة تراد لرفع الضرر بالإيلاء وسكون النفس إلى زواله بها، وقد يرتفع الضرر وتسكن النفس بقول العاجز كما يرفع بفعل القادر ولأن الفيئة ترفع الضرر.

وإذا ثبت أن الفيئة باللسان تسقط المطالبة في حال العذر، فإذا زال العذر سقط حكم الفيئة باللسان ولزمه أن يفيء بالجماع، إلا إذا كان هناك عذر من جهتها كالمرض، والحبس، والإحرام، والصوم الواجب، والاعتكاف الواجب، والنفاس كان هذا العذر مانعا لها من المطالبة بحقها من الجماع لعدم قدرتها عليه، ويطالب بالطلاق؛ لأنه هو الذي في مقدوره.

الثاني: الطلاق

وأدناه طلقة رجعية، فإن امتنع عن الطلاق ففي أصح القولين يطلق عليه الحاكم طلقة واحدة رجعية، وفي القول الثاني: يجبر الزوج على الطلاق، ولا يطلق عليه الحاكم؛ لأن الطلاق لا يكون إلا ممن ملك الطلاق، والمالك له إنما هو الزوج.

وإذا طلق الزوج: فهو مخير في عدد الطلاق وأقله واحدة يملك فيها الرجعة، فإن طلق اثنتين فإن له الرجعة بعدها وإن طلق ثلاثا بانت منه وطلاقه واقع.

(1/260)

وإن طلق الحكم على أصح القولين فيشترط لطلاقه شروط ثلاثة:

1- أن يكون الزوج ممتنعا عن الطلاق، فإن لم يكن الزوج ممتنعا طلق الحاكم عليه فطلاقه غير واقع.

2- أن يقتصر في طلاقه على طلقة واحدة رجعية، فإن طلق أكثر منها وقعت واحدة ولم يقع الزائد عليها.

3- أن يوقع الطلاق في زمان الوجوب بعد انقضاء المدة فإن طلق قبل انقضائها لم يقع طلاقه؛ لأنه لم يجب ما يستوفيه.

طلاق الحاكم والزوج معا:

إن طلق الحاكم والزوج معا فلا يخلو الحال من أمور ثلاثة:

أولها: أن يسبق طلاق الزوج طلاق الحاكم؛ فطلاق الزوج واقع وطلاق الحاكم غير واقع سواء علم الحاكم بطلاق الزواج أو لم يعلم.

الثاني: أن يسبق طلاق الحاكم طلاق الزوج فإن علم الزوج بطلاق الحاكم وقع طلاقهما معا، وإن لم يعلم بطلاقه ففي أحد الوجهين لا يقع طلاقه؛ لأنه واجب قد سبق الحكم باستيفائه منه، وفي الوجه الثاني: يقع طلاقه؛ لأنه يملك ما وجب وما لا يجب.

الثالث: أن يطلق الزوج والحاكم معا في وقت واحد، فطلاق الزوج واقع وفي وقوع طلاق الحاكم وجهان:

الوجه الأول: يقع طلاقه؛ لأنه لم يسبقه الزوج بالطلاق.

الوجه الثاني: لا يقع؛ لأنه لم يسبق الزوج بالطلاق.

2- إذا وطئها في مدة التربص الأربعة أشهر حنث في يمينه لفعل المحلوف عليه، فإن كان الحلف بالله أو بصفاة من صفاته وجبت عليه كفارة يمين كسائر الأيمان، وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة

(1/261)

أيام متتابعات أو متفرقات، وإذا لزمته الكفارة سقط الإيلاء، وإن كان اليمين على صوم أو عتق فله أن يخرج منها بكفارة يمين؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمنيه" وله أن يفي بما نذر.

وإن كان الحلف بالطلاق الثلاث طلقت ثلاثا وهو المذهب فإن جامع لزمه النزع، فإن استدام لزمه المهر بما استحل من فرجها دون الحد، وقيل: يلزمه الحد.

3- اجتماع الإيلاء والطلاق:

إن طلق المولي في مدة الإيلاء انقطعت المدة ولم يسقط الإيلاء، فإن راجعها وبقيت مدة التربص واستؤنفت المدة من وقت الرجعة فإن وطئها حنث في اليمين وسقط الإيلاء؛ لأنه أزال الضرر.

4- اجتماع الإيلاء مع الظهار:

إذا جمع الزوج بين الإيلاء والظهار في امرأة واحدة أو ظاهرها ثم آلي منها، فإن انقضت مدة الإيلاء فقد اجتمع عليه في الوطء حقان متنافيان.

أحدهما: يحرم الوطء في حق الله -تعالى- حتى يكفر وهو الظهار.

والثاني: يوجب الوطء في حق الزوجة قبل التفكير وهو الإيلاء، فإن عجل الكفارة في الظهار ووطئ في الإيلاء خرج من تحريم الظهار بالكفارة ومن حق الإيلاء بالوطء، وإن طلق خرج بالطلاق من حق الإيلاء، وخرج من إثم الظهار بترك الوطء، وإن لم يفعل أحد هذين الأمرين ووطئ قبل التكفير في الظهار كان عاصبا بالوطء في حكم الظهار، وخارجا به في الإيلاء من حق الزوجة.

فإن طلب الإمهال في الوطء حتى يكفر عنه الظهار أمهل.

5- اجتماع الإيلاء مع الخلع:

إن خالع الزوج زوجته فقد بانت منه بالخلع وسقط حكم الإيلاء في النكاح، فإن عاد فتزوجها بعقد ومهر جديدين تضرب له مدة الإيلاء من جديد إذا قلنا: إن فرقة

(1/262)

الخلع طلقة واحدة رجعية على القديم في المذهب، وإذا قلنا: إن فرقة الخلع فسخ يجري مجرى الطلاق الثالث في أحد الوجهين لم يكن موليا، وعلى الوجه الثاني القائل: إن فرقة الخلع فسخ دون الطلاق الثلاث فإنه يكون موليا.

6- الإيلاء في الغضب والرضا سواء، لعموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 1.

7- تعتد الزوجة التي آلي منها زوجها ثم طلقها بعد المدة المضروبة له شرعًا لأنها مطلقة كسائر المطلقات.

الاختلاف في الإيلاء:

إن اختلفا في أصل الإيلاء هل آلي منها أو لا، أو اختلفا من انقضاء المدة فالقول قول الزوج بيمينه.

وإن اختلفا في انقضاء المدة فادعتها المدة فادعتها وأنكرها فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح وهي تدعي ما يخالفه من استحقاق الفرقة.

وإن ادعى الزوج وطئها وأنكرت وطئها فإن كان ثيبا فالقول قول الزوج في الوطء مع يمينه بالله لقد أصابها لأن الوطء يجب الاستتار به ولا يمكن إقامة البينة عليه فالقول قول من يدعيه، ولأن بقاء النكاح ودوام صحته أصل قد استصحبه الزوج بدعوى الإصابة والزوجة تدعي ما يخالف الأصل من وجوب الفرقة بإنكارها الإصابة فكان القول فيه قول الزوج مع يمينه استصحابا للأصل.

وإن كانت بكرا فالقول قولها؛ لأن البكارة من شواهد صدقها على عدم الإصابة.

ولو اعترفت بالوطء بعد المدة وأنكر الزوج سقط حقها في المطالبة بالفيء لاعترافها بالوطء فلو رجعت وأنكرت قالت: لم يطأني لم يسمع قولها؛ لأنها أقرت بوصول حقها إليها فلا يقبل رجوعها.

__________

1 من الآية 226 من سورة البقرة.

(1/263)

الظهار:

تعريفه: الظهار لغة: مصدر مأخوذ من الظهر مشتق من قول الرجل إذا ظاهر امرأته "أنت علي كظهر أمي" أي: ظهرك محرم علي كتحريم ظهرها، وخص الظهر لاختصاصه بالركوب لأن الزوجة مركوب الزوج عند جماعها.

وشرعًا: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى محرمة عليه.

تاريخه: قد كان الظهار طلاقا في الجاهلية لا رجعة بعده وكذلك كان الإيلاء بل هو أشد الطلاق عندهم لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التي تحرم حرمة على التأبيد، بل لا تجوز بحال من الأحوال فجاء الإسلام وأبطل هذا الحكم.

حكمه: الظهار محرم بل اعتبره فقهاء المذهب من الكبائر، لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} 1.

دليل تحريمه: يستدل على تحريمه قبل الإجماع بقول الله تعالى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} 2.

فسبب نزول هذه الآية أن أوس بن الصامت ظاهر امرأته خولة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت: ظاهر مني حين كبر سني ورق عظمي. فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} 3.

وروى هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: أول من ظاهر في الإسلام زوج خولة فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت له فقال: "ما أتاني في هذا شيء" فقالت: يا رسول الله نال مني وجعلت تشكو إلى الله تعالى فبينما هما كذلك إذ

__________

1 من الآية الثانية من سورة المجادلة.

2 من الآية الثالثة من سورة المجادلة.

3 من الآية 1 من سروة المجادلة.

(1/264)

نزل القرآن {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 1.

ثم حبس الوحي فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها فتلى عليها، فقالت: ما نجد رقبة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هو ذلك" فبينما هي كذلك إذ نزل الوحي: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 2.

ثم حبس الوحي فانصرف رسول الله -صلى الله عليه سلم- فتلى الوحي عليها فقالت: ما نستطيع فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هو ذلك" فبينما هي كذلك إذ نزل الوحي: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} 3.

فانصرف إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلاها عليها فقالت: ما نجد فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنا نستعينه" قال أصحابنا: فنزلت الآيات الثلاث.

فالأولى: في قصتها.

والثانية: في قصته.

والثالثة: في بيان حكم كل مظاهر لكونها عامة هذا هو السبب في نزل آي الظهار وبيان حكمه.

ثم حدثت قصة أخرى بعد استقرار حكم الظهار، وهي ما رواه سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال: كنت امرأ يصيب من النساء ما لا يصيبه غيري فلما أظلني شهر رمضان خشيت أن لا أنزع عنها إلى أن يدركني الفجر فتظاهرت منها فخدمتني في ليلة قمراء فرأيت ساقها فلم ألبث أن وثبت إليها فجامعتها ثم أنطلقت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت له فقال: "أعتق رقبة"، فقلت: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أملك رقبة غير هذه وضربت بيدي إلى رقبتي

__________

1 آية 3 من سورة المجادلة.

2 آية 3 من سورة المجادلة.

3 آية 4 من سورة المجادلة.

(1/265)

فقال: "صم شهرين متتابعين" فقلت: وهل أصباني ما أصابني إلا من الصوم، فقال: أطعم ستين مسكينا فقلت: يا رسول الله لقد بتنا ليلتنا هذه وما لنا طعام نأكله فقال: "اذهب إلى صدقة بني زريق فخذها وأطعم منها ستين وكل أنت وأهلك الباقي".

فخبر خوله مع أوس بن الصامت سبب لبيان حكم الظهار وما نزل من القرآن وخبر سلمة بن صخر مع امرأته بعد استقرار حكمه وظهور ما نزل فيه والله أعلم.

الفرق بين الظهار والطلاق:

يفرق بينهما من وجوه:

1- أن الظهار يوجب تحريما يرفع بالكفارة، والطلاق خلاف ذلك.

2- أن الظهار يجوز تأقيته بمدة والطلاق لا يجوز فيه ذلك.

3- أن الطلاق مشروع والظهار ممنوع.

أركانه:

للظهار أركان أربعة:

1- المظاهر:

وهو كل زوج يصح طلاقه بالغًا عاقلًا مختارًا ولو ذميا سكران كان أم غير سكران.

2- المظاهر منها:

وهي كل زوجة يلحقها الطلاق دخل بها أو لم يدخل مسلمة أو ذمية حرة أو أمة صغيرة أو كبيرة حتى لو كانت في عدتها من طلاق رجعي فتخرج الأجنبية فلو قال رجل لأجنبية: إن نكحتك فأنت علي كظهر أمي لم يصح ظهاره.

3- الصيغة:

فصريح الظهار: أنت علي كظهر أمي وما في معناه كقوله: أنت معي أو عندي أو لي كظهر أمي، ومتى أتى بصريح الظهار قال: أردت غيره لم يقبل قوله

(1/266)

على الصحيح، وقيل: يقبل قوله؛ لأنه حق الله تعالى ومن الصريح قوله: جسمك أو بدنك أو نفسك كبدن أمي أو جسدها لتضمنه الظهر، ومنه أيضا أنت عليَّ كبدن أمي أو بطنها أو صدرها ونحوها من الأعضاء التي لا تذكر في معرض الكرامة والاعتزاز، مما سوى الظهر؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به فكان كالظهر.

ومن الصريح ذكره جزء شائع من زوجته كنصفك أو ربعك أو ظهرك أو رأسك. ومن الكناية: أن يذكر عضوا يحتمل الكرامة كانت علي كعين أو رأس أمي أو روحها أو وجهها فإن قصد الظهار كان مظاهرًا وإلا فلا.

4- المشبه به:

الأم ويلحق بها كل من حرم وطؤها على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة إلا مرضعة المظاهر وزوجة ابنة؛ لأنهم كانتا حلالا له في وقت سابق على التحريم.

الآثار الشرعية المترتبة على الظهار:

يترتب على الظهار الآثار الشرعية التالية:

1- يحرم على المظاهر بالظهار الوطء فقط ولا تحرم عليه دواعيه من أنواع الاستمتاع كاللمس والنظر بشهوة والتلذذ بما دون الفرج في أحد القولين إلا أنه يتجنبه احتياطا وإذا فعله ففعله غير محرم لأن المراد بالمس في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} الوطء فقط في عرف الشرع، ولأن تحريم الوطء في الحيض والصيام لا يوجب تحريم التلذذ بما سواه فكذلك الظهار.

وقيل: يحرم عليه التلذذ بما دون الفرج كما يحرم عليه الوطء في الفرج؛ لأن المراد بالمس التقاء البشرتين حقيقة، ولأنه بالظهار جعل تحريمها عليه كتحريم أمه وكل الاستمتاع بأمه حرام.

وهذا ما أرجحه: عملا بالقاعدة الفقهية "ما أدى إلى حرام فهو حرام".

2- تجب على المظاهر كفارة الظهار بالعودة إلى الحياة الزوجية بينه وبين المظاهر منها.

(1/267)

لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} 1.

والعود في الظهار: هو أن يمسكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه؛ لأن ظهاره منا يقتضي إبانتها فإمساكها عود فيما قال ولأن تشبيهها بالأم يقتضي ألا يمسكها زوجة فإذا أمسكها زوجة فقد عاد فيما قال؛ لأن العود للقول مخالفته.

هذا إذا كان الظهار مطلقا وكانت الزوجية قائمة بينهما حقيقة أما إذا كان الظهار مؤقتا كأن قال: أنت علي كظهر أمي شهرًا فإنه يكون عائدا بالوطئ في المدة لا بالإمساك.

والعود في الرجعية: إنما هو بالرجعة.

بشرط ألا يتصل بالظهار فرقة بأي سبب من الأسباب فلو اتصل بالظهار فرقة بموت منهما أو من أحدهما أو فسخ النكاح أو فرقة بسبب طلاق رجعي أو بائن ولم يراجع أو جن الزوج عقب ظهاره فلا عود ولا كفارة في جميع ما ذكر، لتعذر الفراق في حالتي الطلاق والجنون وفوت الإمساك في الموت، وانتفائه في الفسخ.

3- إذا عاد المظاهر لزمته الكفارة.

لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 2.

وهل الكفارة وجبت عليه بالظهار والعود معًا، أم بالظهار فقط والعود شرط، أم بالعود فقط؟

أوجه: أصحها أنها وجبت بالظهار والعود معا وذلك هو الموافق: لظاهر الآية وفقا لترجيحهم أن كفارة اليمين تجب باليمين والحنث معا، فكذلك كفارة الظهار تجيب بالظهار والعود معًا، وسيأتي بيان كفارة الظهار إن شاء الله تعالى بعد الحديث عن أحكامه.

__________

1 من الآية 3 من سورة المجادلة.

2 من الآية 3 من سورة المجادلة.

(1/268)

4- لا يقع ظهار المرأة فلو قالت امرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي فلا كفارة عليها ولا يلزمها شيء وكلامها لغو؛ لأن التحليل والتحريم في النكاح من الرجال ليس بيد النساء منه شيء.

يصح تعليق الظهار كأن يقول: إذا جاءك رمضان فأنت علي كظهر أمي، فجاء رمضان صار مظاهرًا.

يصح تأقيت الظهار كأن يقول: أنت علي كظهر أمي شهرًا أو شهرين.

فإن وطئها في المدة فقد وجبت الكفارة.

لما روي أن سلمة بن صخر ظاهر زوجته شهر رمضان ثم وطئها قبل أن ينتهي الشهر فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فأمره بالكفارة.

7- إذا كرر المظاهر لفظ الظهار فإن قصد التأكيد فكفارة واحدة وإن أراد الاستئناف وجب عليه لكل لفظ كفارة.

8- إتباع الظهار بالطلاق.

لو ظاهر زوجته ثم أتبع الظهار بالطلاق لم يكن عائدا ولا كفارة عليه؛ لأن العود يكون بإمساكها مدة يمكنه فيها الطلاق وهو بالطلاق غير ممسك سواء أكان الطلاق رجعيا أو بائنا؛ لأنها تحرم عليه بالطلاقين -الرجعي والبائن- معا فلا يجب عليه الكفارة، فإن كان ذلك كذلك فإن كان الطلاق رجعيا فراجعها في العودة فالظهار بحاله ويصير عائدا فيه تجب الكفارة عليه، بالرجعة في أحد القولين.

وفي القول الثاني: لا يكون عائدا بالرجعة حتى يمضي بعدها زمان العود بالإمساك عن الطلاق مدة يقدر فيها على الطلاق وإن كان الطلاق بائنا أو رجعيا فلم يراجع حتى انقضت العدة سقط الظهار في هذا النكاح.

إتباع الظهار باللعان:

إذا لاعن المظاهر بعد أن مضى عليه زمان العود فقد وجبت عليه الكفارة ولا تسقط عنه باللعان كما لا تسقط عنه بالموت.

(1/269)

كفارة الظهار:

الكفارة مأخوذة من الكفر أي الستر لسترها تخفيفا من الله تعالى وهل الكفارات بسبب حرام زواجر كالحدود والتعازير أو جوابر للخلل الواقع؟

وجهان، أو وجههما الثاني: لأنها عبادات ولهذا لا تصح إلا بالنية لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وكفارة الظهار مرتبة بنص القرآن: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} إلى أن قال تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} 1.

وبمثل ذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- سلمة بن صخر حين ظاهر امرأته وخصال كفارة الظهار ثلاثة:

أولها: عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل بشرط ألا تكون ممن يعتق عليه كالأب أو الابن، فإن لم يجد الرقبة أو ثمنها انتقل إلى الخصلة الثانية.

ثانيها: الصيام

فيصوم شهرين متتابعين لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} فإن دخل في الصيام في أول الشهر أيام صام إلى الهلال ثم أتم شهرا بالهلال ثم يتم الأول من الشهر الثالث.

وإن جامع بالليل وهو يكفر بالصيام أثم وعصى، لأنه جامع قبل التكفير ولا يبطل التتابع؛ لأن جماعه لا يؤثر في الصوم كالأكل ليلا، فإن أفطر لعذر المرض أو السفر ففي أحد القولين ينقطع التتابع وفي القول الثاني: لا ينقطع كما لا يقطعه حيض المرأة وإن دخل المظاهر في الصوم فقطعه بصوم رمضان أو بفطره يوم العيدين لزمه الاستئناف من جديد؛ لأنه قطع التتابع بسبب لا عذر فيه وكان بإمكانه عدم الدخول في صوم الكفارة حتى ينتهي من صيام رمضان، والفطر في العيدين.

__________

1 سورة المجادلة آية 3، 4.

(1/270)

ثالثها: الإطعام

لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} . لكل مسكين مد من غالب قوت البلد، ولا يكف في إطعامهم دعوتهم إلى الغداء أو العشاء بل لا بد من تمليكهم إياه ولا يكفي في الإطعام أقل من ستين وإن دفع لهم أكثر من التسين مدا.

لو دفع المكفر لمسكين واحد مدا من الطعام ثم اشتراه منه وملكه لغيره حتى أتم ستين مسكينا على هذا النحو أجزأه ولكن مع الكراهة.

العجز عن خصال الكفارة الثلاث:

إن عجزمن لزمته الكفارة عن جميع الخصال بقيت في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها إلأا لأنه لا يجامع زوجته حتى يكفر لعموم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .

التلفيق: هو أن يأتي بجزء من خصلة من خصال الكفارة مع جزء من خصلة أخرى منها.

ولا تجزئ كفارة ملفقة من خصلتين كأن يصوم شهرًا ويطعم ثلاثين مسكينا.

(1/271)

اللعان:

تعريفه:

اللعان لغة: مصدر لاعن كقاتل عن اللعن وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله -عز وجل.

وشرعا: كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العارية، أو إلى نفي الولد.

وسمي اللعان لعانا: لأنه موجب لبعد أحد المتلاعنين من الله تعالى للقطع بكذب أحدهما وإن لم يتعين.

قيل: بل سمي بذلك لما فيه من لعن الزوج لنفسه.

ويقال: التعن الرجل إذا لعن نفسه، ولاعن إذا لاعن زوجته.

مشروعيته:

اللعان حكم ورد به الشرع في الأزواج بعد استقرار حد الزنا والقذف على العموم. والأصل في مشروعيته الكتاب، والسنة، والإجماع.

فأما الكتاب: فقوله تعالى: {يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 1.

ومن السنة: ما أخرجه البخاري أن هلال بن أمية قذف زوجته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سمحاء، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك"، فقال: يا نبي الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجل ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرر ذلك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق نبيا إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت آيات اللعان.

__________

1 من الآية 6 من سورة النور.

(1/272)

وأجمعت الأمة على مشروعيته.

سببه:

وسبب اللعان أمران:

أحدهما: قذف الرجل زوجته قذفا يوجب حد الزنا لو قذف أجنبية.

الثاني: نفي الحمل أو الولد ولو كان من وطء بشبهة أو نكاح فاسد.

أركان اللعان:

أركان اللعان أربعة:

1- الملاعن:

2- الملاعنة:

ويشترط فيهما أن يكونا زوجين مكلفين أي: بالغين عاقلين سواء أكانا مسلمين أو كافرين عدلين أم فاسقين، أم محدودين في قذف أم كان أحدهما كذلك حرين أم عبدين رشيدين أم سفيهين، ويصح من السكران والآخرس والخرساء والمعلومي الإشارة ومن المطلق رجعيا، ويصح كذلك من الزوج للمطلقة بائنا لنفي الولد.

3- سبب: وسبقت الإشارة إليه.

4- لفظ وهو إما صريح كأن يقول: يا زانية، وإما كناية كأن يقول: يا فاجرة أو يا فاسقة أنت تحبين الخلوة أو لا تردين يد لامس، وإما تعريض: كأن يقول: أمي لست بزانية فإن أراد بالكناية والتعريض القذف كان قذفًا وإلا فلا، ويعزر للإيذاء إذا لم يرد القذف ويصدق بيمينه في عدم إرادته للقذف.

لغة اللعان:

إن كان المتلاعنان ممن أصل لسانهما عربي وعموم كلاهما بالعربية ويعرفان الأعجمية فلا يجوز لهما اللعان إلا بالعربية لأمرين.

أولهما: أن اللعان محمول الألفاظ على ما يقتضيه القرآن فاقتضى أن يكون بلسانه العربي من العرب.

(1/273)

الثاني: أن في عدول العربي عن لسانه مع القدرة عليه ريبة تضمن احتمالا يمنع من تغليظ اللعان.

وإن كان أصل لسان الملاعن أعجمي وهو يحسن العربية.

ففي أحد الوجهين: لا يجوز أن يلاعن إلا بها اعتبارًا بلفظ القرآن المعول عليه في اللعان.

وفي الوجه الثاني: يجوز أن يلاعن أصل لغته الأعجمية.

كيفية اللعان:

هو أن يقول الزوج عند الحاكم في جماعة من المسلمين بعد وعظ الحاكم: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا وأن هذا الولد من زنا وليس مني أربع مرات، ويقول في الخامسة بعد أن يعظه الحاكم: وعليَّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين.

ويترتب على هذه الملاعنة من الزوج إثبات جريمة الزنا على الزوجة، وبالتالي يجب عليها حد الزنا، إلا أن الشارع الحكيم شرع لهذه الزوجة الملاعنة طريقا لدفع حد الزنا عنها في هذه الحالة وذلك بلعانها للزوج الذي لاعنها بأن تقول هي الأخرى: أربع مرات أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، ثم تقول في المرة الخامسة: وإن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا.

ولو قالا: أحلف بالله أو أقسم بالله ففيه وجهان:

أحدهما يجوز؛ لأن اللعان يمين فجاز بألفاظ اليمين.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه أخل باللفظ المأمور به والمنصوص عليه؛ وإن أبدل لفظ اللعنة بالإبعاد أو لفظ الغضب بالسخط ففيه وجهان أيضا:

أحدهما: يجوز؛ لأن معنى الجميع واحد.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه ترك للمنصوص عليه.

(1/274)

وإن أبدلت المرأة لفظ الغضب اللعنة لم يجز لعانها؛ لأن الغضب أغلظ من اللعن، ولهذا خصت المرأة به؛ لأن المرأة بزناها أقبح وإثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه.

وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بلفظ الغضب ففيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأن الغضب أغلظ.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه ترك للمنصوص عليه.

وإن قدم الرجل لفظ اللعنة على لفظ الشهادة، أو قدمت المرأة لفظ الغضب على لفظ الشهادة ففيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأن القصد منه التغليظ وذلك يحصل مع التقديم.

الثاني: لا يجوز؛ لأنه ترك للمنصوص عليه.

ونص فقهاء المذهب على أن الزوج لا يجبر على اللعان بعد قذفه لزوجته بالزن، بل من حقه إن يمتنع عن ذلك.

وبعد إقناعه يقام عليه حد القذف، وكذلك لا تجبر الزوجة على لعان زوجها بعد ملاعنته لها بل من حقها أن تمتنع عن ذلك وبامتناعها تثبت في حقها جريمة الزنا ويقام عليها حده.

شروط اللعان:

يشترط في اللعان الشروط التالية:

1- أن تكون بأمر الحاكم؛ لأنه يمين فلا بد فيه من أمر الحاكم كسائر الأيمان.

2- أن يكون بحضور جماعة من المسلمين أقلهم أربعة تعظيما لأمره بشرط أن يكونوا من أعيان البلدة وصلحائهم لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1.

3- أن يتأخر لعانها من لعانه، ولا يشترط المولاة بين لعانه ولعانها.

__________

1 الآية 2 من سورة النور.

(1/275)

4- أن تكون الزوجية بينهما صحيحة.

5- أن يكون الزوج من يصح طلاقه بأن يكون بالغا عاقلا مختارًا وإذا تم اللعان بالكيفية المشار إليها مستوفي للشروط السابقة زال الفراق بينهما بأن يفرق القاضي بينهما ونفي الولد، وحرمت عليه تحريما أبديا فلا تحل له بعد ذلك لا بعقد زواج ولا بملك اليمين.

وطريقة اللعان هذه نص عليها القرآن الكريم صراحة فقال -عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1.

لعن الأخرس:

ويصح من الأخرس بإشارته المفهمة أو بالكتابة إن كان يحسنها لأنهما في حقه كالنطق.

الأحكام المترتبة على اللعان:

بعد أن يتلاعن الزوجان بالكيفية السابقة يترتب على هذا اللعان أحكام شرعية وهي:

التفريق بينهما فرقة فسخ كفرقة الرضاع بغير لفظ يدل عليها ظاهرة أو باطنا فلا يحل نكاحهما بعد اللعان، لما في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق بين المتلاعنين، ثم قال: "لا سبيل لك عليها".

وروى أبو داود في سننه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا".

__________

1 الآيات 6-9 من سورة النور.

(1/276)

حتى لو أكذب نفسه بعد ذلك، فلا يفيد ذلك عود النكاح ولا رفع تأبيد الحرمة؛ لأنهما حق له وقد بطلا فلا يتمكن من عودهما.

بخلاف الحد ولحوق النسب فإنهما يعودان لأنهما حق عليه.

وأما حدها، فهل يسقط بإكذابه نفسه؟ نعم يسقط.

2- سقوط الحد عنه:

أي حذ القذف إن كانت محصنة، وسقوط التعزير عنه إن لم تكن محصنة.

3- وجوب حد زناها مسلمة أم غير مسلمة، إن لم تلاعن لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} .

4- نفي نسب الولد باللعان.

لما في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- فرق بين المتلاعنين وألحق الولد بالمرأة بشرط أن يمكن كونه منه فإن تعذر كون الولد منه كأن طلقها في مجلس العقد، أو نكح امرأة بالمشرق وهو بالمغرب أو كان الزوج صغيرا أو مجبوبا لم يلحقه الولد لاستحالة كونه منه، ومن ثم فلا حاجة إلى انتقائه إلى لعانه.

ونفي نسب الولد على الفور إلا لعذر كأن بلغه ليلا فأخر حتى يصبح أو كان مريضا أو محبوسا لم يتمكن من إعلام القاضي بذلك ولم يجده فأخر فلا يبطل حقه في نفي الولد، وإن تراخى في نفيه بدون عذر لحقه الولد.

وله نفي الحمل، والانتظار حتى تضعه ليتحقق كونه ولدا أو علة مرضية.

ولا يصح نفي أحد التوءمين سواء ولدا معا أم متعاقبين وبينهما أقل من ستة أشهر أقل مدة الحمل؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة بأن يجتمع في رحم واحد ولدان من ماء رجلين؛ لان الرحم إذا اشتمل على المني انسد فمه فلا يتأتى منه قبول مني آخر، ومجيء الولدين إنما هو من كثرة مادة الزرع، فإن نفي أحدهما واستحلق الآخر أو سكت عن نفيه مع إمكانه لحقاه ولو نفاهما باللعان ثم استحلق أحدهما أو

(1/277)

نفي أولهما باللعان، ثم ولدت الثاني فسكت عن نفيه، أو مات قبل أن تلده لحقه الأول مع الثاني.

أما إذا كان بين ولادة الولدين ستة أشهر فأكثر فهما حملان فيصح نفي أحدهما.

5- تشطير الصداق قبل الدخول.

إذا تلاعنا قبل الدخول وبعد العقد الصحيح فإنه يفرق بينهما فرقة أبدية وللزوجة المتلاعنة نصف صداقها إن كان قد سمي لها مهرًا عند العقد عليها وإلا فلها المتعة.

6- لا يلحقها طلاق في عدتها لأن حكمها حكم المطلقة البائن.

7- يحل له نكاح من يحرم جمعه معها كأختها وعمتها.

وغير ذلك من الأحكام المترتبة على البينونة وإن لم تنقض عدتها.

ولا تتوقف هذه الأحكام سالفة الذكر على قضاء القاضي ولا على لعانها بل تحصل بمجرد لعانه.

دور القاضي في اللعان:

للقاضي في اللعان دور مهم يتجلى فيما يأتي:

1- وعظه للمتلاعنين قبل اللعان.

لما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لهلال بن أمية: "اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة" ويقرأ عليهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1.

ويقول لهما: ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمتلاعنين: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب فهل منكما من تائب".

2- لا يحكم باللعان إلا بعد تحققه من ثبوت الزوجية بينهما.

3- المبالغة في تخويفه لهما وتحذيرهما.

4- يأمر رجلا بأن يضع يده على فم الرجل لينزجر، وتضع امرأة يدها على فم الزوجة إذا بلغت كلمة الغضب فإن أبيا وإلا مضى ولقنهما الخامسة.

__________

1 من الآية 77 من سورة آل عمران.

(1/278)

مندوبات اللعان:

يندب عند التلاعن الأمور التالية:

أن يتلاعن الزوجان قائمين، ليراهما الناس ويشتهر أمرهما فيقوم الرجل عند لعانه والمرأة جالسة، ثم تقوم عند لعانها ويقعد الرجل.

تغليظ اللعان زمانا ومكانا.

فأما تغليظه زمانا فإنه يكون بعد الصلاة لما فيه من الردع والرهبة، أو بعد صلاة العصر؛ لأن اليمين الفاجرة بعده عذابها أليم، حيث توعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أقواما بها وعد منهم رجلا حلف يمينا كاذبة بعد العصر يقتطع بها مال امرئ مسلم.

وأما تغليظه مكانا فإنه يكون في المسجد عند المنبر إن كان المتلاعنان مسلمين؛ لأنه أشرف الأماكن ولأن فيه تأثيرا في الزجر عن اليمين الفاجرة.

وتلاعن الحائض والنفساء والمتحيرة المسلمة عند باب المسجد الجامع، ويلاعن النصراني في كنيسته واليهودي في بيعته لأنهما معابدهم كالمساجد عندنا.

هل اللعان أيمان أم شهادات؟

اللعان أيمان مؤكدة بالشهادة، ويستدل على ذلك بثلاثة أدلة:

1- قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 1 ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فسمى الشهادة يمينا.

2- قال تعالى: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} .

ووجه الدلالة: هو أن الله تعالى قرن لفظ الجلالة "الله" بالشهادة فدل ذلك على أنه أراد بها اليمن وشهادة الإنسان لا تقبل بخلاف يمينه.

3- روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "لولا الأيمان لكان لي ولهما شأن" ولأنه لا بد في اللعان من ذكر اسم الله -عز وجل- وذكر جواب القسم، ولو كان اللعان شهادات لما احتاج لذلك.

__________

1 من الآية 1 من سورة المنافقون.

(1/279)

باب الفرائض والمواريث:

التعريف بالفرائض:

أولا: تعريف الفرائض لغة

الفرائض لغة: جمع فؤيضة بمعنى مفروضة.

يقال: فرضت الشيء أفرضه فرضا، وفرَّضته -بتشديد الراء- للتكثير.

والاسم فريضة وفرائض الله. حدوده التي أمر بها ونهى عنها.

ثانيا: تعريف علم الفرائض في الاصطلاح

عرف الشافعية علم الفرائض بأنه: نصيب مقدر شرعا للوارث.

مصادر أحكام الميراث:

إن مصادر أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية ثلاثة لا غير هي: كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- واجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم.

الحث على تعلم الفرائض.

الآثار التي وردت بهذا الصدد كثيرة منها:

1- ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فضل؛ آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة".

2- روى الإمام أحمد والترمذي، والحاكم، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني أمرؤ مقبوض، وإن العلم يُقبض، وتظهر الفتنُ، حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما".

3- روي كذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من علم فريضة كمن أعتق عشر رقاب، ومن قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة".

موضوعه: التركات، وهي تراث الميت، أي ما يتركه لورثته من مال موروث.

(1/281)

ثمرته: إيصال الحقوق إلى ذويها من الورثة.

حكم دراسته: فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين.

الميراث عند العرب في الجاهلية:

كان العرب في الجاهلية لا يورثون البنات، ولا الزوجات، ولا الأمهات، ولا غيرهم من النساء، وإنما يرث الميت الأخ الأكبر، أو ابن العم، أو ابنه إذا كان بالغا، لأن سبب الإرث عندهم القدرة على حمل السيف، وحماية العشيرة والذود عن القبيلة، ومقاتلة العدو، ولهذا كانوا يقصرون الميراث على الذكور الكبار.

كما كانوا يورثون بسبب الحلف، والتبني، فقد كان الرجل في الجاهلية يقول لصاحبه، دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فإذا تم هذا وأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال صاحبه الميت، كما كان الرجل منهم يتبنى ابن غيره، وإذا مات مدعي البنوة ورثه الابن المتبنى.

ولما أعلنت الدعوة الإسلامية تركهم الله برهة من الزمن على نظامهم في التوريث، ثم شرع بعد ذلك نظاما مؤقتا، وجعل سببه الهجرة والمؤاخاة، فقد كان المهاجر يرث أخاه المهاجر على أن يكون كل منهما مرتبطا بأخيه برباط الأخوة والإخلاص.

كما كان الرسول يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، ويرث كل منهما الآخر وذلك ما كان يرمي إليه الإسلام من تكوين الأمة الإسلامية الجديدة القوية، ويربط بين المهاجرين والأنصار برباط قوي متعين.

وبعد ذلك نزل قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} 1.

__________

1 الآيتان 4، 5 من سورة الأحزاب.

(1/282)

فأبطل هذا النص التبني والإرث به، كما نزل قول الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1.

فبطل بذلك التوارث بالهجرة والمؤاخاة.

ولما انتشر الإسلام في البلاد واتسعت رقعة الدولة الإسلامية اقتضت حكمة الله قطعا للنزاع بين الأسر، ومنعا للأذى والتقاتل، ودرءا لحقد الوارثين وأذاهم تولي العليم الحكيم قسمة تركة كل مالك بين ورثته على قواعد المحبة والعشرة والنصرة والعطف، فتراه خصص الميراث بطائفة معينة من الأقارب وهم الذين لهم من حب المتوفى أكبر نصيب كالأبناء، والذين عاشروه وخالطوه أطول زمن كالزوجات، والذين يعتمد عليهم في حياته للدفاع عنه إذا اضطر إلى ذلك، كالإخوة، والأعمام، والذين بينه وبينهم تعاطف، وتناصر وتراحم، كالأخوات، العمات، وبذلك هدم قواعد الجاهلية من قصر الاستحقاق على الذكور الكبار.

إن الإسلام أزال الظلم الذي كان لاحقا بالمرأة في العصر الجاهلي، وأعلى من قدرها، وجعل لها حقا في الميراث بل أكد هذا الحق، وجعله كأنه أصل في التشريع، وقاعدة مسلمة في الميراث، يدل على ذلك قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2.

وجعل نصيبها في الميراث على النصف من الرجل، لملائمة وظيفة كل منهما في الحياة؛ لأن الرجل خلق للكفاح، والسعي ورعاية الأسرة، وتقوم المرأة بتربية الأولاد، ورعايتهم، مع عدم تكليفها بالإنفاق على نفسها، بل نفقتها على زوجها ولو كانت غنية، فإن لم يكن لها زوج فعلى أبيها، أو أوليائها، فهي في جميع أحوالها تستحق المعيشة تقديرًا وتعظيما لقيمتها ورسالتها في الجماعة الإنسانية.

__________

1 الآية الأخيرة من سورة الأنفال.

2 الآية 11 من سورة النساء.

(1/283)

والإسلام قد سوى بين الرجل والمرأة في بعض الحالات التي اقتضت الحكمة ذلك، كما في أولاد الأم، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 1.

فقد سوى الشارع بين الذكر والأنثى، كما سوى بين الأب والأم إذا كان المتوفى ولد ذكر لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} 2.

ولقد روي أنه لما توفي أوس بن ثابت الأنصاري، وترك امرأة وأربع بنات له منها، قام رجلان، هما ابنا عم الميت ووصياه، يقال لهما قتادة وعرفجة فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا، فذكرت امرأته ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاهما، فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلأ، ولا ينكأ عدوا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن" فأنزل الله آية {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} 3.

فأرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى قتادة وعرفجة ألا يصرفا من مال "أوس" شيئا، فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا، فأنزل الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} الآية4.

فأعطى المرأة الثمن، والبنات الثلثين، وما بقي لابني العم.

__________

1 الآية 12 من سورة النساء.

2 الآية 11 من سورة النساء.

3 الآية 7 من سورة النساء.

4 من الآية 11 من سورة النساء.

(1/284)

ويفهم من بعض الروايات أن من الجاهليات من ورثن أزواجهن وذوي قرباهن وأن عادة حرمان النساء من التوريث لم تكن عامة عند كل القبائل في الجاهلية.

فإذا تخطى بعض العباد هذه القسمة العادلة، وقسم التركة طبقا لهواه فما ذلك إلا در لما شرعه الله، وانحراف عن جادة الشريعة الإسلامية وزيغ عن الصراط المستقيم، وصدق الله حيث قال: {آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1.

{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 2. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3.

ثانيا: نظام الإرث في صدر الإسلام

كان الإرث في بداية الإسلام بالحلف والنصرة، ثم نسخ فتوارثوا بالإسلام والهجرة وثم نسخ فكانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين ثم نسخ بآيتي المواريث فلما نزلتا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى كل ذي حقه حقه ألا لا وصية لوارث".

الحكمة من جعل نصيب الرجل ضعف نصيب المرأة:

قد يتساءل البعض، لماذا أعطيت المرأة نصف نصيب الرجل مع أنها أضعف منه، وأحوج للمال؟

والجواب: إن الشريعة الإسلامية، قد فرقت بينهما في الإرث لحكم كثيرة من أهمها:

1- أن المرأة مكفية المؤمنة والحاجة، فنفقتها واجبة على ابنها أو أبينها أو أخيها أو غيرهم من الأقارب.

__________

1 من الآية 11 من سورة النساء.

2 من الآية 5 من سورة الكهف.

3 من الآية 14 من سورة النساء.

(1/285)

6- أنها لا تكلف بالإنفاق على أحد بخلاف الرجل فإنه مكلف بالإنفاق على الأهل والأقارب وغيرهم ممن تجب عليه نفقته.

3- الرجل هو المكلف شرعا عند الارتباط بالمرأة بدفع المهر وإعداد المسكن المناسب، لها والنفقة عليها وعلى أولادهما.

ولنضرب مثالا على ذلك:

نفترض أن رجلا توفي وترك ولدا وبنتا وترك لهما مبلغ ستة آلاف جنيها فنصيب الولد منها شرعا أربعة آلاف نصيب البنت ألفين فقط.

وإذا كانا على أبواب الزواج وأراد الشاب أن يتزوج فإنه يدفع لزوجته مهرا ولنفترض أن مهرها أربعة آلاف جنيه فقط فقد دفع كل ما ورثه من أبيه مهرا لزوجته فلم يبق معه شيء ثم بعد ذلك يكلف بعد الزواج بكل النفقات، نفقات السكنى والطعام والشراب أما البنت فإنها إذا تقدم للزواج منها شابا يناسبها فإنه سيدفع لها مهرا ولنفترض أنه أربعة آلاف جنيه فتكون قد ورثت من أبيها ألفين وأخذت مهرا من زوجها أربعة آلاف فإنه يكون مجموع ما لديها ستة آلاف جنيه ثم هي لا تكلف بنفاق شيء من مالها مهما كانت غنية؛ لأن نفقتها أصبحت على زوجها ما دامت في عصمته، فما لها زاد وماله نقصه وما ورثته من أبيها بقي ونما، وما ورثه من أبيه ذهب وضاع.

فمن إذن أسعد حالا، وأكثر مالا الرجل أم المرأة؟

ومن الذي تنعم وترفه أكثر الذكر أم الأنثى؟

هذا هو منطق العقل والدين في ميراث البنات والبنين.

(1/286)

التركة:

التركة في اللغة: مأخذوة من الترك بمعنى الإبقاء.

وفي الاصطلاح: كل ما يتركه الميت من أموال وحقوق سواء تعلق حق الغير بعين من أعيانها أم كانت خالية من ذلك.

الحقوق المتعلقة بها:

يتعلق بالتركة حقوق:

1- الحقوق المتعلقة بعين التركية كالمبيع بثمن في الذمة، والمرهون.

2- تجهيز الميت ودفنه.

3- الديون المطلقة المتعلقة بذمة الميت.

4- الوصية في حدود الثلث.

5- تقسيم المتبقي بعد ذلك على المستحقين له من الورثة.

فإن قيل: لم قدمت الوصية في الآية على الدين، مع أنه مقدم عليها في الشريعة، اعتمادا على قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟

أجيب بأنه لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة، بخلاف الدين، فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت في الذكر على الدين، حثًّا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها كالدين، فأو للتسوية بينهما في الوجوب.

أركان الإرث:

تعريف الركن:

لغة: هو جانب الشيء الأقوى.

واصطلاحا: هو عبارة عن جزء الماهية، أي ما لا توجد الحقيقة إلا به.

(1/287)

تعريف الإرث:

لغة: يطلق على معان منها: البقاء، والأصل، والبقية، كما في خبر مسلم: "اثبتوا على مشاعركم، فإنكم على إرث أبيكم إبراهيم"، أي أصله وبقية منه.

وشرعا: هو حق قابل للتجزؤ، ثبت لمستحقه بعد موت من كان له ذلك، لقرابة بينهما، أو نحوها.

أركان الإرث:

أركان الإرث ثلاثة، فإن فقد واحد منها لم يتحقق الإرث، وهي:

1- المورث، وهو الميت، أو المحلق به كالمفقود.

2- الوارث، وهو الحي بعد المورث، أو الملحق بالأحياء كالجنين.

3- الحق الموروث.

شروط الإرث:

تعريف الشرط:

لغة: هو العلامة، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي علاماتها.

واصطلاحا: هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.

عددها:

شروط الإرث ثلاثة، ولا يتم الإرث بتمامها، وهي:

1- تحقق موت المورث، أو إلحاقه بالأموات حكمًا: كالمفقود إذا انقضت فيه مدة الانتظار وحكم القاضي بموته، أو إلحاقه بالأموات تقديرا، وذلك كالجنين الذي ينفصل عن أمه ميتا بسبب جناية عليها توجب الغرة.

(1/288)

والغرة هي: عبد أو أمة تقتر بخمس من الإبل يأخذها ورثة الجنين، سواء كانت هذه الجناية عمدا أم خطأ، وسواء ألقت الحامل بسببها الجنين في الحال، أم بقيت متأملة حتى سقط، ذكرا كان أم أنثى.

2- تحقق حياة الوارث بعد موت المورث ولو لحظة: ليدخل الحمل إذا انفصل حياة حياة مستقرة.

3- العلم بالجهة المقتضية للإرث: من زوجية، أو ولاء، أو قرابة، وتعين جهة القرابة من بنوة، وأبوة، وأمومة، وإخوة، وعمومة. وكذلك العلم بالدرجة التي اجتمع الميت والوارث فيها.

أسباب الإرث:

تعريف السبب:

لغة: هو ما يتوصل به إلى غيره.

واصطلاحا: هو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.

عددها: أسباب الإرث المتفق عليها ثلاثة هي: النكاح، والولاء، والنسب.

وهناك سبب رابع اختلف فيه الأئمة -رحمهم الله- وهو بيت المال، فالمالكية يرونه سببا، لخبر: "أنا وراث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه"، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يرث لنفسه، بل يصرفه للمسلمين. وكذلك الشافعية إن انتظم، وأما الأحناف والحنابلة فلا يرونه سببا، سواء كان متنظما أم غير منتظم، وقالوا بالرد، وبتوريث ذي الأرحام، لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1.

__________

1 الآية 75 من سورة الأنفال.

(1/289)

السبب الأول: النكاح

لغة: هو الضم

واصطلاحا: هو عقد الزوجية الصحيح، وإن لم يحصل وطء ولا خلوة.

ويورث به من الجانبين، لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} 1.

وسيأتي تفصيل القول إن شاء الله تعالى في المطلقة.

السبب الثاني: الولاء

لغة: يطلق على النصرة، والقرابة، والملك.

واصطلاحا: هو عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق.

ويورث به من جانب واحد فقط، فالعتيق يورث بالولاء ولا يرث.

السبب الثالث: النسب

لغة: وهو القرابة

واصطلاحا: هو الاتصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة.

وهو على ثلاثة أقسام:

1- الأصول: وهم الآباء، وآباؤهم، وأمهاتهم، وإن علوا، والأمهات، وأمهاتهم، وإن علون، ما عدا الأب الذي يُدلي إلى الميت بأنثى.

2- الفروع: وهم الأولاد، وأولاد البنين وإن نزلوا.

3- الحواشي: وهم الإخوة، وبنوهم، والأعمام، وبنوهم.

موانع الإرث:

تعريف المانع:

لغة: هو الحاجز بين الشيئين

واصطلاحا: هو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.

__________

1 الآية 12 من سورة النساء.

(1/290)

عددها:

موانع الإرث ثلاثة: وهي: الرق، والقتل، واختلاف الدين.

1- الرق:

لغة: هو العبودية

واصطلاحا: هو عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب الكفر، فلا يرث الرقيق بجميع أنواعه، ولا يورث؛ لأن العبد وما ملكت يداه لسيده ومولاه، وأما المبعض -هو الذي بعضه حر وبعضه مملوك- فإنه يرث ويورث، ويحجب، بمقدار ما فيه من الحرية، على مذهب الإمام أحمد، ولا يرث ولا يورث عند الأئمة الثلاثة.

2- القتل المانع من الإرث:

هو كل قتل أوجب القصاص، كالعمد المحض والعدوان، أو أوجب الدية، كقتل الوالد لوده عمدًا وعدوانًا، فإنه يُضمن بالدية، ولا كفارة لأنه عمد، ولا قصاص فيه، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل الوالد بولده" أو أوجب كفارة، كما رمى مسلما بين الصفين يظنه كافرًا.

وأما القتل الذي لا يلزم منه واحد من الثلاثة فلا يمنع من الإرث، وذلك كالقتل قصاصا أو حدًّا، أو دفاعًا عن نفسه.

3- اختلاف الدين:

المراد الاختلاف بالاسلام والكفر، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"، إلا الإرث بالولاء، فعند الإمام أحمد لا يمنعه به، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته"، ولما روي عن علي، وعمر بن عبد العزيز، من توريث الكافر من المسلم به، وكذلك إذا أسلم الكافر قبل قسمة تركة مورثه المسلم، ورث عند الإمام أحمد؛ ترغيبا له في الإسلام.

(1/291)

وكذلك يكون اختلاف الدين بين أنواع الكفر وملله، كالمجوسية واليهودية، والنصرانية، وهذا هو الصحيح عند أحمد، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 1، فجلعهم مللا، لا ملة واحدة.

حكم المرتد:

المرتد لغة: هو الراجع كقوله تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} 2.

وشرعًا: هو من كفر بعد إسلامه.

وأما حكمه: فهو لا يرث، ولا يورث، وماله فيء لبيت مال المسلمين؛ لأنه ليس بمسلم حتى يرثه المسلمون، ولا يقر على ارتداده حتى يرثه أهل الملة التي ارتد إليها.

توريث المطلقة:

1- الطلاق الرجعي:

يثبت التوارث بين الزوجين، سواء كان الطلاق في حالة الصحة أم المرض ما دامت الزوجة لم تخرج من العدة.

2- الطلاق البائن:

إذا كان في حال الصحة وطلقت برضاها فلا توارث، وإن كان في المرض المخوف ولم يتهم بقصد حرمانها من الميراث، كما إذا سألته طلاقها ثلاثا فأجابها -فإنها لا ترث كذلك. فإن اتهم بقصد حرمانها- وذلك كما إذا سألته أن يطلقها رجعيا فطلقها بائنا ورثته ولو انقضت عدتها، ما لم تتزوج أو ترتد، كالقاتل يعامل على نقيض مقصوده.

__________

1 الآية 17 من سورة الحج.

2 الآية 21 من سورة المائدة.

(1/292)

والمرض المخوف، كذات الجنب والسرطان، والنزيف أوالزعاف الدائم، فإن لم يكن المرض مخوفا، وذلك كوجع ضرس، وصداع، وحمى يسيرة، فلا ترث؛ لانتفاء التهمة.

الوارثون من الرجال والنساء:

أولًا: الوارثون من الرجال: الوارثون من الرجال عشرة على الإجمال، خمسة عشر على التفصيل، وهم:

1- الابن.

2- ابن الابن إن سفل بمحض الذكور.

3- الأب.

4- الجد وإن علا بمحض الذكور أيضا.

5- الأخ الشقيق.

6- الأخ لأب.

7- الأخ لأم.

8- ابن الأخ الشقيق، وإن نزل بمحض الذكور.

9- ابن الأخ لأب، وإن نزل بمحض الذكور.

10- العم الشقيق.

11- العم لأب.

12- ابن العم الشقيق وإن نزل بمحض الذكور.

13- ابن العم لأب، وإن نزل بمحض الذكور.

14- الزوج.

15- المعتق وعصبته والمتعصبون بأنفسهم.

وما عدا هؤلاء من الذكور فمن ذوي الأرحام:

ثانيا: الوارثات من النساء: الوارثات من النساء سبع على الإجمال، وإحدى عشرة على التفصيل: وهن:

1- البنت. 2- بنت الابن وإن سفل أبوها بمحض الذكور.

3- الأم.

4- الجدة من قبلها وإن علت بمحض الإناث.

5- الجدة التي هي أم الأب وإن علت بمحض الإناث.

6- الجدة التي هي أم أب الأب.

7- الأخت الشقيقة.

8- الأخت لأب.

9- الأخت لأم.

10- الزوجة.

11- المعتقة.

(1/293)

أنواع الإرث: الإرث نوعان: فرض، وتعصيب؛ لأن مرجع إرث الرحم لواحد منهما.

فأما الوارث فعلى ثلاثة أنواع: ذو فرض، عاصب، وذو رحم.

الإرث بالفرض:

الفروض المقدرة:

منها ستة ثابتة في كتاب الله، وهي النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

ومنها ما ثبت بالاجتهاد، وهو ثلث الباقي للأم في الغراوين، وللجد في بعض أحواله مع الإخوة، كما سيأتي إن شاء الله.

أولًا: أصحاب النصف

الذين يرثون النصف خمسة، وهم:

1- الزوج. بشرط واحد: انعدام الفرع الوارث، وهم أولاد الميت، وأولاد بنيه وإن نزلوا؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} 1.

2- البنت: بشرطين:

1- عدم المعصب، وهو أخوها.

2- عدم المشاركة، وهي أختها.

لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} 2.

3- بنت الابن: بثلاثة شروط:

1- عدم المعصب، وهو أخوها أو ابن عمها المساوي لها في الدرجة بشرط أن تكون في حاجة إليه.

2- عدم المشاركة، وهي أختها أو بنت عمها المساوية لها في الدرجة.

__________

1 الآية 12 من سورة النساء.

2 الآية 11 من سورة النساء.

(1/294)

3- عدم الفرع الوارث الأعلى منها، كولد الصلب ذكرًا كان أثنى، أو ولد ابن أعلى منها كذلك.

4- الأخت الشقيقة: بأربعة شروط:

1- عدم المشاركة وهي أختها.

2- عدم المعصب.

3- عدم الفرع الوارث.

4- عدم الأصل الوارث من الذكور.

5- الأخت لأب: بخمسة شروط:

1- عدم الأشقاء والشقائق.

والأربعة المذكورة في الأخت الشقيقة، لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 1.

ولا يمكن اجتماع ذوي النصف في مسألة واحدة، إلا الزوج مع الأخت الشقيق، أو مع الأخت لأب.

وإليكن بعض الأمثلة التطبيقية على ذلك:

1- توفيت امرأة عن زوج، وأخت شقيقة فللزوج النصف فرضا لعدم وجود الفرع الوارث وللأخت الشقيقة النصف فرضا لكونها واحدة وليس لها معصب وعدم وجود الفرع الوارث ولا الأصل الوارث المذكر.

2- توفي رجل عن بنت، وأب، فللبنت النصف فرضا لكونها واحدة وليس معها معصب وللأب السدس زائد الباقي تعصيبا لوجود البنت.

(1/295)

ثانيا: أصحاب الربع

أصحاب الربع اثنان فقط، وهما:

1- الزوج: بشرط وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} 1.

2- الزوجة أو الزوجات: بشرط انعدام الفرع الوارث، لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} 2.

مثال ذلك:

1- توفي رجل عن زوجة، وبنت، وأب فللزوجة الثمن فرضا لوجود الفرع الوارث، وللبنت النصف فرضا لكونها واحدة وليس معها معصب، وللأب السدس زائد الباقي تعصيبا لوجود البنت.

2- توفي رجل عن زوجة، وأب: فللزوجة ربع الربع فرضا لعدم وجود الفرع الوارث، وللأب الباقي تعصيبا.

3- توفيت امرأة عن زوج وأخت لأب، فللزوج النصف فرضا لعدم وجود الفرع الوارث، وللأخت لأب النصف لكونها واحدة وليس لها معصب ولا يوجد فرع وارث مؤنث ولا أخت شقيقة ولا أصل وراث مذكر.

4- توفيت امرأة عن زوج وابن: فللزوج الربع لوجود الفرع الوارث وللابن الباقي تعصيبا.

__________

1 من الآية 12 من سورة النساء.

2 من الآية 12 من سورة النساء.

(1/296)

ثالثا: أصحاب الثمن

وارث واحد فقط، وهي الزوجة أو الزوجات عند وجود الفرع والوارث، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} 1.

مثل ذلك:

توفي رجل عن زوجة، وابن: فللزوجة الثمن لوجود الفرع الوارث وللابن الباقي تعصيبا.

رابعًا: أصحاب الثلثين

الثلثان فرض أربعة من الورثة، كلهن إناث، وهن:

1- البنات: بشرطين:

1- أن يكن اثنتين فأكثر.

2- عدم المعصب، لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} 2.

2- بنات الابن: بثلاثة شروط:

1- أن يكن اثنتين فأكثر.

2- عدم المعصب.

3- عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منهن ويقصد به البنت الصلبية للمتوفى.

3- الأخوات الشقائق: بأربعة شروط:

1- أن يكن اثنتين فأكثر.

2- عدم الفرع الوارث وابن نزل.

3- عدم الأصل الوارث من الذكور.

4- عدم المعصب.

__________

1- من الآية 12 من سورة النساء.

2- من الآية 11 من سورة النساء.

(1/297)

4- الأخوات لأب: بخمسة شروط:

هي الأربعة المذكورة في الشقائق، الخامس عدم الأشقاء والشقائق، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} 1.

مثال ذلك:

توفي رجل عن زوجة، وثلاث بنات، وأب.

فللزوجة الثمن لوجود الفرع الوارث، وللثلاث بنات الثلثين لكونهن أكثر من واحدة وليس معهم معصب وللأب السدس زائد الباقي تعصيبا لوجود البنات ولو افترضنا أن مكان البنات بنات بنات ابن فلا يتغير شيء في توزيع الأنصباء كذلك لو كان الوارث من الإناث الأخوات الشقيقات أو لأب.

خامسا: أصحاب الثلث

الثلث فرض اثنين من الورثة فقط: هما:

1- الأم: بثلاثة شروط:

1- عدم الفرع الوارث.

2- عدم الجمع من الإخوة، والمقصود بالجمع هنا اثنان فأكثر، سواء كانوا ذكورًا أم إناثًا، وارثين أم محجوبين بشخص، وسواء كانوا أشقاء، أم لأب، أم لأم، أم مختلفين، وأما المحجوب منهم بالوصف فوجوده كالعدم.

3- أن لا تكون المسألة إحدى الغراوين، لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} 2.

2- الإخوة لأم: بثلاث شروط:

1- أن يكونوا اثنين فصاعدا.

2- عدم الفرع الوارث.

3- عدم الأصل الوارث من الذكور، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 3.

__________

1 من الآية 176 من سورة النساء.

2 من الآية 11 من سورة النساء.

3 من الآية 12 من سورة النساء.

(1/298)

الغروان:

الأولى:

أركانها "زوج" وأم، وأب، أصلها من ستة، للزوج النصف "ثلاثة"، وللأم ثلث الباقي "واحد"، وهو في الواقع سدس، وإنما سمي ثلثا تأدبا مع القرآن الكريم، والباقي للأب "اثنان".

الثانية:

أركانها زوجة، وأم، وأب، وأصلها من أربعة؛ للزوجة الربع "واحد"، وهو في الواقع ربع، وإنما سمي ثلثا تأدبا مع القرآن الكريم، والباقي للأب "اثنان".

ووجه توريث الأم بهذه الصفة، أن الأصل أنه إذا اجتمع ذكر وأنثى من درجة واحدة، أن يكون للذكر ضعف ما للأنثى، فلو جعل لها الثلث مع الزوج لفضلت على الأب، ولو جعل لها مع الزوجة لم يفضل عليها بالتضعيف.

سبب تسميتها:

سميتا بالغراوين لاشتهارهما كالكوكب الأغر، ويسميان بالعمريتين؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أول من قضى فيهما للأم بثلث الباقي، ووافقه جمهور الصحابة ومن بعدهم، ومنهم الأئمة الأربعة.

ويسميان أيضا بالغريبتين، لغرابتهما في مسائل الفرائض.

وبالغريمتين؛ لأن كلا من الزوجين كالغريم "صاحب الدين" والأبوين كالورثة يأخذان ما تبقى بحسب ميراثهما.

(1/299)

سادسا: أصحاب السدس

السدس فرض سبعة من الورثة هم:

1- الأب: بشرط، وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} 1.

2- الأم: بشرط: وجود الفرع الوارث، للآية السابقة أو جمع من الإخوة، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} 2.

3- الجد بشرطين:

1- عدم الأب.

2- عدم الفرع الوارث، حملا له على الأب.

4- بنت الابن فأكثر: بشرطين:

1- عدم المعصب.

2- عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منها، إلا صاحبة النصف، فإنها لا ترث السدس إلا معها، لما روي أن ابن مسعود -رضي الله عنها- سئل عن بنت، وبنت ابن، أخت، فقال: لأقضين فيها بقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، ما بقي فللأخت.

5- الأخت لأب فأكثر: بشرطين: إجماعها، قياسا على بنت الابن.

1- أن تكون مع أخت واحدة شقيقة وارثة بالفرض.

2- عدم المعصب.

6- الجدة فأكثر: بشرط: عدم الأم، أو جدة أقرب منها.

7- ولد الأم: ذكرًا كان أم أنثى، إجماعا، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} 3.

__________

1 الآية 11 من سورة النساء.

2 الأية 11 من سورة النساء.

3 من الآية 12 من سورة النساء.

(1/300)

فقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في أولاد الأم دون غيرهم، وإرثه السدس بثلاثة شروط:

1- عدم الفرع الوارث مطلقا.

2- عدم الأصل الوارث من الذكور.

3- أن يكون منفردًا.

ما يخالف فيه الإخوة لأم غيرهم من الورثة.

يخالفونهم في خمسة أشياء.

1- الذكر منهم لا يفضل على أنثاهم في الإرث، اجتماعا ولا انفرادًا.

2- أنهم يرثون مع من أدلوا به، والأصل المطرد أن من أدلى بوارث لا يرث مع وجوده.

3- أن ذكرهم أدلى بأنثى ويرث.

4- أنهم يحجبون من أدلوا به، وهي الأم بالنقص عند اجتماعهم.

5- أن ذكرهم لا يعصب أنثاهم.

وإليكن ما يستحقه كل صاحب فرض على حدة تفصلا:

1- الزوج:

للزوج حالتان:

1- النصف من زوجته إذا لم يكن لها فرع وارث وهو الابن وإن نزل البنت، وبنت الابن وإن نزل أبوها سواء الفرع الوارث منه أم من غيره ومن عدا هؤلاء لا يعتبر فرعا وارثا وكذلك الفرع المحروم كالابن القاتل لا يحجب الزوج من النصف إلى الربع.

2- الربع، وذلك عند وجود الفرع الوارث منه أو من زوج غيره والدليل على هذا قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1.

__________

1 من الآية 12 من سورة النساء.

(1/301)

2- الزوجة:

للزوجة أو الزوجات حالتان:

1- الربع من زوجها إذا لم يكن له فرع وارث سواء أكان منها أم من غيرها.

2- الثمن عند وجود الفرع الوارث سواء أكان منها أم من غيرها وإذا تعددن قسم نصيبهن بينهن بالتساوي إذا لو لم يشتركن فيه لأدى ذلك إلى الإجحاف ببقية الورثة.

والدليل على هذا قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1.

هذا والزوجان لا يحجبان حجب حرمان مطلقا، ولكنهما يحجاب حجب نقصان بالفرع الوارث بشرط ألا يكون ممنوعا من الإرث لوجود مانع من موانعه.

شروط توارث الزوجين:

1- أن يكون عقد الزواج صحيحا سواء أدخل الزوج بزوجته بعد العقد أم مات عنها، أم ماتت هي قبل الدخول، فأيهما مات بعد العقد الصحيح ورثه الآخر، ولو كان الزواج غير صحيح ومات أحدهما لا يرثه الآخر ولو كان معه دخول بالزوجة.

2- قيام الزوجية حقيقة أو حكما، ويتحقق الزواج الحكمي في حالتين:

1- إذا توفي أحدهما والزوجة في عدتها في طلاق رجعي؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل قيد الزوجية، ولا حل الاستمتاع بين الزوجين.

2- إذا طلق الزوج زوجته طلاقا بائنا وهو في مرض الموت ومات والزوجة لم تنقض عدتها بعد، كان لها نصيبها من الميراث من تركته؛ لأنه يعتبر فارا من توريثها فيرد عليه سوء قصده وترث منه.

__________

1 الآية 12 من سورة النساء.

(1/302)

وإذا ماتت الزوجة وهي في العدة من هذا الطلاق البائن فلا يرثها وكذلك تعتبر الزوجة فارة من توريث زوجها فيما تتركه أن وقعت الفرقة بينهما بسبب منها، كما إذا ارتدت عن الإسلام، أو مكنت أحد -من فروعها أو أصوله- من نفسها، أو أتت معه ما يوجب حرمة المصاهرة.

ففي هذه الحالات ونحوها يرثها الزوج إن ماتت وهي في العدة بعد الفرقة التي قعت بينهما. هذا، وقد طلق سيدنا عبد الرحمن بن عوف زوجته "تماضر" طلاقا مكملا للثلاث في مرضه الذي مات فيه، فحكم بعد موته سيدنا عثمان بن عفان بميراثها منه، وقال ما اتهمته، ولكني أردت السنة، ولهذا قال ابن عوف: ما طلقتها ضرارا ولا فرارا، بمعنى أنه لا ينكر ميراثها منه.

وروي أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن امرأة "الفار" ترث ما دامت في العدة.

3- الأب: للأب ثلاث حالات:

1- يرث السدس بطريق الفرض إذا كان معه فرع وارث مذكر، كابن وابن ابن وإن نزل، سواء أوجد معه فرع وارث من الإناث، أم لا، كابن، وبنت.

2- يرث بطريق الفرض والتعصيب إذا كان معه فرع وارث مؤنث، فيأخذ الأب السدس بطريق الفرض زائد ما تبقى بعد أصحاب الفروض كما إذا وجد للمتوفى بنت أو بنت ابن وإن نزل.

3- يرث بطريق التعصيب إذا لم يكن للميت فرع وارث مطلقا، مذكرا أو مؤنثا، فيأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض، أو يأخذ كل التركة إذا كان منفردًا، كما إذا توفي شخص وترك الأب والأم، أو ترك الأب فقط.

والدليل على هذا قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} 1 والأب ولا يحجب من الإرث

__________

1 من الآية 11 من سورة النساء.

(1/303)

في آية حال، فمتى وجد كان له في تركه ابنه نصيب، إما السدس بالفرض فقط. وإما السدس بالفرض والباقي بالتعصيب، وإما الباقي بالتعصيب فقط.

4- الأم: للأم ثلاث حالات:

1- ترث الأم السدس إذا كان هناك فرع وارث مذكر كان أو مؤنثا، أو اثنان فأكثر من الإخوة والأخوات مطلقا سواء أكانا من جهة الأم والأب، وأم من جهة أحدهما.

لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} 1 وسواء أكانوا ورثة أم محجوبون.

2- ترث الثلث أي ثلث التركة كلها فرضا عند عدم الفرع الوارث، وعند عدم اثنين فأكثر من الإخوة أو الأخوات، الفرع غير الوارث لا يحجبها من الثلث إلى السدس، كابن البنت وبنت البنت، وكذلك الواحد من الإخوة أو الأخوات لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} 2.

3- ترث ثلث الباقي من التركة بعد نصيب أحد الزوجين إذا اجتمعت الأم مع الأب وأحد الزوجين فقط، بشرط ألا يكون معها فرع وارث، ولا أكثر من أخ أو أخت، والأم لا تحجب حرمان على أية حال فمتى وجدت ورثت إما السدس، وإما الثلث الكل، وإما ثلث الباقي.

5- أولاد الأم:

لأولاد الأم، الأخ لأم، والأخت لأم، ثلاث حالات:

1- أن يرث الواحد منهم السدس، مذكرا كان أو مؤنثا، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} 3.

__________

1 من الآية 11 من سورة النساء.

2 من الآية 11 من سورة النساء.

3 من الآية 12 من سورة النساء.

(1/304)

2- استحقاق الثلث لأكثر من واحد، يستوي في ذلك الذكور والإناث لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 1 بدون تفضيل للذكر على الأنثى؛ لأن التفضيل هو باعتبار العضوية وهي منتفية في قرابة الأم.

3- عدم استحقاقهم شيئا من الميراث عند وجود الفرع الوارث مطلقا مذكرا كان أو مؤنثا، أو عند وجود الأصل الوارث المذكر وهو الأب والجد الصحيح، وإن علا.

أما الأصل المؤنث وهو الأم أو الجدة الصحيحة فلا يحجبهم أولاد الأم بل يحجبون الأم حجب نقصان من الثلث إلى السدس كما سبق توضيحه.

6- البنت الصلبية:

المراد بالبنت الصلبية: بنت المتوفى أو المتوفاة مباشرة، وهي ترث بالفرض، وتصير عصبة إذا وجد معها ابن للمتوفى فترث بالتعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين.

وللبنت الصلبية ثلاثة أحوال:

1- النصف إذا انفردت ولم يكن معها بنت أخرى، ولا ابن يعصبها.

2- الثلثان للاثنين فصاعدا إذا لم يكن معهن ابن يعصبهن.

3- الإرث بالتعصب إذا كان معها ابن فتأخذ نصف نصيبه، وإذا تعددت أو تعدد الأبناء فللذكر مثل حظ الأنثيين.

ودليل لذلك قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} 2.

__________

1 من الآية 12 من سورة النساء.

2 من الآية 11 من سورة النساء.

(1/305)

7- بنت الابن:

وهي كل أنثى للمتوفى عليها ولادة بواسطة أبنائه، وهي لا ترث مع وجود الابن، وتقوم مقام البنت الصلبية عند عدمها ولها خمس حالات:

1- النصف للواحدة المنفردة عن البنت الصلبية، وابن الابن.

2- الثلثان للاثنتين فأكثر المنفردات عن الصلبية، وابن الابن.

3- ترث بالتعصيب إذا كان معها ابن ابن، ويكون للذكر ضعف الأنثى.

4- ترث السدس إذا وجدت معها واحدة صلبية، وعند التعدد يقسم السدس بين بنات الابن بالتساوي، هذا إذا لم يكن معها ابن ابن يعصبها فإذا وجد فإنه يعصبها ويكون للذكر ضعف الأنثى، وإذا كانت هناك بنت أنزل من ابن ابن فإنه يحجبها.

5- سقوط بنت الابن بمعنى حجبها عن الميراث وذلك في الحالتين الآتيتين:

الحالة الأولى: إذا وجد معها بنتان صلبيتان فتأخذان الثلثين، لا شيء لبنت الابن إلا إذا كان بحذائها أو أنزل منها ابن ابن فإنه يعصبها وترث معه للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كانت بنت الابن أنزل من ابن الابن حجبها.

الحالة الثانية: تسقط بنت الابن بالابن؛ لأنه أعلى منها درجة هذا وقد جعل قانون الوصية في مصر لبنت الابن واحدة أو أكثر وصية واجبة في التركة، فتأخذ ما كان يأخذه أبوها لو كان حيا بشرط ألا يزيد على الثلث فإن زاد ردت إلى الثلث كما جعل لبنت البنت هذا الحق مع أنها من ذوي الأرحام.

8- الأخت الشقيقة:

للأخت الشقيقة ست حالات:

1- النصف للواحدة إذا انفردت عمن يساويها، وعمن يعصبها.

2- الثلثان للاثنتين فصاعدا عند عدم المعصب وعدم وجود من يحجبهن.

(1/306)

3- التعصيب بالغير إذا كان مع الأخت الشقيقة فأكثر أخ شقيق فأكثر فإن التركة أو ما بقي منها يقسم بينهم للذكر ضعف الأنثى.

4- العصيب مع الغير إذا كان مع الواحد فأكثر بنت، أو بنت ابن، أو هما معا، فللأخت الباقي بعد أن تأخذ البنت أو بنت الابن فرضها، أو يأخذان معا فرضهما، ولا شيء للأخوات إن استغرقت الفروض التركة؛ لأنهن عصبة.

5- مشاركتهن أولاد الأم في المسألة المشتركة.

6- تحجب الأخت الشقيقة بالآتي:

الابن، ابن الابن، وأن نزل، والأب دون الجد.

ودليل ذلك قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} 1.

وما روي عن رسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة" والمراد الأخوات الشقيقات أو لأب دون الأخوات لأم؛ لسقوطهن بالأولاد مطلقا.

9- الأخوات لأب:

للأخت لأب ست حالات:

1- النصف للواحدة المنفردة عن أختها وأخيها لأب، وعن الأخت الشقيقة إذا لم يوجد من يحجبها، وعن الفرع الوارث.

2- الثلثان للاثنتين فصاعدا عند عدم الأخ لأب، أو الأخوات الشقيقات أو الفرع الوارث.

__________

1 الآية 176 من سورة النساء.

(1/307)

3- السدس للواحدة أو أكثر مع الأخت الشقيقة الواحدة تكملة للثلثين فهن بالنسبة للأخت الشقيقة بنات الابن مع البنت إلا إذا كان مع الأخت لأب أو الأخوات لأب أخ لأب فإنه يعصبهن.

4- التعصيب بالغير، ولك إذا كان مع الواحدة أو الأكثر أخ لأب فتقسم التركة بينهم، أو ما يتبقى منها، للذكر ضعف الأنثى.

5- التعصيب مع الغير، وذلك مع البنت، أو بنت الابن فلها الباقي بعد أن تأخذ البنت أو بنت الابن فرضها.

6- تحجب الأخت لأب بمن يأتي:

1- بالأختين الشقيقين فأكثر، إلا إذا كان مع الأخت لأب أخ لأب فإنه يعصبها.

2- بالأخ الشقيق، وبالأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع غيرها.

3- بالابن وابن الابن وأن نزل وبالأب.

10- الجدة الصحيحة:

الجدة الصحيحة هي التي لم يتخلل نسبتها إلى المتوفى ذكر بين أنثيين وهي أم أحد الأبوين، وأم الجد الصحيح، وأم الجدة الصحيحة مثل أم الأم، وأم الأب، أم أبي الأب، وأم أم الأم، وأما الجدة غير الصحيحة مثل أم أبي أم، وأم أبي أم الأب فهي من ذوي الأرحام.

وللجدة الصحيحة حالتان:

1- أن تأخذ السدس، سواء أكانت واحدة أم أكثر، وسواء أكانت من جهة الأب، أم من جهة الأم، ويقسم السدس بين الجدات بالتساوي ولو كانت إحداهن تدلي إلى الميت بجهتين كأم أم المبيت التي هي أم أبي أبي الميت.

(1/308)

مثال الجدة التي تدلي إلى الميت بجهتين:

إذا زوجت امرأة ابن ابنها من بنت بنتها فولد بينهما ولد، فهذه المرأة تعتبر جدة صحيحة لهذا الولد من جهة الأب والأم معا، فهي ذات قرابتين.

2- تحجب الجدة بمن يأتي:

1- بالأم سواء أكانت الجدة لأب، أم لأم، أم لهما معا.

2- بالأب إذا كانت الجدة لأب، وترث معه الجدة لأم لأنها لم تنتسب به.

3- بالجد إذا أدلت به، كما لو ترك الميت أبا الأب، وأم أبي الأب، أما إذا لم تدل به فإنها ترث كما لو ترك الميت أبا أب، وأم أب.

4- بالجدة القربى إذا كانت جدة من أي جهة أقرب إلى الميت من الأخرى فإن القربى تحجب البعدى، سواء أكانت القربى وراثة أم محجوبة كأم الأم تحجب كلا من أم أم الأم، وأم أبي الأب، وأم الأب المحجوبة بالأب تحجب أم أم الأم وهكذا.

ودليل ميراث الجدة الإجماع على أساس من سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد روى قبيصة بن ذؤيب قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته عن ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر -رضي الله عنه- قال ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو لكما، وأيكما خلت به فهو لها. رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.

(1/309)

11- الجد الصحيح:

الجد الصحيح هو من لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى وهو أبو الأب وأبو أبي الأب وإن علا، وهو الذي يقوم مقام الأب في الإرث عند عدمه، ويرث الجد بالفرض والتعصب، أما الجد الذي تدخل في نسبته إلى الميت أنثى فهو الجد الفاسد، كأبي الأم، وأبي أم الأب، وهو من ذوي الأرحام.

وللجد ست حالات:

1- أن يرث السدس فرضا إذا كان للميت فرع وارث مذكر.

2- أن يرث السدس فرضا والباقي تعصيبا إذا كان للميت فرع وارث مؤنث.

3- أن يرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت فرع وارث مطلقا أو له فرع وارث محروم، أو من ذوي الأرحام.

4- أن يرث بطريق المقاسمة إذا وجد معها إخوة وأخوات لأبوين، أو لأب ممن يرثون بالتعصيب، بأن كانوا ذكورا فقط أو ذكورا وإناثا، أو معه أخت شقيقة أو أكثر، أو أخت لأب فأكثر وكن عصبة مع البنتين أو مع بنت الابن أو معهما معا، قاسمهم الجد كأخ، إلا إذا كانت المقاسمة تحرمه الإرث أو تنقصه عن السدس فإنه يعتبر صاحب فرض ويرث السدس.

ولا يدخل في المقاسمة الإخوة أو الأخوات لأب إذا كانا محجوبين، بالأخ الشقيق، أو بالأخوات الشقيقات مع البنات.

5- يرث الجد بالتعصيب إذا كان معه من الأخوات الشقيقات، أو لأب من يرث بالفرض لا بالتعصيب إلا إذا لم يبق له شيء، أو بقي أقل من السدس فإنه يعتبر صاحب فرض ونرد له السدس.

6- يحجب الجد الصحيح بالأب، وبالجد الصحيح الأقرب منه درجة.

وتوريث الإخوة والأخوات لأبوين، أو لأب مع الجد الصحيح هو مذهب الأئمة مالك، والشافعي، وابن حنبل، والصاحبين "أبي يوسف ومحمد" وأما مذهب أبي

(1/310)

حنيفة فهو أن الجد كالأب يحجب الإخوة والأخوات جميعهم من الأرث لأن العاصب من جهة الأبوة يحجب من الإرث العاصب من جهة الإخوة.

وأساس المقاسمة أن الجد والأخ الشقيق أو لأب درجة قرابتهما بالمتوفى واحدة؛ لأن كلا منهما يدلي إليه بالأب، فالتسوية بينهما في الإرث، بالمقاسمة بينة على تساويهما في درجة القرابة بالمتوفى.

مع ملاحظة أن الإخوة والأخوات لأب إذا كانوا محجوبين بالأخ الشقيق أو بالأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع الفرع الوارث من الإناث لا يدخلون في المقاسمة؛ لأن المقاسمة إنما تجري بين الوارثين لمعرفة السهام التي يرثها الجد بوصفه أخا وارثا فلا يعتبر فيها من كان محجوبا من الإرث.

الإرث بالتعصيب:

تعريف التعصيب:

لغة: هو الإحاطة وكل شيء استدار حول شيء فقد عصب به، ومنه العصائب، وهي العمائم، سميت بذلك لأنها تحيط بالرءوس.

وفي الإصطلاح: هو الإرث بغير تقدير.

تعريف العصبة:

لغة: هم قرابة الرجل وبنوه، سموا بذلك لأنهم أحاطوا به.

واصطلاحا: هم من يرث بغير تقدير.

أقسامهم:

ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير.

أولا: العصبة بالنفس

هم على قسمين: عصبة بنسب، وعصبة بسبب.

القسم الأول: "العصبة بالنسب"

كل وارث من الذكور، إلا الزوج، والأخ من الأم، وهم:

(1/311)

الابن، وابن الابن وإن نزل، والأب، وأبوه وإن علا، الأخ الشقيق، والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وإن نزل، وابن الأخ وإن نزل، والعم الشقيق، والعم لأب، وابن العم الشقيق وإن نزل، وابن العم لأب وإن نزل.

أحكام العصبة بالنفس:

للعصبة بالنفس ثلاثة أحكام، هي:

إن من انفرد منهم أخذ كل المال، وذلك لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} 1، فقد صرحت الآية بإرث الأخ جميع مال الأخت إن لم يكن لها ولد، والابن، وابنه، والأب، والجد: أولى لقربهم. وقيس عليه بنو الإخوة، والأعمام، وبنوهم، والموالي، بجامع التعصيب.

إنه إذا كان أحدهم مع صاحب فرض أو فروض، يأخذ ما أبقته الفروض، لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" متفق عليه.

والأولى هنا بمعنى: الأقرب

أن المعصب بالنفس إذا استغرقت الفروض "التركة، سقط، إلا الابن، فإنه لا يمكن معه الاستغراق، والأب، والجد، فإنهما يرثان عند ذلك السدس بالفرض.

جهات التعصيب:

ست جهات هي: البنوة، ثم الأبوة، ثم الجدودة، مع الأخوة، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة، ثم الولاء.

اجتماع العصبة:

إذا اجتمع عاصبان فأكثر، فتارة يستويان أو يستوون في الجهة والدرجة، والقوة، وحينئذ يشتركان أو يشتركون في المال، أو فيما أبقت الفروض.

__________

1 من الآية 176 من سورة النساء.

(1/312)

وتارة يختلفان أو يختلفون في شيء من ذلك، فيسقط بعضهم بعضا، وذلك مبني على قاعدتين:

1- أن كل من أدلى إلى المبيت بواسطة، حجبته تلك الواسطة، إلا ولد الأم بالاتفاق فإنه يرث مع وجود الواسطة التي أدلى بها هي الأم لكونه من أصحاب الفروض.

2- إذا اجتمع عاصبان فأكثر، وجب تقديم من كانت جهته مقدمة، كما علم من ترتيب الجهات، وإن تراخى، على من كانت جهته مؤخرة. فابن الابن وإن نزل -مثلا- مقدم على الأب، فلولا أن له فرضا لسقط.

فإن كانا أو كانوا من جهة واحدة، فالقريب -وإن كان ضعيفا- مقدم على البعيد وإن كان قويا. فابن الأخ لأب مقدم على ابن ابن الأخ الشقيق.

أما إن تساويا أو تساووا في القرب، فالقوي مقدم على الضعيف، فالأخ الشقيق مقدم على الأخ من الأب.

والقوي: هو ذو القرابتين.

والضعيف: هو ذو القرابة الواحدة. وقد جمع العلامة الجعبري رحمه الله هذه القاعدة في بيت واحد، حيث قال:

فبالجهة التقديم، ثم بقربه

وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا.

القسم الثاني "العصبة بالسبب":

صاحب الولاء، ذكرا كان أم أنثى، وهو المعتق وعصبته المتعصبون بأنفسهم، فيكون التعصيب به بعد فقدان كل العصبة النسبية، أو قيام مانع بها، وهو مقدم على الرد وذوي الأرحام، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "الميراث للعصبة، فإن لم يكن عصب فللمولى".

وترتيبهم كترتيب عصبات النسب.

(1/313)

اجتماع أكثر جهة من جهات الأرث في شخص واحد:

قد يجتمع في شخص واحد جهتا إرث في آن واحد، فرض وتعصيب، وحينئذ يرث بهما، فإن كان منفردا أخذ فرضهن ثم أخذ الباقي بالتعصيب، وإن كان مع غيره من أصحاب الفروض، اشترك معه في الإرث بالفرض، ثم إن بقي شيء بعد ذلك أخذه بالتعصيب، وإن لم يبق فلا شيء له إلا ما أخذه معهم بالفرض، مثال ذلك: ماتت امرأة عن زوج هو ابن عمها ولا وارث غيره فلقد اجتمع في هذا الزوج جهتان من جهة الفرضية وهي الزوجية وجهة العصوبة لكونه ابن عم فإنه يرث النصف فرض لكونه زوج والباقي تعصيبا لكونه ابن عم ولا يوجد من يحجبه من هذه الجهة.

ثانيا: العصبة بالغير

أي بواسطة الغير، وهن أربع: ذوات النصف، والثلثين.

وذلك على النحو التالي:

1- بنت الصلب واحدة فأكثر، بالابن فأكثر، لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 1.

2- بنت الابن فأكثر، بابن الابن فأكثر، سواء كان أخاها أم ابن عمها المساوي لها في الدرجة، أو النازل عنهما إذا احتاجت إليه، وذلك كما إذا أخذ بنات الصلب الثلثين، كمن مات عن بنتين، وبنت ابن، وابن ابن ابن، للبنتين الثلثان، والباقي لبنت الابن، وابن ابن الابن.

3- الأخت الشقيقة فأكثر، بالأخ الشقيق فأكثر، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2.

__________

1 من الآية 11 من سورة النساء.

2 من الآية 176 من سورة النساء.

(1/314)

ولا يعصب الأخ من الأب، والأخت الشقيقة إجماعا؛ لأنه لا يساويها في النسب، لكونها أقوى منه.

4- الأخت لأب فأكثر، بالأخ لأب فأكثر، للآية الكريمة المتقدمة.

ثالثا: العصبة مع الغير

صنفان فقط، هما: الأخت الشقيقة فأكثر، والأخت لأب فأكثر، مع البنت فأكثر، أو بنت الابن فأكثر، أو هما.

وهذا معنى قول الفرضين: الأخوات مع البنات عصبة، ومعنى قول صاحب "الرحبية":

والأخوات إن تكن بنات

فهن معهن معصبات

تنبيه:

إذا كانت الأخت الشقيقة عاصبة مع الغير حجبت كل من يحجبه الشقيق، وكذلك الأخت لأب، إذا كانت عاصبة مع الغير حجبت كل من يحجبه الأخ لأب.

(1/315)

الحجب:

تعريفه:

لغة: هو المنع، ومنه الحجاب، لما يستر به الشيء ويمنع من النظر إليه.

واصطلاحا: هو منع من قام به سبب الإرث من الإرث بالكلية، أو من أوفر حظية.

أقسامه:

قسمان: حجب بوصف، وحجب بشخص.

أولا: الحجب بالوصف

هو المعبر عنه بالمانع، وقد تقدم الكلام عن الموانع في أول الكتاب.

ويتأتى دخوله على جميع الورثة، والمحجوبون بالوصف وجودهم كعدمهم، فلا يرثون، ولا يحجبون غيرهم.

ثانيا: الحجب بالشخص

هو المراد عند الإطلاق، وينقسم إلى قسمين: حجب حرمان، حجب نقصان.

حجب النقصان:

هو منع من قام به سبب الإرث من أوفر حظيه.

ويدخل على جميع الورثة، وهو على سبعة أقسام، منها، أربعة:

انتقالات، ومنها ثلاثة ازدحامات.

الانتقالات:

1- انتقال من فرض إلى فرض أقل منه، وهذا يكون من حق من له فرضان، وهم خمسة: الزوجان، والأم، وبنت الابن، والأخت من الأب.

2- انتقال من التعصيب إلى الفرض، وهذا يكون في حق الأب والجد فقط.

(1/316)

3- انتقال من الفرض إلى التعصيب، وهذا في حق ذوات النصف، فإن لكل واحدة منهن عند الانفراد النصف، وإذا كان معها معصبا اقتصما المال أو الباقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.

4- انتقال من تعصيب إلى تعصيب، وهذا يكون في حق العصبة مع الغير، فإن للأخت -مثلا- مع البنت: الباقي، وهو النصف، ولو كان معها أخوها لتحولت إلى معصية بالغير، فيكون الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.

الازدحامات:

1- ازدحام في الفرض، وهذا يكون في سبعة من الورثة هم: الجدة، الزوجة، والعدد من البنات، وبنات الابن، والأخوات من الأبوين، الأخوات من الأب، والعدد من أولاد الأم.

2- ازدحام في التعصيب، وهذا يكون في حق كل عاصم.

3- ازدحام في العول، وهذا يكون في حق أصحاب الفروض، إذا تزاحموا في الفريضة الواحدة؛ لأنه ليس بعضهم أحق بالإرث من بعض، فيلحق النقص جميعهم، حتى يتمكن من قسمتها.

حجب الحرمان: هو أن يسقط الشخص غيره من الإرث بالكلية، كحجب العصبة بعضهم بعضا، ويمكن دخوله على جميع الورثة، ما عدا ستة منهم، وهم:

الأبوان، والزوجان، والولدان.

أقسام الوراثة بالنسبة إليه: على أربعة أقسام:

1- وارث لا يُحجَب ولا يُحجِب، وهما الزوجان.

2- وارث يَحجب غيره ولا يُحجَب، وهم الأبوان الولدان.

3- وارث يَحجبه غيره، ولا يُحجب، وهم الإخوة لأم.

4- وارث يُحجَب ويَحجِب غيره، وهم بقية الورثة.

(1/317)

اسكنر

(1/318)

الأنثيين، ولولا وجود ابن الابن لما أخذت بنت الابن شيئا؛ لأن البنتين قد استكملتا الثلثين.

الأخ المشئوم: هو الذي لولاه لورثت أخته، كزوجة ماتت عن زوج، وأخت شقيقة، وأخت لأب، وأخ لأب، فللزوج النصف، وللشقيقة النصف، ولا شيء للأخت والأخ للأب، لعدم وجود باق، لولا وجود الأخ لأب لأخذت الأخت لأب السدس تكملة الثلثين، فتزيد المسألة بالعول.

المشركة وتسمى أيضا: المشتركة، واليمية "نسبة إلى اليم" والحجرية، والحمارية، والمنبرية، وهي: زوج، وذو سدس "من جدة أو أم"، وإخوة لأم، وشقيق فأكثر.

قسمتها: في قسمتها مذهبان للأئمة رحمهم الله:

فالذي عليه أحمد، وأبو حنيفة: أن للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، ولا شيء للأشقاء، لاستغراق الفروض، والعاصب لا يأخذ إلا ما تبقى بعد الفروض.

وهذا ما حكم به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أولا، فلما كان من العام المقبل أتى بمثلها، فأراد أن يقضي فيها بما قضى به أولا، فقال له أحد الإخوة والأشقاء: هب أن أبانا كان حمارًا أو حجرا ملقى في اليم، فلما قيل له ذلك، قضى بالتشريك بين الإخوة من الأم والإخوة الأشقاء، كأنهم أولاد أم بالنسبة لقسمة الثلث بينهم فقط، لا من كل الوجوه، بعد أن أسقطهم في العام الماضي، ولما قيل له في ذلك قال: ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي.

وعلى المذهب الأخير مشى مالك، والشافعي.

والأول هو مقتضى النص والقياس، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر".

(1/319)

الأكدرية:

سبب تسميتها: سميت بهذا الاسم لأنها كدرت على زيد بن ثابت في هذا الباب؛ لأن الأصل في باب الجد والإخوة أن لا يفرض للأخوات شيء مع الجد، وأن الإخوة يسقطون إذا لم يبق شيء، أو بقي أقل من السدس، أو لم يبق إلا السدس، لكنهم استثنوا هذه الصورة، ففرضوا للأخت فيها النصف مع الجد، وفرضوا له السدس.

وعلل آخرون سبب تسميتها بغير هذا.

أركانها:

زوج، وأم، وجد، وشقيقة أو أخت لأب.

(1/320)

الحساب:

تعريفه:

الحساب في الفرائض يقصد به تأصيل المسألة، وتصحيحها، وقسمة التركات ولا بد لدارس علم الفرائض من معرفة القواعد الحسابية من جمع وطرح وضرب وقسمة ومن معرفة الكسور الاعتيادية والعشرية وكيفية تحصيل المضاعف المشترك الأصغر، وبتعبير آخر ينبغي له أن يتعلم علم الحساب المستقل.

التأصيل:

هو تحصيل أقل عدد يستخرج منه فرض المسألة أو فروضها بلا كسر، كتحصيل عدد اثنين أو أربع أو ست ... إلخ.

كيفية استخدام أصل المسألة:

أصل المسألة يختلف باختلاف الورثة؛ لأنهم إما أن يكونوا عصبة فقط، أو عصبة وصاحب فرض واحد، أو أصحاب فروض وحدهم أو هم ومعهم عصبات.

فإذا كانوا عصبة فقط: فأصل المسألة من عدد رءوسهم للذكر مثل حظ الأنثيين؛ كمن مات عن ابن وبنت فأصل مسألتهما من ثلاثة: للبنت سهم وللابن سهمان. وإن كان في المسالة صاحب فرض واحد وعصبة: فأصلها من مخرج فرض صاحب الفرض؛ كزوجة ماتت عن أخ لأم وأخوين أشقاء وأخت شقيقة، فللأخ لأم السدس والباقي للعصبة، فالمسألة من ستة؛ لأنها مقام السدس فرض الأخ لأم وسدسها واحد يأخذه الأخ لأم، والباقي خمسة للأشقياء للذكر مثل حظ الأنثيين.

(1/321)

وإذا كان في المسألة أصحاب فروض فقط. أو هم ومعهم عصبات، فإنه ينظر بين مخارج الفروض بالنسب الأربع، والناتج من النظر يجعل أصلا لتلك المسألة.

النسب الأربع:

هي التماثل، والتداخل، والتوافق، والتابين، وهي أساس كبير في عمل الفرائض.

أولا: التماثل:

هو عبارة عن مساواة عدد لآخر في القيمة كاثنين واثنين وسنة وستة.

والحكم فيه الاكتفاء بأحد العددين.

مثاله: ماتت عن زوج، وأخت لأب: فللزوج والنصف مخرجه من اثنين، وللأخت لأب كذلك الصنف مخرجه من اثنين، والمخرجان متساويان في القيمة؛ فتقول: إن النسبة التي بينهما هي التماثل، ولذلك تكتفي بأحدهما وتجعل منه أصل المسألة، بمعنى أنها تجعل من اثنين يعطى منها للزوج نصفها "واحد" وللأخت لأب نصفها "واحد".

ثانيا: التداخل:

وهو عبارة عن عددين أكبر وأصغر والأكبر ينقسم على الأصغر بلا كسر، أو يقال الأصغر يفني الأكبر من مرتين أو عدة مرات.

والحكم فيه أن يكتفي بالأكبر.

مثاله: مات عن أم، وأخ لأم، وعم: فللأم الثلث مرخجة من ثلاثة، وللأخ لأم السدس ومخرجه من ستة، والثلاثة أصغر من الستة، وهي تفني الستة في مرتين؛ أو تقول إن الستة أكبر من الثلاثة، وهي تقسم على الثلاثة بدون باق.

فنقول إن النسبة التي بينهما هي التداخل، ولذلك نكتفي بالأكبر منهما وهو الستة ونجعله أصلا للمسألة ثم نعطي كل وارث من أصلها حسب إرثه.

(1/322)

ثالثا: التوافق:

وهو عبارة عن اتفاق العددين في جزء من الأجزاء مثل الاتفاق في النصف بين الستة والثمانية أو بين الأربعة والستة.

والحكم فيه أن يضرب وفق أحدهما في كامل الآخر.

مثال: مات عن زوجة وأم وابن: فللزوجة الثمن مخرجه من ثمانية، وللأم السدس مخرجه من ستة، والعددان متفقان في النصف لأن لكل منهما نصفا صحيحا.

فنقول: إن النسبة التي بينهما هي التوافق ولذلك نضرب وفق أحدهما في كامل الآخر، ونجعل الناتج أصلا للمسألة.

تنبيه: إذا وجد الفرضان: الثمن والسدس في مسألة فأصلهما دائما لا يكون إلا من أربعة وعشرين، يقول صاحب الرحبية:

والثمن إن ضم إليه السدس

فأصله الصادق في الحدس

أربعة يتبعها عشرونا

يعرفها الحساب أجمعونا

ملحوظة: كل تداخل توافق، وليس العكس.

رابعا: التباين:

هو عبارة عن عددين لا يوجد بينهما اتفاق في أي جزء من الأجزاء كالثلاثة مع الأربعة.

والحكم فيه أن يضرب كامل أحدهما في كامل الآخر.

أصول المسألة:

الأصول المتفق عليها سبعة وهي: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والستة، والثمانية، والاثنا عشر، والأربعة والعشرون.

(1/323)

أحكام الرد والعول:

تعريف العول لغة واصطلاحا:

العول في اللغة: له عدة معان فهو يأتي بمعنى "الظلم والجور" ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} أي تظلموا وتجوروا.

ويأتي بمعنى "الارتفاع" يقال: عال الماء إذا ارتفع، وعالت القضية إلى الحاكم إذا ارتفعت إليه، ويأتي بمعنى "الزيادة": عال الميزان إذا زادت إحدى الكفتين فيه على الأخرى.

واصطلاحا: هو "زيادة في مجموعة السهام المفروضة، ونقص في أنصباء الورثة" وذلك عند تزاحم الفروض كثرتها، وبحيث تستغرق جميع التركة، ويبقى بعض أصحاب الفروض بدون نصيب من الميراث فنضطر عند ذلك إلى زيادة أصل المسألة حتى تستوعب التركة جميع أصحاب الفروض، وبذلك يدخل النقص إلى كل واحد من الورثة، ولكن بدون أن يحرم أحد من الميراث فالزوج الذي يستحق النصف قد يصبح نصيبه الثلث في بعض الحالات.

كما إذا عالت المسالة من "6" إلى "9" وهكذا بقية الورثة يدخل عليهم النقص في أنصبائهم في حالة عول المسألة وبذلك يتضح لنا معنى قول الفرضيين في تعريف العول "هو زيادة في السهام المفروضة ونقص في أنصباء الورثة".

متى وقع العول؟

لم يقع العول في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا في زمن أبي بكر -رضي الله عنه- حيث لم تحصل مسألة أو حادثة في عول في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا في زمن خليفته الأول، وإنما حصلت أول قضية في زمن الفاروق "عمر" -رضي الله عنه. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- "أول من أعال الفرائض عمر -رضي الله عنه- لما التوت "أي كثرت" عليه

(1/324)

الفرائض ودافع بعضها بعضا، فقال: ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر! وكان امرأً ورعًا، فقال ما أجد شيئا أوسع لي من أن أقسم التركة عليكم بالحصص وأدخل على ذي حقه حقه، ما دخل من عول الفريضة، فكان عمر -رضي الله عنه- أول من أعال المسائل.

وقد انعقد الإجماع على هذا، حيث لم يخالف أحد من الصحابة، فلما انقضى عصر عمر، أظهر ابن عباس -رضي الله عنهما- خلافه ولكن لم يؤخذ بمذهبه لمخالفته الإجماع.

أول حادثة وقعت في عهد عمر -رضي الله عنه:

يذكر الرواة أن أول حادثة وقعت في عهد عمر وكان فيها عول هي المسألة الآتية:

امرأة ماتت وخلفت زوجا وأختين شقيقتين. فالزوج فرضه النصف والأختان الشقيقتان، فرضهما الثلثان، وقد زادت الفروض على التركة وجاء الزوج يطلب نصيبه كاملا، وجاءت الشقيقتان أيضا تطلبان نصيبهما كاملا فقال عمر: ما أدري من أقدم منكم في العطاء ومن أؤخر؟ أي أني إذا أعطيت الزوج أولا فرضه وهو النصف نقص نصيب الأختين، وإذا أعطيت الأختين فرضهما أولا وهو الثلثان نقص نصيب الزوج، فعند ذلك توقف في الأمر واستشار الصحابة فأشار عليه "زيد بن ثابت" -رضي الله عنه- بالعول، فقال عمر: أعيلوا الفرائض، وأقر صنيعه الصحابة الكرام، فأصبح ذلك إجماع على العول.

الأصول التي تعول والتي لا تعول:

أصول المسائل سبعة: ثلاثة منها تعول، وأربعة لا تعول ... أما الثلاثة التي يدخل فيها العول فهي: الستة، والاثنا عشر، والأربع العشرون بمعنى أن كل أصل من أصول المسائل يقبل القسمة على ستة بدون كسر فهو الذي يعول.

(1/325)

وأما الأصول التي لا يدخل فيها العلو فيه: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والثمانية، فإذا كان أحد أصول المسألة من هذه الأعداد فإنه لا يمكن أن يكون في المسألة عول، كما إذا ماتت عن: زوج وأخت شقيقة أو لأب: فأصل المسالة من اثنين، للزوج واحد من اثنين وللشقيقة واحد من اثنين فليس في المسألة عول، وكما إذا ماتت امرأة عن أبوين "أب وأم" فللأم الثلث وللأب الباقي ويكون أصل المسألة من ثلاثة فليس في المسألة إذا عول، وإذا مات عن "زوجة وأخ شقيق وأخت شقيقة": فأصل المسألة أربعة، للزوجة الربع وهو واحد من أربعة، والباقي ثلاثة أرباع بين الشقيق والشقيقة للذكر مثل حظ الأنثيين، وحينئذ نقول: إن المسألة التي أصلها من أربعة لا يمكن أن يكون فيها عول، ومثل هذا أيضا لو مات عن "زوجة وبنت وأخت شقيقة أو أخت لأب" فالمسألة من ثمانية: للزوجة الثمن وهو واحد من ثمانية، وللبنت النصف، أربعة من ثمانية، وللشقيقة الباقي ثلاثة من ثمانية، وليس في هذه المسألة عول.

الأصول التي تعول:

أما الأصول التي تعول وهي "6، 12، 24" كما بينا، فإن لكل أصل من الأصول نوعا من العول، فالستة تعول إلى العشرة وترا وشفعًا "أي أن الستة تعول إلى السبعة وإلى الثمانية وإلى التسعة وإلى العشرة ولا تزيد على ذلك، فلها إذا عول. أربع مرات" فقط ولا يمكن أن تعول أكثر من ذلك.

والاثنا عشر تعول إلى سبعة عشر وترا لا شفعا "أي أنها تعول إلى "13" وإلى "17" فلها عول ثلاث مرات فقط".

والأربع والعشرون تعول إلى سبعة وعشرون عولًا واحدًا في مسألة مشهورة تسمى "المسألة المنبرية" فلها عول واحد فقط، وستأتي صورتها قريبا إن شاء الله.

(1/326)

1- ماتت عن "أب وأم وبنت وبنت ابن" فما نصيب كل من الورثة؟

للأب السدس، وللأم السدس، وللبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، فالمسألة من ستة وعدد السهام ستة، فالمسألة هذه غير عائلة، أو ليس فيها عول؛ لأن السهام فيها بقدر أصل المسألة.

2- ماتت عن "زوج وأخت شقيقة، أخت لأم" فما نصيب كل من الورثة؟

للزوج النصف 3، وللشقيقة النصف 3، وللأخت لأم السدس 1

ومجموع السهام هو 7 وقد زادت سهما واحدا على أصل المسألة، فالمسألة إذًا فيها عول.

لأنها عالت بسهامها من الستة إلى السبعة فعوضا من أن يكون أصل المسألة 6 يصبح 7 وهكذا ...

3- ماتت عن "زوج وأم وأخت شقيقة وأخت لأم" فما نصيب كل من الورثة؟

للزوج النصف 3، وللأم السدس 1، وللشقيقة النصف 3، وللأخت لأم السدس 1.

ومجموع السهام 8 فالمسألة قد عالت من الستة إلى الثمانية وتسمى هذه الصورة "بالمباهلة".

4- مات عن "زوج وأخوين لأم وأختين شقيقتين" فما نصيب كل من الورثة؟

للزوج النصف 3، وللأخوين لأم الثلث 2، وللشقيقتان الثلثان 4.

فيكون مجموع السهام 9 فتلغى الـ6 وتبقى الـ9 أصلا للمسألة ونقول إن المسألة قد عالت من الـ6 إلى الـ9 وتسمى هذه المسألة بالمروانية.

5- ماتت عن "زوج وأختين لأب وأختين لأم وأم" فما نصيب كل من الورثة؟

(1/327)

6- للزوج النصف 3، وللأختين لأب الثلثان 4 وللأختين لأم الثلث 2 وللأم السدس 1.

فيكون مجموع السهام 10 فتلغى الـ6 تبقى الـ10 أصلا للمسألة ويقال عالت المسألة من 6 إلى 10 وتسمى هذه المسألة بالشريحية.

(1/328)

أمثلة على عول الاثني عشر:

1- مات عن "زوجة وأختين شقيقتين وأم" فما نصيب كل من الورثة؟

للزوجة الربع 3 وللأختين الشقيقتين الثلثين 8 وللأم السدس 2 فيكون مجموع السهام بعد التوزيع 3+8+2= 13 فتعول المسألة 13.

أمثلة على عول الأربع والعشرين:

الأربع والعشرين تعول عولًا واحدًا في مسألة شهيرة تسمى "المسألة المنبرية" وسميت بالمنبرية لأن علي -كرم الله وجهه- حكم فيها وهو على المنبر فسميت بذلك الاسم وصورتها كالآتي:

مات رجل عن "زوجة وأبوين وبنتين" فللزوجة الثمن وللأب السدس وللأم السدس وللبنتين الثلثان ومجموع السهام 27 فتلغى الـ24 ويبقى أصل المسألة 27.

تنبيهات:

1- كل مسألة فيها وارث يستحق نصف المال والآخر الباقي أو فيها وارثان كل منهما له النصف فالمسألة من اثنين وليس فيها عول.

2- كل مسألة يستحق الوراث فيها الثلث والآخر الباقي أو فيهما وراثان لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان فالمسألة من ثلاثة وليس فيها عول.

3- كل مسألة يستحق الوراث فيها الربع، والآخر الباقي أو فيها وراثان لأحدهما الربع وللآخر النصف فالمسألة من أربعة وليس فيه عول.

4- كل مسألة يستحق الوارث فيها الثمن والآخر الباقي أو فيها وارثان لأحدهما الثمن والآخر النصف فالمسألة من ثمانية وليس فيها عول.

(1/329)

الرد لغة: العود والرجوع والرف، قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} 1.

أي أعادهم مقهرين ذليلين قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا} 2.

أي رجعا وعادا ويقال في الدعاء: "اللهم رد كيدهم عني" أي اصرف كيدهم عني، وقال الشاعر:

يا أم عمر جزاك الله مكرمة

وردي علي فؤادي مثل ما كانا

أي أعيدي علي فؤادي كما كان في السابق.

وفي الاصطلاح: "نقص في أصل المسألة وزيادة في مقادير السهام المفروضة" فهو عكس العول تماما فإذا زاد من التركة بعد إعطاء أصحاب الفروض فروضهم، ولم يكن ثمة عصبة، فإننا نرد هذا الزائد إلى الورثة الموجودين من أصحاب الفروض، كل بقدر سهامه.

شروط الرد:

ولا يكون في مسألة من المسائل ردا إلا إذا تحققت أمور ثلاثة.

1- وجود صاحب فرض.

2- عدم وجوب عاصب.

3- بقاء فائض من التركة.

فإذا لم تتوفر هذه الشروط فليس في المسألة رد.

الورثة الذين يرد عليهم:

يرد على جميع أصحاب الفروض ما عدا الزوجين والرد يشمل ثمانية من أصحاب الفروض وهم:

1- البنت.

2- بنت الابن.

__________

1 من الآية 25 من سورة الأحزاب.

2 من الآية 64 من سورة الكهف.

(1/330)

3- الأخت الشقيقة.

4- الأخت لأب.

5- الأم.

6- الجدة والصحيحة.

7- الأخت لأم.

8- الأخ لأم.

أما الأب والجد، وإن كانا من أصحاب الفروض في بعض الحالات فإنه لا يرد عليها؛ لأنه متى وجد الأب أوالجد فلا يمكن أن يكون في المسألة رد لأنهما يصبحان عصبة حينئذاك فيأخذان الباقي.

الورثة الذين لا يرد عليهم:

أما الورثة الذين لا يرد عليهم من أصحاب الفروض فهما الزوجان فقط "الزوج والزوجة" وذلك لأن قرابتهما ليست قرابة نسبية إنما هي قرابة سببية أي أن القرابة اكتسبت بسبب النكاح، وقد انقطعت هذه بالموت، فلا يرد على أحد الزوجين إنما يأخذ كل منهما فرضه فقط بدون زيادة وما زاد من التركة فإنه يرد على أصحاب الفروض الآخرين.

أقسام الرد:

ينقسم الرد إلى أربعة أقسام ولك قسم من هذه الأقسام طريقة خاصة، وهذه الأقسام هي:

1- أن يكن الورثة أصحاب فرض واحد بدون أحد الزوجين.

2- أن يكون الورثة أصحاب فروض متعددة بدون أحد الزوجين.

3- أن يكون الورثة أصحاب فرض واحد مع وجود أحد الزوجين.

4- أن يكون الورثة أصحاب فروض متعددة مع وجود أحد الزوجين.

حكم الحالة الأولى:

إذا كان الورثة أصحاب فرض واحد بدون أحد الزوجين، فإن الميراث نقسم على عدد الرءوس ابتداء، تخلصا من التطويل ووصولا إلى الهدف من أيسر طريق ... فإذا مات إنسان عن "ثلاث بنات" فقط في المسألة من ثلاثة عدد

(1/331)

رءوسهن لأن لهما الثلثين بالفرض والباقي بالرد فنقسم الميراث على عدد الرءوس لأن الورثة أصحاب فرض واحد ونكون بذلك قد أعطينا كل واحد منهن فرضها مع حصتها من الرد.

ومثله أيضا: إذا مات عن "جدة وأخت لأم" فالمسألة من اثنين فرضا وردًّا.

ومثله أيضا: إذا مات عن "عشر أخوات لأم" فالمسألة تكون من عشرة فرضا وردا؛ لأن الفروض متحدة؛ ولو مات عن ستة أخوة لأم فالمسألة تكون من ستة "عدد الرءوس" وقس على ذلك ...

حكم الحالة الثانية:

وإذا كان الورثة أصحاب فروض متعددين "بدون أحد الزوجين" فإن الميراث يقسم على عدد السهام لا على عدد الرءوس وذلك كما إذا مات عن "أم وأخوين لأم" فللأم السدس وللأخوين لأم الثلث فالمسألة من عدد السهام أي من ثلاثة، للأم سهما من ستة وللأخوين لأم سهمين من ستة ومجموع السهام ثلاثة من ستة فهو أصل المسألة.

أمثلة تطبيقية على هذا النوع:

1- مات عن "بنت، بنت ابن" فالمسألة من أربعة مجموع السهام.

2- مات عن "أم، أخت شقيقة، أخ لأم" فالمسألة من خمسة عدد السهام.

3- ماتت عن "جدة، بنت، بنت ابن" فالمسألة من خمسة عدد السهام.

4- ماتت عن "أخت شقيقة، أخت لأب" فالمسألة من أربعة عدد السهام.

5- مات عن "أخت شقيقة، أخت لأب، أخت لأم" فالمسألة من خمسة عدد السهام.

وفس على هذه المسائل ما شابهها بشرط عدم وجود أحد الزوجين.

(1/332)

حكم الحالة الثالثة:

إذا كان الورثة أصحاب فرض واحد ومعهم أحد الزوجين فالقاعدة أن تجعل المسألة من مخرج أي من مقام فرض من لا يرد عليه والباقي يقسم على عدد رءوس الورثة؛ كزوج وبنتين فللزوج الربع والباقي يقسم على البنتين بالسوية أي على عدد الرءوس.

وإذا مات عن زوجة وأخوين لأم فالمسألة من "أربعة" مخرج فرض من لا يرد عليه والباقي يقسم على عدد الرءوس.

وإذا مات عن: زوجة وخمس بنات فالمسألة من ثمانية، للزوجة سهم واحد والباقي يقسم على عدد الرءوس.

وإذا مات عن: زوج وأربع بنات فالمسألة من أربع للزوج سهم والباقي للبنات.

حكم الحالة الرابعة:

وإذا كان الورثة أصحاب فروض متعددة، ومعهم أحد الزوجين فالقاعدة أن نجعل مسألتين مسألة نضع فيها أحد الزوجين ومسألة ليس فيها أحد الزوجين، ونحل كل مسألة استقلالا، ثم ننظر بين المسألتين بأحد النسب الثلاث: التماثل، التوافق، التباين ونصنع كما نصنع في المناسخة، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك:

أولا: مات عن: زوجة وبنتين وأم:

فالمسألة الأولى أصلها من ستة وبالرد تصبح من خمسة مجموع السهام، والمسألة الثانية أصلها من 8 مخرج فرض الزوجة فإذا أخذت الزوجة فرضها وهو الثمن بقي 7 وهي نصيب البنتين والأم فرضا وردا وبين السبعة والخمسة تباين، فنضرب أصل المسألة الثانية وهو 8 في أصل المسألة الأولى وهو 5 ويكون الناتج هو أصل المسألتين "8×5= 40" ثم نضرب 4×7 ويكون الناتج هو نصيب البنتين "4× 7= 28".

كما نضرب 1 × 7 ويكون الناتج هو نصيب الأم "1×7= 7".

(1/333)

ثانيا: مات عن: زوجتين وأم وبنت.

فالمسألة الأولى أصلها من 6 وبالرد تصبح من 4 مجموع السهام، والمسألة الثانية من 8 مخرج فرض الزوجة، وقد بقي بعد أخذ الزوجة فرضها سبعة وبينها بين الأربعة تباين فنضرب أصل المسألة الثانية في أصل المسألة الأولى فينتج 32 وهو أصل المسألتين ومنه يصبح نصيب الزوجة 4 ونصيب الأم 7 ونصيب البنت 21.

وقس على هذه المسائل ما شابهها والله تعالى أعلم.

معرفة تقسيم البركة:

التركة: هي ما يتركه الميت من مال أو متاع أو عقار وهذه التركة تقسم بين الورثة على قدر سهامهم، فيعطى كل وارث من التركة على قدر سهامه التي ورثها من الميت، ولمعرفة قسمة التركة طرق عديدة أشهرها طريقتان بالنسبة للأموال المنقولة:

الطريقة الأولى:

أن تستخرج قيمة السهم الواحد من التركة ثم نضربها في عدد سهام كل وارث، فنحصل على نصيب كل وراث من التركة.

الطريقة الثانية:

أن نستخرج نصيب كل واحد من الورثة جملة وذلك بأن نضرب سهام كل وارث في مقدار التركة ثم نقسمه على أصل المسألة أو تصحيحها فينتج نصيب كل وارث.

(1/334)

أمثلة على الطريقة الأولى:

1- توفي رجل عن: زوجة وبنتين وأب وأم والتركة 27 فدانًا، للزوجة الثمن لوجود الفرع الوارث، وللبنتين الثلثين لكونهما أكثر من واحدة ولا يوجد معهن معصب، وللأب السدس فرضا + الباقي تعصيبا لوجود البنات، وللأم السدس فرضا.

وأصل المسألة 24 وهو المضاعف المشترك الأصغر الذي يقبل القسمة على جميع الأنصباء بدون كسر ومن ثم يكون للزوجة ثلاثة أسهم وذلك حاصل قسمة أصل المسألة 24 على مقام نصيبها وهو 8.

وللبنتين 24÷3×2= 16 سهم لكل بنت 8 أسهم وللأب 24÷1/ 6= 4 أسهم وللأم 24÷1/ 6= 4 أسهم وبجمع الأسهم 3+16+4+4= 27 فتكون المسألة عائلة إلى 27.

قيمة السهم الواحد= 27÷ 27= 1 فدان.

نصيب الزوجة= 3×1= 3 فدان.

نصيب البنتين= 16×1= 16 فدان.

نصيب الأب= 4×1= 4 فدان.

نصيب الأم= 4×1= 4 فدان.

المجموع 27 فدان.

أمثلة على الطريقة الثانية:

ماتت عن: أخوين شقيقين وبنت ابن وأم وزوج والتركة هي 240 جنيه فما نصيب كل وارث من التركة؟

نصيب الشقيقتين من التركة= "2×240"÷4= 20 جنيه.

نصيب بنت الابن من التركة= "12×240"÷ 24= 120 جنيه.

نصيب الأم من التركة= "4×240"÷24= 40جنيه.

نصيب الزوج من التركة= "6×240"÷24= 60 جنيه.

المجموع= 240جنيه.

(1/335)

ميراث الحمل:

تعريف الحمل:

الحمل لغة: مصدر حملت تحمل حملا ويقال للمرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى، قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} 1.

واصطلاحا: هو ما في بطن الأم من ولد ذكرًا كان أو أنثى.

وللحمل أحكام نوضحها في هذه العجالة متوخين الإيجاز قدر الإمكان فنقول ومن الله نستمد العون:

سبق وأن ذكرنا في بحث "شروط الإرث" أنه يشترط لميراث أي إنسان، تحقق حياة الوارث عند موت المورث وباعتبار أن الحمل وهو لا يزال في بطن أمه مجهول الوصف والحال، فإما أن يولد حيا أو ميتا، وإما أن يكون ذكرًا أو أنثى، وإما أن يكون واحدًا أو متعددًا أي "توءمًا" فلا يمكننا -والحالة هذه- أن نقطع بأمره ولا أن نجزم بشيء إلا بعد الولادة؛ فإذا ولد حيا اعتبرنا حياته قائمة من وقت وفاة المورث، وإن ولد ميتا اعتبرناه معدوما من وقت وفاة المورث، وكما يستحيل الجزم بحياة الجنين إلا بعد ولادته حيا، فكذلك يستحيل الجزم بكونه ذكرًا أو أنثى، فهو ما زال جنينا غامض الوصف والحال ومترددا بين أن يكون ذكرًا أو أنثى، وما دام الجنين غامض الوصف والحال فإن توزيع التركة بشكل نهائي يصبح أمرا متعذرًا ولكن قد تصادفنا هناك أمور اضطرارية لمصلحة بعض الورثة توجب علينا قيمة التركة "قسمة أولية" ثم نترك التقسيم النهائي إلى ما بعد الولادة.

__________

1 من الآية 15 من سورة الأحقاف.

(1/336)

ولهذه الضرورات نظم الفقهاء أحكامها خاصة بالحمل تقسم التركة على ضوئها قسمة أولية ويحتاط فيها لمصلحة الحمل ما أمكن الاحتياط وهذه بعض الأحكام نبينها فيما يلي:

شروط إرث الحمل:

يرث الحمل بشرطين:

1- أن يكن موجودا في بطن أمه وقت وفاة مورثة يقينا.

2- أن ينفصل من بطن أمه حيا وذلك ليكون أهلا للتملك.

أما الشرط الأول:

فيتحقق بولادة الجنين حيا وخروجه من بطن أمه لسنتين فأقل من يوم الوفاة، إن كان الحمل من الميت لقول السيدة عائشة -رضي الله عنها: "لا يبقى الولد في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بفلكة مغزل".

ومثل هذا لا يعرف إلا سماعا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو مذهب الحنفية وقول الإمام أحمد رحمه الله يرى الشافعية أن المدة هي أربع سنوات، وهو قول للمالكية، وأصح الأقول في مذهب الإمام أحمد.

وأما الشرط الثاني:

فيتحقق بخروج الجنين من بطن أمه وبه حياة مستقرة وتعرف ولادته حيا بأن يستهل صارخا أو عاطسا أو يمص ثدي أمه ونحو ذلك، ومطلق حركة تدل على حياته تكفي عند الحنفية، وذهب الحنابلة والشافعية إلى أنه لا بد من حركة طويلة تدل على حياة مستقرة، فإن كانت يسيرة كانت أشبه بحركة المذبوح، فلا تدل على حياة ولا يرث.

والأصل في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا استهل الصبي صلي عليه وورث" رواه النسائي والترمذي ومعنى استهل: أي رفع صوته بالصياح.

(1/337)

والصراخ، أما إذا نزل ميتا أو انفصل بعضه حيا فمات أو انفصل حيا ولكن حياته غير مستقرة، لم يرث شيئا وكان وجوده كعدمه

أحوال الجنين:

للجنين أحوال خمسة لا تزيد ولا تنقص وهي:

1- ألا يكون وراثا على جميع الأحوال، سواء كان ذكرًا أو أنثى.

2- أن يرث على أحد التقديرين "الذكورة والأنوثة" ولا يرث على التقدير الآخر.

3- أن يكون وراثا على جميع الأحوال، سواء كان ذكرًا، أو أنثى.

4- ألا يختلف إرثه على أحد التقديرين، سواء كان ذكرا أو أنثى.

5- ألا يكون معه وارث أصلا، أو يكون معه وارث لكنه محجوب به.

ففي الحالة الأولى:

نقسم التركة بين المستحقين دون انتظار للحمل؛ لأنه غير وارث على جميع الصور، والأحوال، مثاله:

لو مات عن: "زوجة، وأب، وأم حامل من أب غير أبيه" فإن الحمل لو ولد، فسيكون أخا لأم، وهو محجوب بالأب على كل حال، فتوزع التركة بين الزوجة والأبوين فللزوجة الربع، وللأم ثلث الباقي، والباقي للأب، وتصح من أربعة.

وفي الحالة الثانية:

نقسم التركة بين المستحقين، فنعطيهم نصيبهم على تقدير أن الحمل وراث، ونوقف نصيب الجنين إلى ما بعد الولادة، فإن ظهر أنه وارث أخذه وإن ظهر أنه غير وارث، رد الموقوف على الورثة المذكورين.

مثاله: مات عن زوجة، وعم، وزوجة أخ شقيق حامل، فنعطي الزوجة الربع، ويوقف الباقي ثلاثة أو أرباع إلى ما بعد الولادة، فإن لدت ذكرا أخذ هذا الموقوف،؟؟؟ أخ شقيق" وهو مقدم على العم،؟؟؟ ولدت أنثى أخذ العم

(1/338)

الموقوف؛ لأن الحمل يكون غير وارث لأنه حينئذ "بنت أخ شقيق" وهي من ذوي الأرحام.

وفي الحالة الثالثة:

إذا كان الحمل وراثا على جميع الأحوال، غير أن نصيبه يختلف في أحد الوصفين عن الآخر، ففي هذه الصورة يقدر له التقديران، ويوقف له من النصيب أوفرهما، فقد يكون تقديره ذكرا أنفع له من تقديره أنثى، وقد يكون العكس، فنعطيه أوفر النصيبين، ونحل المسألة بطريقتين ونعطي الورثة الأقل من الأنصبة.

مثاله: ولو توفي عن: زوجة حبلى، وأب، وأم.

ففي هذه الصورة لو فرض الحمل ذكرا فهو ابن الميت، فللزوجة الثمن، وللأب السدس، والباقي يأخذه الابن لأنه عصبة ومقداره 13 لأن المسألة من "24".

ولو فرض أنثى لكان "بنت الميت" فللزوجة الثمن، وللأم السدس، وللبنت النصف، والباقي للأب بالفرض والتعصيب.

وفي الحالة الرابعة:

إذا كان فرضه لا يعتبر ذكرا أو أنثى فإننا حينئذ نحفظ للحمل نصيبه من التركة، ونعطي الورثة الباقين نصيبهم كاملا.

مثله: لو مات شخص عن: "أخت شقيقة، وأخت لأب، وأم حامل من زوج آخر" غير أب المتوفى فالحمل عند ولادته ذكرا كان أو أنثى نصيبه السدس؛ لأنه إما أخ لأم أو أخت لأم، وعلى كلا الحالتين لا يتغير فرضه فالمسألة تكون من "6" للأم، "1" وللشقيقة، "3" وللآخت، لأب "1" وللأخ أو للأخت لأم "1" كما في شكل رقم "3".

وفي الحالة الخامسة:

إذا لم يكن معه وارث أصلا، أو كان معه وارث لكنه محجوب فإننا في هذه الحالة نوقف التركة كلها إلى حين الولادة، فإن ولد حيا أخذها، وإن ولد ميتا أعطيت لمن يستحق من الورثة كما لو توفي عن زوجة ابنه حاملا، وله أخ من أم، فإن الحمل سواء فرض ذكرًا أو أنثى هو فرع للميت فيحجب "الأخ لأم" فإن ولدته ذكرا كان "ابن ابن" فيأخذ كل المال، وإن ولدته أنثى كانت "بنت".

(1/339)

أحكام المناسخات:

تعريف المناسخة:

المناسخة لغة: بمعنى النقل والإزالة، يقال: نسخت الكتاب أي نقتله إلى نسخة أخرى، ونسخت الشمس الظل: أي أزالته، ومن المعنى الأول قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1 أي ننقل ونسجل، ومن المعنى الثاني قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2 أي نبدلها أو ننزل تلاوتها ونغير حكمها.

واصطلاحا: أن يموت بعض الورثة قبل قسمة التركة، فينتقل نصيبه إلى الورثة الآخرين فإذا مات أحد الورثة قبل أن تقسم التركة، ويأخذ نصيبه منها، فإن سهامه تنقل إلى ورثته وتكون هناك مسألة تجمع بين المسألتين تسمى "الجامعة".

وللمناسخة ثلاث حالات.

الحالة الأولى:

أن يكون ورثة الميت الثاني هم أنفسهم ورثة الميت الأول، وفي هذه الحالة لا تتغير المسألة، ولا تتبدل طريقة إرثهم، مثاله: إذا مات عن خمسة أبناء، ثم مات أحد الأبناء عن بقية إخوته، ولا وارث له سواهم، فإن التركة تقسم في هذه الحالة بين الباقين، ويعتبر الابن الميت كأنه من الأصل غير موجود، وتوزع التركة بين الأبناء الأربعة الباقين، ومثله أيضا لو مات عن ثلاث أخوات شقيقات، ثم ماتت إحدى الأخوات عن أختيها، دون أن يكون لها وراث غيرهما، فالحكم فيهما واحد.

الحالة الثانية:

أن يكون ورثة الميت الثاني نفس ورثة الميت الأول، مع اختلاف نستبهم إلى الميت مثال: رجل له زوجتان خلف من إحداهما ابن ومن الثانية ثلاث بنات، ثم

__________

1 من الآية 1 من سورة الجاثية.

2 من الآية 106 من سورة البقرة.

(1/340)

توفي عن زوجتيه وأولاده، ثم توفيت إحدى البنات قبل القسمة على المذكورين، فإن الورثة في هذه الحالة هم بقية ورثة الميت الأول، غير أن الابن في المسألة الأولى قد أصبح بالنسبة للبنت التي ماتت أخ للأب والبنتان أصبحتا شقيقتين، بذلك فإن القسمة هنا تتغير، ولا بد لنا في مثل هذه الحالة من عمل جديد، ومن استخراج ما يسمى "الجامعة" أي الذين يجمع بين المسألتين.

الحالة الثالثة:

أن يكون ورثة الميت الثاني غير ورثة الميت الأول، أو يكون بعضهم ممن يرث من الجهتين، من جهة الميت الأول، ومن جهة الميت الثاني، وفي هذه الحالة لا بد أيضا من استخراج "الجامعة" لأن القسمة تختلف بالنسبة للورثة.

(1/341)

التخارج من التركة:

تعريف التخارج:

هو أن يتصالح أحد الورثة، على أن يخرج من التركة، فلا يأخذ نصيبه نظير مال يأخذه من التركة، أو غيرها. وهذا جائز شرعًا كما لو ترك نصيبه بالكلية لبقية الورثة، ولم يأخذ شيئا من المال، فيقال: إنه سقط حقه من الميراث، وقد روي أن "عبد الرحمن بن عوف" -رضي لله عنه- كان له أربع زوجات، فلما توفي صولحت إحدى زوجاته وهي "تماضر بنت الأصبع" على ربع الثمن، فأخرجت بمائة ألف درهم.

طريقة العمل في التخارج:

وإذا صالح أحد الورثة على شيء معلوم من التركة، فإما أن يتم التصالح بين جميع الورثة، وإما أن يكون بين أحد الورثة أو بعضهم.

ففي الحالة الأولى: تصحح المسألة أولا، ثم تطرح سهام المصالح من التصحيح، ويجعل كأنه استوفى نصيبه، ثم يقسم الباقي بين الورثة الآخرين، ويصبح مجموع سهامهم أصلا للمسألة. فلو توفي رجل عن أب، وبنت وزوجة وترك دارا و"2400" جنيه وصولحت الزوجة على أن تأخذ الدار وتترك نصيبها من المال، ففي هذه الحالة تقسم التركة بين الأب والبنت ويجعل عدد سهامهما أصلا للمسألة.

فالمسألة في الأصل من "24" وإذا أسقطنا سهام الزوجة وهي "3" يبقى "21" سهما فتجعل المسألة من مجموع سهام الأب والبنت أي من "21" وتلغى سهام الزوجة، وتقسم التركة بين الأب والبنت بقدر سهامهما.

(1/342)

لأن سهام الزوجة قد طرحت فتكن النتيجة كالآتي:

4200÷21= جنيه قيمة السهم الواحد.

نصيب الأب من التركة: 9×20= 1800 جنيه.

نصيب البنت من التركة: 12×200= 2400جنيه.

4200 المجموع.

وفي الحالة الثانية:

إذا كانت المصالحة مع أحد الورثة، فإن ذلك المتصالح معه، يحل محل المتصالح ويأخذ نصيبه، ويصبح لهذا حصتان، حصة الشخص الذي صالحه، وحصته الأصلية من الميراث، مثاله: لو مات إنسان عن زوجة، وبنت، وابنتين، فصالح أحد الابنين أخته على أن تخرج له عن نصيبها من التركة، في مقابلة شيء من ماله الخاص، فإذا تمت المصالحة، توزع التركة بين الابنين والزوجة، على أن يكون للابن "المصالح" سهمه وسهم أخته كما في هذه الصورة.

فالمسألة أصلها من "8" وبالتصحيح تصبح من "40" للزوجة خمسة سهام، وللبنت سبعة سهام، ولكل ابن "14" سهما، ثم تضاف سهام البنت إلى أخيها الذي صالحها. فيصبح له "21" سهما، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

تم بحمد الله

د/ محمد عبد اللطيف قنديل

(1/343)

كتاب الطلاق 1:

يشترط لنفوذ التكليف2 إلا السكران3.

ويقع بصريحه بلا نية4،.....................................

__________

1 الأصل فيه قبل الإجماع قول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] .

وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق"، وفي رواية: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".

أخرجه أبو داود في الطلاق، باب كراهية الطلاق برقم 2177 و2178، من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر موصولا، ومرسلا، والحاكم في المستدرك 2/ 196، وصححه، قال الذهبي: على شرط مسلم.

2 لرفع القلم عن غير المكلف فلا يقع طلاقه لحديث علي -رضي الله عنه.

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل".

تقدم تخريجه 1/ 147.

3 المتعتدي بسكره تغليظا عليه لتعديه بإذهاب عقله فيؤاخذ بأفعاله وأقواله كما سيأتي بيانه ص533.

4 لإيقاع الطلاق، من العراف بمدلول لفظه؛ إذ التحريم في الشرع علق على لفظ الطلاق، كما علق النكاح على لفظ النكاح، أو التزويج، أما النية فليست بطلاق.

(1/345)

وبكناية بنية1.

فصريحة الطلاق2 كذا الفراق والسراح على المشهور3.

كطلقتك، وأنت طالق، ومطلقة، ويا طالق، لا أنت طلاق والطلاق في الأصح4، وترجمة الطلاق بالعجمية صريح على المذهب5، وأطلقتك وأنت مطلقة كناية6، ولو اشتهر لفظ للطلاق6 كالحلال أو حلال الله على حرام فصريح في الأصح7.

__________

1 للإجماع على ذلك كما في فتح الجواد 2/ 151، فإن لم ينو لم يقع إجماعا كما في التحفة 8/ 5، والنهاية 6/ 425؛ لأن التحريم في الشرع علق على الطلاق، ونية الطلاق ليست بطلاق، ولأن إيقاع الطلاق بالنية لا يثبت إلا بأصل أو بالقياس على ما ثبت بأصل، وليس هنا أصل ولا قياس على ما ثبت بأصل فلم يثبت.

2 لاشتهاره فيه لغة وعرفا وشرعا كما علم من الآيات السابقة، وقد ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى نحو عشر مرات.

3 بورودهما في القرآن الكريم بمعناه كذلك كما في قوله سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ، وقال سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 321] ، فهو عرف الشرع.

4 لأنهما مصدران، والمصادر لا تستعمل في الأعيان إلا توسعا فهما كنايتان.

5 الشهرة استعمالها عندهم في معناها شهرة العربية عند أهلها.

6 لعدم اشتهاره في معنى الطلاق.

7 لغلبة الاستعمال وحصول التفاهم به عندهم.

(1/346)

قلت: الأصلح أنه كناية، والله أعلم1.

وكنايته كأنت خلية، برية، بتة، بتلة، بائن، اعتدي، واستبرئي رحمك2، إلحقي بأهلك، حبلك على غاربك، ولا أنده سربك3، اعزبي، اغربي، دعيني، ونحوها4.

والإعتاق كناية طلاق وعكسه5، وليس الطلاق كناية ظهار وعكسه6.

ولو قال: أنت علي حرام، أو حرمتك، ونوى طلاقا، أو ظهارا حصل7، أو نواهما، تخير وثبت ما اختاره8، وقيل: طلاق9، وقيل: ظهار10، أو تحريم عينها لم تحرم11، وعليه كفارة

__________

1 لأن الصريح إنما يؤخذ من ورود القرآن الكريم، وتكرره على لسان حملة الشريعة، وليس المذكور كذلك.

2 أي لأني طلقتك.

3 يعني: لا أهتم بشأنك.

4 من كل ما يشعر بالفرقة إشعارًا قريبًا.

5 يعني: الطلاق كناية عتق لاشتراكهما في الدلالة على إزالة ما يملكه.

6 لأن تنفيذ كل منهما في موضوعه ممكن فلا يعدل عنه.

7 لأن الظهار يقتضي التحريم إلى أن يكفر فجاز أن يكنى عنه بالحرام والطلاق سبب محرم.

8 لأنهما لا يثبتان جميعا؛ إذ الطلاق يزيل النكاح والظهار يستدعي بقاءه، ولا يرتفعان لئلا يُلغى اللفظ الصريح.

9 لأنه أقوى بإزالته الملك.

10 لأن الأصل بقاء النكاح.

11 لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها،=

(1/347)

يمين1، وكذا إن لم تكن نية في الأظهر2 والثاني لغو3.

وإن قاله لأمته ونوى عتقا ثبت4، أو تحريم عينها أو لا نية فكالزوجة5، ولو قال: هذا الثوب أو الطعام أو العبد حرام علي فلغو6.

__________

= وقال: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة".

أخرجه البخاري في الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك؟ برقم 5266 "يشير بذلك إلى قصة التحريم التي أخرجها النسائي في الطلاق، باب تأويل قول الله تعالى: يا أيها النبي ... إلخ 6/ 151. بسند صحيح كما قال الحافظ في الفتح 20/ 38 عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] قال الحافظ: وهذا أصح طرق هذا السبب، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق برقم 19 "1473".

وفي رواية للنسائي أن رجلا قال له: إني جعلت امرأتي علي حراما؟ قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، ثم قال له: عليك أغلظ الكفارة. ا. هـ. 6/ 151.

1 أي مثلها؛ لأن ذلك ليس يمينا؛ إذ اليمين إنما تنعقد باسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته، وعليه هذه الكفارة أخذا من قصة مارية -رضي الله عنها- التي تقدم ذكرها وقول الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] .

2 لأن لفظ التحريم ينصرف شرعا لإيجاب الكفارة.

3 لأنه كناية في ذلك.

4 لأنه كناية فيه إذ لا مجال للطلاق والظهار فيها.

5 فتلزمه الكفارة حيث لم ينو العتق لظاهر الآية التي مر ذكرها.

6 لأنه غير قادر على تحريمه بحلاف الزوجة والأمة، فإنه قادر على تحريمها بالطلاق والعتق.

(1/348)

وشرط نية الكناية اقترانها بكل اللفظ1، وقيل: يكفي بأوله2، وإشارة ناطق بطلاق لغو3، وقيل: كناية4، ويعتد بإشارة أخرس في المعقود والحلول5، فإن فهم طلاقه بها كل أحد فصريحه6، وإن اختص بفهمه فطنون فكناية7.

ولو كتب ناطق طلاقا، ولم ينوه فلغو8، وإن نواه فالأظهر وقوعه9، فإن كتب: إذا بلغك كتابي فأنت طالق، فإنما تطلق.

__________

1 لأن بعض اللفظ لا يصلح للطلاق فلم تعمل النية معه.

2 استصحابا لحكمها في باقية دون آخره، وقياسا على الصلاة إذا قارنت جزءًا منها. ورجح هذا الرافعي في الشرح الصغير، ونقل في الكبير ترجيحه عن إمام الحرمين وغيره وصوبه الزركشي. والذي رجحه ابن المقرئ كما في المغني 3/ 2784، قال: وهو المعتمد أنه يكفي اقترانها ببعض اللفظ سواء كان من أوله أو وسطه أو آخره، قال: لأن اليمين إنما تعتبر بتمامها.

3 لأن عدوله عن العبارة إلى الإشارة يفهم أنه غير قاصد للطلاق وإن قصده بها، فهي لا تقصد للإفهام إلا نادرًا، فلا يقع به الطلاق وإن نواه وأفهم بها كل أحد.

4 لحصول الإفهام بها في الجملة.

5 للضرورة؛ إذ لا طريق له إلى الطلاق إلا بالإشارة، وحاجته إلى الطلاق كحاجة غيره، فقامت الإشارة مقام العبارة.

6 تنزيلا لها منزلة الطلاق الصريح.

7 قياسا على لفظ الناطق.

8 لأن الكتابة تحتمل إيقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط، فلم يقع الطلاق بمجردها؛ إذ لا لفظ، ولا نية.

9 لأن الكتابة طريق في إفهام المراد كالعبارة.

(1/349)

بلوغه1، وإن كتب: إذا قرأت كتابي وهي قارئة فقرأته طلقت2، وإن قرئ عليها فلا في الأصلح3، وإن لم تكن قارئة فقرئ عليها طلقت4.

فصل:

له تفويض طلاقها إليها5، وهو تمليك في الجديد6، فيشترط لوقوعه تطليقها على الفور7، 8.

وإن قال: طلقي بألف، فطلقت بانت ولزمها ألف9، وفي قول:

...............................

__________

1 رعاية للشرط.

2 لوجود المعلق عليه.

3 لعدم قراءتهامع إمكانها.

4 لأن القراءة في حق الأمي محمولة على الاطلاع على ما في الكتاب وقد وجد.

5 لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير نساءه بين المقام معه وبين مقارقته لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28] ، كما قالت عائشة -رضي الله عنها: "خيرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئا" كما أخرجه البخاري في الطلاق، باب من خير نساءه برقم 5262، ومسلم في الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية رقم 28 "1477".

ونقلا في التحفة 8/ 23، والنهاية 7/ 428 الإجماع عليه.

6 خ أوس وط والمحلى: على فور.

7 لأن تطليقها نفسها متضمن للقبول.

8 لأن التمليك يقتضيه.

9 لأنه تمليك بالعوض كالبيع وإذا لم يكن عوض فهو كالهبة.

(1/350)

توكيل1، فلا يشترط فور في الأصح2، وفي اشتراط قبولها خلاف الوكيل3، وعلى القولين له الرجوع قبل تطليقها4.

ولو قال: إذا جاء رمضان فطلقي لغا على التمليك5، ولو قال: أبيني نفسك، فقالت: أبنت نويا وقع6 وإلا فلا7.

ولو قال: طلقي، فقالت أبنت ونوت، أو أبيني ونوى فقالت: طلقت وقع8.

ولو قال: طلقي ونوى ثلاثا فقالت: طلقت ونوتهن فثلاث9، وإلا فواحدة في الأصح10، ولو قال: ثلاث فوحدت أو عكسه فواحدة11.

__________

1 قياسا على ما لو فوض طلاقها لأجنبي.

2 كما في توكيل الأجنبي المتقدم في الوكالة.

3 ومر أنه لا يشترط على الأصح، بل يكفي عدم الرد. كما تقدم ص164.

4 لأن التمليك والتوكيل يجوز الرجوع فيهما قبل القبول والتصرف، ويريد والتوكيل بجواز الرجوع فيه بعد القبول أيضا لأنه عقد جائز.

5 وهو الأصح؛ لأنه لا يقبل التعليق، كما لو قال: إذا جاء رمضان فقد ملكتك هذا الشيء فإنه لا يصح.

6 لأن الكناية مع النية كالصريح.

7 لأنه إن لم ينو لم يفوض الطلاق، وإذا لم تنو هي ما امتثلت فكان كلام غير الناوي لغوًا.

8 لأنها أمرت بالطلاق وقد فعلته في الحالين، ولا يضر اختلاف لفظها، كما لو تبايعا بلفظ صريح من أحدهما وكناية مع النية من آخر.

9 لأن اللفظ يحتمل العدد وقد نوياه.

10 لأن صريح الطلاق كناية في العدد فاحتاج لنيته منهما.

11 لدخولها في الثلاث التي فوضها في الصورة الأولى، ولعدم الإذن في الزائد في الثانية.

(1/351)

كتاب الرجعة 1:

شرط المرتجع: أهلية النكاح بنفسه2، لو طلق فجن فللولي الرجعة على الصحيح حيث له ابتداء النكاح3، وتحصل براجعتك ورجعتك وارتجعتك4، والأصح أن الرد والإمساك صريحان5، وأن التزويج والنكاح كنايتان6، وليقل: رددتها إلي

__________

1 الأصل فيها قبل الإجماع قول الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] .

وقوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .

وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلق حفصة ثم راجعها.

أخرجه أبو داود في الطلاق باب في المراجعة برقم 2283، ابن ماجه في الطلاق في أوله برقم 2016، والحاكم في المستدرك 2/ 197، وصححه على شرط الشيخين وافقه الذهبي.

2 لأنها كإنشائه، فلا تصح من مكره، للحديث السابق 1/ 421: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولا من صغير ولا مجنون لأن عباراتهم غير معتبرة شرعا لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة ... " وقد تقدم 1/ 147، ولا مرتد؛ لأن مقصودها الحل والردة تنافيه.

3 بناء على الأصح في جواز التوكل في الرجعة.

4 لشيوعها وورودها، كذا ما اشتق منها.

5 لورودها في القرآن الكريم كما في الآيتين السابقتين.

6 لعدم شهرتهما في الرجعة.

(1/352)

أو إلى نكاحي1، والجديد أنه لا يشترط الإشهاد2، فتصح بكناية3، ولا تقبل تعليقا4، ولا تحصل بفعل كوطء5،

وتختص الرجعة بموطوءة6 طلقت بلا عوض7 لم يستوف عدد طلاقها8، باقية في العدة9، محل لحل10، لا مرتدة11.

__________

1 لأجل أن يكون صريحا؛ لأن الرد وحده يفهم منه في بادر الذهن عدم القبول وقد يفهم منه الرد إلى أهلها بسبب الفراق، فاشترط ذلك في صراحته.

2 لأنها في حكم استدامة النكاح، ومن ثم لم تحتج إلى ولي ولا رضا المرأة.

3 بناء على عدم اشتراط الشهادة وهو الأصح كما عملت، ولو قيل باشتراطها لما صحت بالكناية؛ لأنها تفتقر إلى نية، والشهود لا يطلعون عليها.

4 قياسا على النكاح.

5 لأن ذلك حرام بالطلاق، ومقصود الرجعة حلة فلا تحصل به.

6 لأن غير الموطوءة لا عدة عليها لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، والرجعة إنما تختص بالموطوءة لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] .

7 لأن المطلقة بعوض وهي المخالعة، قد ملكت نفسها به لما تقدم ص517، أنها إنما بذلت المال لتملك نفسها.

8 لأنه إذا استوفى عدد الطلاق فلا سبيل له عليها لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .

9 لأنها في العدة في حكم الزوجة فله أن يراجعها لقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] .

10 أي قابلة للحل للمراجع، فلو أسلمت الكافرة واستمر زوجها على كفره وراجعها فيه لم يصح؛ لأن الإسلام فرق بينهما.

11 لأن المرتدة لا تحل لأحد، ومقصود الرجعة الحل، والردة تنافيه كما تقدم ص457، 465

إذا ادعت انقضاء عدة أشهر وأنكر صدق بيمينه1، أو وضع حمل لمدة إمكان، وهي ممن تحيض لا آيسة فالأصح تصديقها بيمين2.

وإن ادعت ولادة تام فإمكانه ستة أشهر ولحظتان من وقت النكاح3، أو سقط مصور فمائة وعشرون يوما ولحظتان4، أو مضغة بلا صورة فثمانون يوما ولحظتان5، أو انقضاء أقراء، فإن كانت حرة وطلقت في طهر فأقل الإمكان اثنان وثلاثون يوما ولحظتان6، أو في

__________

1 لرجوع ذلك إلى الاختلاف في وقت طلاقه والقول قوله فيه.

2 لأن النساء مؤتمنات على أرحامهن كما قال الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [البقرة: 228] ، ولأن البينة على الولادة قد تتعسر أو تتعذر.

3 لقوله سبحانه وتعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، مع قوله جل شأنه: {فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ، والعامان أربعة وعشرون شهرًا، فبقي الثلاثين شهرًا ستة أشهر، هي فترة إمكان الحمل وزيد لحظتا الجماع والولادة.

4 لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه: أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكن مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا يؤمر بأربع كلمات ... " إلى أن قال: "ثم ينفخ فيه الروح ... " أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ذكر الملائكة برقم 3208، مسلم في القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه برقم 2643.

5 للحديث السابق.

6 وذلك بأن تطلق قبيل آخر طهرها فهذا قرء. ثم تحيض لأقل الحيض ثم تطهر الأقل كذلك، فهذا قرء ثان، ثم تحيض وتطهر كذلك فهذا ثالث ثم تطعن في الحيض ليتيقن الانقضاء، وليست هذه اللحظة التي طعنت بها في الحيض من العدة، بل لاستبانة القرء.

(1/354)

حيض فسبعة وأربعون ولحظة1، أو أمة، وطلقت في طهر فستة عشر يوما ولحظتان2، أو في3 حيض فأحد وثلاثون لحظة4، وتصدق إن لم تخالف عادة دائرة5، وكذا إن خالفت في الأصح6.

ولو وطئ رجعيتة واستأنفت الأقراء من وقت الوطء، راجع فيما كان بقي7، ويحرم الاستمتاع بها8، فإن وطئ فلا

__________

1 وذلك بأن يعلق الطلاق بآخر جزء من الحيض، ثم تطهر أقل الطهر ثم تحيض أقل الحيض، ثم تطهر وتحيض كذلك، ثم تطهر أقل الطهرثم تطعن في الحيض لحظة لاستبانة القرء كذلك.

2 وذلك بأن يطلق وقد بقي من الطهر لحظة، ثم تحيض أقل الحيض، وتطهر أقل الطهر، ثم تطعن في الحيض لحظة لاستبانة القرء الثاني، وهو تمام عدة الأمة.

3 أوط: أو حيض.

4 وذلك بأن يعلق الطلاق بآخر جزء من الحيض، ثم تطهر أقل الطهر وتحيض أقل الحيض، ثم تطهر أقل الطهر، ثم تطعن في الحيض لحظة.

5 لما مضى من قول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . ولأنه لا يعرف إلا من جهتها، فصدقت عند الإمكان، فإن كذبها الزوج حلفت، فإن نكلت حلف وثبتت له الرجعة.

6 لأن العادة قد تتغير، وهي مؤتمنة.

7 لأن الرجعة تختص بعدة الطلاق فلا يراجع فيما زاد عليها بالوطء.

8 لأنها مفارقة كالبائن، ولأن الاستمتاع لا يبيحه إلا النكاح فيحرمه الطلاق؛ لأنه ضده، وأما تسميته فعلا في الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فإنه لا يستلزم حلية الاستمتاع لأن المظاهر مثلا، وزوج المعتدة عن شبهة بعل كذلك، وهي لا تحل له.

(1/355)

حد1، ولا يعزز إلا معتقد تحريمه2، ويجب مهر مثل إن لم يراجع3، وكذا إن راجع على المذهب4.

ويصح إيلاء وظهار وطلاق ولعان5 ويتوارثان6.

وإذا ادعى والعدة منقضية رجعة فيها فأنكرت، فإن اتفقا على وقت الانقضاء كيوم الجمعة، وقال: راجعت يوم الخميس، فقالت: بل السبت صدقت بيمينها7.

أو على وقت الرجعة كيوم الجمعة وقالت: انقضت الخميس، وقال: السبت صدق بيمينه8.

__________

1 لشبهة اختلاف العلماء في حله، حصول الرجعة به كما هو مذهب الحنفية والمالكية، والحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي ص3/ 206.

2 لإقدامه على معصية في نظره.

3 لأنها في تحريم الوطء كالمتخلفة في الكفر فكذا في المهر، ولا يتكرر بتكرر الوطء، لاتحاد الشبهة.

4 لأن الرجعة لا ترفع أثر الطلاق.

5 لبقاء الولاية عليها بملك الرجعة.

6 لبقاء آثار الزوجية كذلك بدليل صحة ما ذكر، ولذلك نقل المحلى 4/ 6، عن الشافعي -رضي الله عنه- قوله: الرجعية زوجة في خمس آيات من كتاب الله تعالى، أي آيات المسائل المذكورة.

7 لأن الأصل عدم الرجعة إلى اليوم السبت.

8 لأن الأصل عدم انقضائها إلى يوم السبت.

(1/356)

وإن تنزاعا في السبق بلا اتفاق فالأصح ترجيح سبق الدعوى1، فإن ادعت الانقضاء ثم ادعى رجعة قبله صدقت بيمينها2، أو ادعاها قبل انقضاء فقالت: بعده، صدق3.

قلت: فإن ادعيا معا صدقت4، والله أعلم.

ومتى ادعاها والعدة باقية صدق5، ومتى أنكرتها وصدقت ثم اعترفت قبل اعترافها6.

وإذا طلق دون ثلاث، وقال: وطئت فلي رجعة وأنكرت صدقت بيمين7، وهو مقر لها بالمهر8، فإن قبضته فلا رجوع له9، وإلا فلا تطالبه إلا بنصف10.

__________

1 لاستقرار الحكم بقول السابق.

2 لأنها لما سبقت بادعائه، وجب أن تصدق لقبول قولها فيه من حيث هو، فوقع قوله لغوا.

3 لأنه لما سبق بادعائها، وجب تصديقه؛ لأنه يملكها فضمنت ظاهرًا، فوقع قولها بعد ذلك لغوًا.

4 لأن الانقضاء يتعسر الإشهاد عليه بخلاف الرجعة، فصدقت بيمينها.

5 لقدرته على إنشائها.

6 لأنها جحدت حقا لها ثم اعترفت به.

7 لأن الأصل عدم الوطء، فلا رجعة له ولا نفقة ولا سكن.

8 لإقراره بالوطء، وهي لا تقر إلا بنصفه لإنكارها الوطء، وقد قال الله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] .

9 لأنه مقر باستحقاقها لجميعه.

10 لإقرارها أنها لا تستحق غيره.الفهرس:
الموضوع الصفحة
1 التمهيد.
4 المرأة قبل الإسلام.
8 المرأة في ظل الإسلام.
12 الدراسة الموضوعية.
13 مقدمات النكاح المقدمة الأولى "الاختيار".
14 أهم الصفات التي تختار لأجلها المرأة.
25 مرحلة الاختيار.
25 المقدمة الثانية - الخطبة - تعريفها.
28 مشروعية الخطبة حكمها والحكمة من مشروعيتها.
29 شروطها.
36 وسائل التعرف على المخطوبة.
37 موضع النظر المسموح به شرعا ووقته وهل يكرر أو لا؟
46 حكم المضاجعة، المصافحة.
47 المعانقة والتقبيل.
49 الصفة الشرعية للخطبة، والعدول عنها.
52 ممن تخطب المراد خطبتها؟
54 عقد النكاح - الترغيب فيه.
55 تعريفه والحكمة من مشروعيته.
59 حكمه.
60 دليل مشروعيته.
61 موضوع النكاح الشرعي.
62 محل العقد.
63 تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية.
68 أركان النكاح: الركن الأول: الصيغة.
69 الألفاظ التي ينعقد بها النكاح.
69 انعقاد النكاح بغير العربية.
70 الإشارة إلى عقد النكاح.
70 شروط الصيغة.
(1/358)
الموضوع الصفحة
آداب عقد النكاح:
77 أ- الخطبة قبل العقد.
79 ب- الدعاء.
79 ج- إعلان الزواج وإشهاره.
80 د- أن ينوي الزوج بالنكاح إقامة السنة.
81 هـ- وصية الزوجة.
83 و الوليمة.
90 الركن الثاني: الزوج.
94 الركن الثالث: الزوجة.
95 المحرمات على التأبيد وأسبابها.
95 مانع النسب.
96 مانع الرضاع.
114 مانع المصاهرة.
121 الموانع المؤقتة.
121 مانع العدد.
124 مانع الجمع.
126 مانع الكفر.
130مانع الإحرام.
131 مانع العدة.
131 مانع التطليق ثلاث للمطلق.
132 مانع الزوجية.
133 الركن الرابع من أركان النكاح: الشاهدان.
136 الركن الخامس من أركان النكاح: الولي.
139 شروط الولي.
139 أسباب الولاية.
147 موانع الولاية.
152 انعدام الولاية.
152 تعدد الأولياء.
155 الإقرار بالنكاح.
156 الوكالة في النكاح.
(1/359)
الموضوع الصفحة
160 الكفاءة في النكاح.
165 الخيار في النكاح والرد بالعيب.
171 الإعفاف.
173 آثار عقد النكاح الصحيح.
173 أولا: حقوق الزوج على زوجته.
173 1- حقه في الاحتباس والطاعة.
175 2- حقه في التمكين والقرار في البيت.
176 3- ولاية التأديب.
178 4- تزين المرأة لزوجها.
179 التبرج.
182 سببه.
183 نتائجه.
189 علاجه.
190 ثانيا: حقوق الزوجة.
190 الحقوق المالية.
191 أ- المهر: تعريفه وحكمه في العقد.
192 دليل مشروعيته.
192 الحكمة من مشروعيته.
193 أسباب وجوبه.
193 ما يصلح أن يكون مهرًا.
193 أنواع المهر.
195 تنصيف المهر.
195 سقوط المهر كله.
197 المتعة وأحكامها.
198 الاختلاف في الصداق.
199 قبض المهر.
200 المهر جهاز المرأة.
202 ب- النفقة تعريفها وسبب وجوبها ودليله.
204 الحكمة من مشروعيتها.
205 شروط وجوب النفقة.
206 تقدير النفقة.
(1/360)
الموضوع الصفحة
207 الإعسار بالنفقة.
207 الإبرار في دين النفقة.
208 الحقوق غير المالية الواجبة للزوجة على زوجها.
208 1- حسن المعاشرة.
208 2- العدل.
217 الحقوق المشتركة بين الزوجين.
218 الطلاق تعريفه دليل مشروعيته والحكمة من مشروعيته وحكمه.
220 أركان الطلاق.
220 الحكمة من جعل الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة.
221 شروط وقوع الطلاق.
221 تقسيمات الطلاق.
221 تقسيم الطلاق باعتبار اللفظ.
222 أقسامه باعتبار السنة والبدعة.
222 أقسامه باعتبار العدد.
223 الفرق بين البينونة الصغرى وبين البينونة الكبرى.
223 الفرق بين الطلاق الرجعي والبائن.
224 الفرق بين الطلاق والتطليق.
224 حكم الطلاق المعلق على شرط.
225 الشك في الطلاق.
225 الإشهاد على الطلاق والرجعة.
226التفويض بالطلاق.
228 فسخ النكاح أسبابه.
229 الفرق بين فرقة الطلاق وفرقة الفسخ.
230 واجبات الزوجة المعتدة.
232 بيان من تجب لها نفقة العدة ومن لا تجب.
233 نفقة العدة وسبب وجوبها وشروطها.
234 متى تكون نفقة العدة دينا على الزوج؟
235 الرجعة تعريفها ومشروعيتها وشروطها.
236 هل يشترط في الرجعة رضا الزوجة؟
236 بم تكون الرجعة؟
(1/361)
الموضوع الصفحة
237 ما أقل مدة يمكن فيها تصديق المرأة بأن عدتها قد انقضت؟
238 الخلاف في الرجعة.
240 الخلع: تمهيد.
241 تعريفه ومشروعيته وصفته.
242 أركان الخلع.
244 آثار الخلع.
244 المقارنة بين الخلع وبين الطلاق على مال.
245 التوكيل في الخلع.
245 اختلاف الزوجين في الخلع.
246 هل الخلع فسخ أم طلاق.
248 العدة معناها.
248 هل على الزوج عدة؟
249 حكمة مشروعية العدة.
250 أسباب العدة.
251 بيان من تجب عليها العدة من النساء ومن لا تجب.
252 متى تبدأ العدة.
252 أنواع المعتدات.
253 انتقال العدة من نوع إلى نوع.
255 عدة المختلعة من زوجها.
256 الإيلاء تعريفه ومشروعيته وأركانه.
257 الألفاظ المستخدمة في الإيلاء.
259 الآثار المترتبة على الإيلاء.
261 طلاق الحاكم والزوج معا.
اجتماع الطلاق والإيلاء.
262 اجتماع الإيلاء مع الظهار.
اجتماع الإيلاء مع الخلع.
263 الاختلاف في الإيلاء.
264 الظهار تعريفه.
266 الفرق بين الظهار والطلاق.
267 الآثار الشرعية المترتبة على الظهار.
269 إتباع الظهار بالطلاق.
(1/362)
الموضوع الصفحة
269 إتباع الظهار باللعان.
270 كفارة الظهار.
اللعان تعريفه ومشروعيته.
273 سببه.
أركانه.
273 لغة اللعان.
274 كيفية اللعان.
275 شروط اللعان.
276 لعان الأخرى.
276 الأحكام المترتبة على اللعان.
278 دور القاضي في اللعان.
مندوبان اللعان.
279 تغليظ اللعان زمانا ومكانا.
هل اللعان أيمان أم شهادات.
280 باب الفرائض والمواريث.
التعريف بالفرائض.
مصادر أحكام الميراث.
281 الحث على تعلم علم الفرائض.
موضوعه.
ثمرته.
282 حكم دراسته.
الميراث عند العرب في الجاهلية.
285 نظام الإرث في صدر الإسلام.
الحكمة من جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى.
287 التركة والحقوق المتعلقة بها.
أركان الإرث.
288 تعريف الإرث وأركانه وشروطه.
289 أسباب الإرث.
290 موانع الإرث.
292 توريث المطلقة.
293 الوارثون من الرجال.
(1/363)
الموضوع الصفحة
293 الوارثات من النساء.
294 أنواع الإرث.
294 أصحاب النصف.
296 أصحاب الربع.
297 أصحاب الثمنين.
298 أصحاب الثلثين.
299 الغرواتان.
300 أصحاب السدس.
301 ما يخالف فيه الإخوة لأم غيرهم من الورثة.
301 ما يستحقه كل صاحب فرض تفصيلا.
311 الإرث بالتعصب.
3216 الحجب.
321 الحساب وأصول المسائل.
324 العول.
330 الرد.
334 معرفة تقسيم التركة.
346 ميراث الحمل.
340 المناسخات.
342 التخارج من التركة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق