يرامج مجانية

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني /.الجنى الداني من دوحة الألباني /الـذاكـر /القرآن الكريم مع الترجمة /القرآن الكريم مع التفسير/القرآن الكريم مع التلاوة /المكتبة اللغوية الإلكترونية /الموسوعة الحديثية المصغرة./برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم /برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر /برنامج مكتبة السنة /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية /اللإمام اللكنوى /خلفيات إسلامية رائعة/ /مجموع فتاوى ابن تيمية /مكتبة الإمام ابن الجوزي /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي /مكتبة الإمام ابن كثير /مكتبة الإمام الذهبي /مكتبة الإمام السيوطي /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي /موسوعة أصول الفقه /.موسوعة التاريخ الإسلامي /موسوعة الحديث النبوي الشريف /موسوعة السيرة النبوية /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية /موسوعة توحيد رب العبيد /موسوعة رواة الحديث /موسوعة شروح الحديث /موسوعة علوم الحديث /موسوعة علوم القرآن /موسوعة علوم اللغة /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القـم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 يونيو 2023

25.فقه النكاح والفرائض



 

 

 

كتاب 11.فقه النكاح والفرائض

المؤلف: محمد عبد اللطيف قنديل

المقدمة:{ التمهيد:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنعم علينا بنعمة الإيمان الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وصار على نهجه بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛

فإن الشريعة الإسلامية قد امتازت عن الشرائع السماوية السابقة لكونها أوفى الشرائع بتحقيق مصالح العباد وإسعادهم، وقد جعلها الحق -سبحانه وتعالى- خاتمة الشرائع لما اشتملت عليه من مروه ويسر، وبما تضمنته من قواعد كلية ومبادئ عامة تتفق مع طبائع البشر في كل بيئة وعصر، فقد رفعت الأغلال عن كاهل العباد وكونت منهم أمة سجل التاريخ لها آيات مشرقة وصحائف خالدة، وقضت بتعاليمها الربانية السمحة على كل ما كان يعانيه العالم من ظلم وذل وإرهاق فأخرجت الناس من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، وهدت العباد إلى طريق الله المستقيم.

لذا كان لزاما على علماء هذه الأمة الذين هم ورثة الأنبياء أن يبينوا دقائق هذه الشريعة الغراء وأصولها للناس في كل مناحي الحياة.

ونظرا لأن الزواج معنى جُبل عليه الإنسان لتكوين الأسر التي هي لبنة من لبنات المجتمع، وهذا أمر دعت إليه جميع الشرائع والأديان لما يترتب عليه من المحافظة على الأعراض والأنساب.

لذا كان هذا العقد من أهم العقود خطرا وأرفعها قدرا لأنه به يجمع الشمل ويتم الشوق وتتكون الأسرة التي هي نواة المجتمع الإنساني ويتم الترابط بين الأسر، ومن ثم فإنه يشترط فيه ما لا يشترط في غيره من اشتراط الولي والإشهاد والإعلان بين الناس حيث يقول -صلى الله عليه وسلم: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح، خاطب، وولي، وشاهدي عدل".

ويقول أيضا: "أعلنوا النكاح ولو بالدف".

فالشارع الحكيم إحطاط لهذا العقد ما لم يحطاط لغيره من سائر العقود، فمن أجل ذلك أبيح فيه الضرب بالدف وإظهار معالم البشر والسرور في جو إسلامي كله طهر وبهجة وعفاف.

وإنني بتوفيق من المولى -جل جلاله- في هذه المحاضرات سأتناول الحديث عن النكاح، والطلاق، والخلع، والرجعة، والعدة، والإيلاء، والظهار، والكفارة، واللعان، والفرائض.

وحيث إن الدراسة معظمها إن لم تكن كلها من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة فإنني سأقدم لهذه الدراسة بذكر حال المرأة قبل الإسلام وبعده بإيجاز أملا في أن تعود المرأة المسلمة إلى التمسك بمبادئ دينها ولتعلم أن الإسلام كرمها في جميع مناحي حياتها، ليكون علمها بذل حجة عليها أمام الله -عز وجل- مستعينا بالله وحده راجيا منه العون والتوفيق، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه فإن أصبت الهدف المنشود فبتوفيق المولى -جلال جلاله- وإن كانت الأخرى فمن نفسي والشيطان.

"وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"

دكتور:

محمد عبد اللطيف محمد قنديل

مدرس الفقه الشافعي بقسم الفقه العام

كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات بالإسكندرية

جامعة الأزهر

المرأة قبل الإسلام:

إننا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى صفحات التاريخ في حال المرأة قبل الإسلام فإننا نجد أن الملل القديمة كانت تنظر إلى المرأة نظرة كلها تحقير وإهانة مما لا يتفق مع آدميتها كإنسانه، بل كانت تعاملها بأبشع أنواع الظلم وتسومها سوء العذاب وتدفع بها نحو الهواية والذل والهوان وإليكم توضيح ذلك.

المرأة عن اليونان:

كان اليونانيون ينظرون إلى المرأة على أنها إنسانة حقيرة مسلوبة الحرية لا حقوق ولا أهلية لها تباع وتشترى في الأسواق، مما أدى إلى انتشار دور البغاء فتبوأ العاهرات والمومسات مكانة عالية، وشاعت الفاحشة بين الرجال والنساء حتى أصبح الزنا أمرا مألوفا غير منكر، وليس ذلك فحسب، بل انتشر بينهم اللواط بين الرجال والشباب انتشار السم في الدم.

ونتيجة لهذا الانحطاط الأخلاقي انهارت هذه الإمبراطورية وكأنها لم تكن شيئا يذكر.

وصدق الله العظيم حيث قال في محكم التنزيل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} 1.

__________

1 الآية 102 من سورة هود.

المرأة عن الرومان:

كان الرومان ينظرون إلى المرأة على أنها شيطانة وأنها رجس لا سلطان لها على أنوثتها يجب ألا تأكل اللحم ولا تتكلم ولا تضحك، وكان للرجل الحق الكامل في أن يتصرف في أبنائه وزوجته كيفما يشاء يبيع من يشاء ويقتل منهم من يشاء لا سلطان عليه ويدخل على أسرته من يشاء ويطرد من أبناءه من يشاء أو يعذبهم فاستشرى الفساد، وانشرت بيوت الدعارة وراجت تجارة الخمور.

فكانت النتيجة أن تمزقت هذه الدولة شر ممزق وانهارت شر انهيار.

المرأة عند الإغريق:

كانت المرأة عندهم تعد مخلوقا حقيرا لا تصلح لغير النسل وخدمة المنزل، وإذا كانت ولودا استعيرت من زوجها لتلد للوطن أولاد من رجل آخر.

المرأة عند الهنود:

جاء في شريعة "مانو" الهندية أن الوباء والموت والسم والأفاعي كل ذلك خير من المرأة، ويجب أن تكون المرأة في طفولتها لأبيها وفي شبابها لزوجها، وفي تأيمها لأبنائها، وفي ثكلها لأقرباء بعلها ولا يجوز ترك أمرها لها.

وفيها أيضا أن المرأة إذا خلت برجل مدة تكفي لإنتاج بيضة يجب عليها أن تقوم بحرق جسدها على مقربة من جسد زوجها المحروق أو يحكمون عليها بالموت.

المرأة عن اليهود:

يعتبر اليهود المرأة لعنة فهي التي أغوت آدم حتى أكل من الشجرة فطرد بسبب ذلك من الجنة، لذلك فهي مجرد خادمة ليس لها حقوق أو أهلية، وكانوا لا يورثونها، وإذا حاضت فإنها تكون نجسة، وكل ما تلمسه بيدها ينجس بنجاستها، بل كان بعضهم يطردها من البيت فإذا ما طهرت من حيضها رجعت إلى بيتها.

المرأة عن النصارى:

يرى النصارى أن المرأة باب الشيطان، ناقضة لقانون الله مشوهة لصورة الله "الرجل" فهي مخلوق نجس يحرم عليها قراءة كتاب العهد الجديد خلقت لخدمة الرجل.

المرأة عن الفارسيين:

كانت المرأة عند أهل فارس في انحطاط وذلة، فهي سبب هيجان الشرور التي توجب العذاب والسخط لدى الآلهة، ولهذا يبيحون عليها أن تعيش تحت أنواع الظلم، وكانت المرأة في مذهب فارس تحت سلطة الزوج من حقه أن يتصرف فيها كما يتصرف في ماله ومتاعه.

وكان له أن يحكم بقتلها، مع أن تعدد الزوجات أيضا كان شائعا عندهم بدون شرط أو تحديد.

المرأة في جاهلية العرب:

كان العرب في الجاهلية يعتبرون المرأة جزءًا من الثروة، ولهذا فإن الأرملة كانت تعد ميراثا لابن المورث، وكان تعدد الزوجات شائعا في جميع القبائل العربية بدون شرط أو تحديد.

وليس ذلك فحسب بل كانت معظم القبائل العربية يظلمون المرأة ظلما أبشع مما تعرضت له المرأة عند غيرهم فكانوا يؤدون البنات وهن أحياء مخافة العار أو الفقر يذكرنا القرآن الكريم بهذا الظلم الشنيع للمرأة فيقول: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1.

ومن المؤلم أنه لم يفعل ذلك الرجل منهم فحسب، بل كانت المرأة منهم عندما يحين وقت وضعها تجلس على شفا حفرة وتضع مولودها على رأس هذه الحفرة فإن كان المولود أنثى رمت بها في الحفرة وردت عليها التراب، وإن كان المولود غلاما أبقت عليه.

ولم يكن ظلم العرب الجاهليين للمرأة يقف عند وأدها فحسب بل كانت كل جوانب حياة المرأة كلها ظلم.

__________

1 الآيتان 58، 59 من سورة النحل.

المرأة في ظل الإسلام:

عندما أشرق نور الإسلام على الوجود، كان العالم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول:

قسم متحضر كالإمبراطورية الرومانية والفارسية وشعوب مصر والهند والحبشة والصين.

وكانت المرأة عند هذه الشعوب كالأسير ليست لها حرية الإرادة محرومة من جميع الحقوق على النحو الذي ذكرناه بالتفصيل السابق.

القسم الثاني:

قسم مختلف كالقبائل في إفريقيا وبقية الأقطار في البلدان المختلفة حضاريا والعرب في الجزيرة العربية، فالمرأة عند هذه الشعوب لا تعتبر إنسانا بل هي متطفلة على المجتمع وتعامل كما تتعامل الحيوانات الأهلية التي يستخدمونها وفي أوقات المجاعة كان يصنع من جسدها ولائم دسمة يتغذون بها، ويؤدها العرب حية مخافة العار والفقر.

إلى أن أشرق الإسلام بنوره فكرَّم المرأة جنينا وكرَّمها طفلة كرَّمها زوجة وكرَّمها أما بعد أن كانت سلعة لا قيمة لها في هذا الكون على مر العصور والأزمنة.

فما أكثر الآيات القرآنية التي يقرن فيها ذكر الرجل بذكر المرأة منها قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1.

__________

1 من الآية 1 من سورة النساء.

ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 1.

وهذا هو الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما يرويه أبو داود والترمذي وأحمد من حديث عائشة -رضي الله عنهما: "إنما النساء شقائق الرجال".

ويوصينا بالنساء خيرا فيقول في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: "استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا".

والفضل ما شهدت به الأعداء، يقول المستشرق: آندريه سرفيه في كتابه عن الإسلام ونفسية المسلمين: من أراد أن يتحقق من عناية محمد -صلى الله عليه سلم- فليقرأ خطبته في مكة التي أوصى فيها بالنساء.

والتي يقول فيها: "أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن ألا يُوطِئنَ فُرشَكم أحد تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان لكم لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،

__________

1 الآية 32 من سور النحل.

فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنة رسوله".

لقد احترم الإسلام آدمية المرأة فقرر المساواة التامة بينها وبين الرجل في الإنسانية والنسب البشري، وجعلها تتمتع بجميع حقوقها من الإرث وجميع العقد المالية من بيع وخلافه وليس لأحد أن يمنعها من ذلك، ثم احترم الإسلام رأيها واستمع إليها وجعلها تعبر عن رأيها وكل ما تريد بصدق وصراحة وتدافع عن جميع حقوقها المشروعة وأعطاها حرية الكلام وإبداع الرأي والاستجابة إليها مما يطول المقام لذكره مع أدلته.

ومع هذا التكريم الإلهي للمرأة في ظل الإسلام فإننا نرى ونسمع بكل وقاحة الدعاوى المعاصرة التي ينادي بها أعداء الإسلام وأعداء المرأة والمجتمع من أهل الشر والفساد يوجهون مطاعنهم للإسلام من خلال خمسة مطاعن كلها تخص المرأة "الحجاب، وتعدد الزوجات، الطلاق، وتنصيف الإرث، وتنصيف الشهادة".

وهذا كله من مكر الماسونية اليهودية التي نجحت في القضاء على المرأة الأوروبية، وهي اليوم تتجه إلى المرأة في العالم الإسلامي، ولقد نجحت بعض الشيء بواسطة المستعمر الخبيث وبواسطة جمعيات النهضة النسائية التي تعمل بشعار الماسونية وتسير في ركابها وتنفذ أوامرها تارة باسم المساواة البريئة، وتارة باسم التقدم وركب الحضارة، وتارة باسم السياسة وهكذا تُسير الماسونية جمعيات النهضة النسائية في العالم الإسلامي.

(1/10)

ولكنهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1.

ولكنهم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

فأحذري أختي المسلمة فأنت المستهدفة أولًا وآخرًا وتمسكي بتعاليم دينك، وإياك ثم إياك ثم إياك أن تنخدعي يوما ما ويجرفك تيار ما يسمونه بالتحضر، وليس هو بتحضر، بل هو الفساد الأخلاقي الذي ينذر بعقاب الله -عز وجل- نسأل الله العظيم أن يحفظ علينا ديننا وأن يحفظنا من شر أعدائنا وأن يجعل كيدهم في نحورهم.

إنه نعم المولى نعم النصير

(1/11)

مقدمات النكاح

المقدمة الأولى: الاختيار

...

مقدمات النكاح:

لعقد النكاح مقدمتان:

المقدمة الأولى: الاختيار

الاختيار: خار يخير صار ذا خير، وخار الله لك من الأمر: جعل الله لك فيه الخير، وأنت بالخيار: أي اختر ما شئت، والاختيار: طلب الخير يقول المولى -جل جلاله:

{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 1.

في هذه الآية الكريمة يخبرنا ربنا -عز وجل- بأن الزجة سكن لزوجها، وحرث له، كما قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} 2.

وشريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده، ومهوى فؤاده وموضع سره ونجواه، وهي أهم ركن من أركان الأسرة؛ لأنها المنجبة للأولاد، ويرث عنها أولادها الكثير من المزايا والصفات، وفي أحضانها يجد أولادها عواطف الأمومة، وتتربى ملكاتهم، ويكتسبون الكثير من العادات والتقاليد، ويعرفون أمور دينهم، لذلك وغيره حث الإسلام الرجل عند اختيار شريكة حياته أن يتحرى الدقة عند اختيارها وفقا لما حث عليه الإسلام.

__________

1 الآية 2 من سورة الروم.

2 الآية 233 من سورة البقرة.

(1/13)

وأهم الصفات التي تختار الزوجة لأجلها أهمها:

1- أن تكون ذات دين وخلق فاضل نظرًا لأن عقد النكاح عقد يدوم العمر كله فإن الشارع الحكيم جعل له مقدمات وجه إلى الاختيار وجعله مرحلة تسبق الخطبة والعقد حيث يقول -صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم".

وفَصَّلَ -صلى الله عليه وسلم- ما يدور بنفس كل من ينشد شريكة حياته فقال: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فأظفر بذات الدين تربت يداك" وللعلماء في المعنى المراد من قوله -صلى الله عليه وسلم: "ترتب يداك" تأويلات ثلاثة:

أحدها: أن تربت بمعنى استغنت فتكن دعاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يتمثل أمره، وإن كان معناها لغة "افتقرت" فتصير من أسماء الأضداد.

الثاني: أن معناه تربت يدالك إن لم تظفر بذات الدين؛ لأن من لم يظفر بذات الدين سلبت منه البركة فافتقرت يداه.

الثالث: أنها كلمة تخف على ألسنة العرب في خواتيم الكلام، ولا يريدون بها دعاء ولا ذما فيقولون: ما أشعره قاتله الله، وما رماه شلت يداه ففي هذا الحديث النبوي الشريف بين النبي -صلى الله عليه وسلم- الرغبة التي تدور في نفس كل باحث عن الزواج فبين أن من الناس من يرغب في ذات المال وليستفيد بمالها، ومنهم من يؤثر ذات الحسب

(1/14)

ليشرف بمصاهرة أهلها، ومنهم من يؤثر الجمال لتمتلأ نفسه بهجة وسرور إذا نظر إليها، ومنهم من يفضل ذات الدين والخلق.

ورسولنا -صلوات ربي وسلامه عليه- يحث راغبي الزواج على اختيار ذات الدين والخلق الفاضل، وواضح أنه ليس معنى الظفر بذات الدين قصر الاختيار عليه والعدول عما سواه من الصفات الأخرى، وإنما القصد اعتبار الدين أساسا في الاختيار، ولا يمنع هذا من التطلع بعد ذلك إلى شيء من الاعتبارات الأخرى.

أما إذا كان اختيار من يرغب في الزواج الجمال وحده فذلك أمر لا يحقق الحياة الزوجية السعيدة؛ لأن الجمال كثيرا ما يولد الغيرة والشك، فضلا عن أنه عرضة للزوال فتزول الرغبة بزواله وتغيره.

كما أن اعتبار المال وحده أساس للاختيار أو الحسب كذلك لا تتحقق معهما الحياة الزوجية المنشودة ويُعَرِض الزوجة للتعالي على زوجها والطغيان فتفسد بينهما الحياة الزوجية وإلى هذا المعنى ينبهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يُرْدِيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تُطْغيهن، ولكن تزوجهن على الدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل".

فأفضل كنز يحصل عليه الرجل في حياته هو المرأة الصالحة ذات الدين يقول -صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته".

(1/15)

فهذا دليل على اختيار صاحبة الدين؛ لأن ذلك عامل رئيسي في إسعاد الحياة الزوجية ليتحقق بذلك السكن والمودة والرحمة من منطلق قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 1.

وعلى العكس من ذلك إذا لم يكن كل من الزوجين على جانب كبير من الخلق والدين فإن ذلك يعرض الحياة الزوجية للتقوض والانهدام.

فليكن الأساس الأول للاختيار عند الزواج هو الدين؛ لأن ذلك يحقق للرجل هدفين عظيمين:

أولهما: إسعاد الرجل.

ثانيهما: تنشئة الأولاد نشأة صالحة تتميز بالاستقامة وحسن الخلق لذا قال -صلى الله عليه سلم: "تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم".

2- أن تكون بكرًا:

بكارة الجارية عذرتها، وأصله من ابتكار الفاكهة وهو أكل باكروتها ومنه: ابتكر الخطبة: أدرك أولها، وبكَّر بالصلاة صلاها في أول وقتها، والبكر: بفتح الباء الفتي القوي من الإبل، والباكورة أول الفاكهة.

والبِكْرُ: هي العذارء الباقية على حالها الأول لم تفض بكارتها أو التي زالت عذرتها بغير وطء كإصبع أو زيادة طمث أو النزول من أعلى إلى أسفل.

__________

1 من الآية 21 من سورة الروم.

(1/16)

ويستدل على اختيار البكر بما رواه جابر في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه سلم- أنه قال له: "هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك".

وقوله -صلى الله عليه سلم: "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير".

وفي رواية أخرى: "عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواها وأضيق أرحامًا وأرضى باليسير من الجماع".

وقوله -صلى الله عليه سلم: "أنتق أرحاما" أي أكثر أولادًا يقال للمرأة كثيرة الأولاد ناتق.

وفي الحرص على الزواج بالمرأة البكر ثلاث فوائد:

الفائدة الأولى: أنها تحب زوجها الأول وتألفه؛ لأن النفس البشرية مجبولة على الأنس بأول مألوف، بخلاف المرأة التي مارست الرجال وسبق لها الزواج فربما لا ترضى ببعض الأوصاف في زوجها الثاني والتي تخالف ما ألفته في زوجه الأول فيؤدي إلى أن تكره الزوج الثاني.

الفائدة الثانية: أن البكر تكون كاملة التودد لزوجها.

الفائدة الثالثة: أن البكر لا تحن إلا للزوج الأول:

وفي ذلك يقول الشاعر:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل

(1/17)

إلا إذا كان هناك ما يدعو الرجل إلى نكاح الثيب كأن كانت له زوجة وفارقها بالموت أو الطلاق وتركت له أبناء يحتاجون إلى من تتولى تربيتهم فالثيب أفضل قال جابر -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: هلك أبي وترك سبع بنات، أو تسع بنات فكرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت ثيبا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك".

ووجه الدلالة: هو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما علم حاجة جابر إلى نكاح الثيب لتقوم على تربية أخواته أقره على ذلك ودعا له بالبركة.

3- أن تكون جميلة:

أي باعتبار الطبع فيما يظهر ولو سوداء مثلا؛ لأن من مقاصد النكاح العفة وهي لا تحصل إلا بجمال حسب طبعه ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك".

ولكن يكره اختيار بارعة الجمال؛ لأنها إما أن تزهو أي تتكبر بجمالها أو تمتد الأعين إليها.

والمراد بالجمال: الوصف القائم بالذات المستحسن لذوي الطباع السليمة.

وقال الأصمعي: الحسن في العينين، والجمال في الأنف والخد، والملاحة في الفم.

وهذا هو الفرق بين الحسن، والجمال، والملاحة.

(1/18)

وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجال عند اختيارهم أن تكون المرأة المختارة جميلة حيث قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "تنكح المرأة لأربع" ومن بينها "الجمال" ولا يتعارض هذا مع ما أخرجه ابن ماجه والبزار والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يُرْدِهن، ولا لمالهن فلعله يُطغهن، وانكحوا للدين".

وذلك لأن الحديث المتفق عليه والذي يرغب في صفة الجمال عند اختيار شريكة الحياة القصد منه الإخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يفعله الناس في العادة أنهم يرغبون في هذه الخصال الأربع وآخرها ذات الدين.

أما الحديث الثاني والذي ظاهره النهي عن اختيار ذات الجمال والمال ذلك؛ لأن كلا منهما عرضة للزوال فلا معنى لإيثار شيء من ذلك على الدين والخلق.

4- ألا تكون صاحبة ولد من زوج سابق:

لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لزيد بن حارثة: "لا تتزوج خمسًا: شَهْبَرة وهي الطويلة المهزولة، ولا لَهْبَرة وهي الزرقاء البذية، ولا نَهْبَرة وهو العجوز المدبرة، ولا هَنْدَرة وهي القصيرة الدميمة،

(1/19)

ولا لفوتا وهي ذات الولد من غيرك".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "الزرقاء" أي في العين.

"البذية": أي في اللسان.

وقد قيل: النساء ثلاثة؛ واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك.

أما التي لك فهي البكر، وأما التي عليك فهي الثيب التي لها ولد من غيرك، وأما التي لا لك ولا عليك فهي الثيب التي ليس لها ولد من غيرك.

وقال بعض العلماء يكره نكاح خمسة:

أنانة: أي كثيرة الأنين والتشكي وتعصب رأسها كل ساعة فنكاح المريضة والمتمرضة لا خير فيه.

وحنانة: وهي التي تحن إلى زوج آخر كل ساعة.

وحداقة: وهي التي ترمي بعينها إلى كل شيء تكلف زوجها شراءه.

وبراقة: وهيا التي تعمل على تجميل وجهها وتزينه، وقيل: هي التي تغضب على الطعام ولا تأكل إلا وحدها تشتغل بنفسها في كل شيء.

والشداقة: وهي التي تتشدق كثيرا بالكلام.

5- ألا تكون أعلى منه قدرًا ونسبًا ومالًا وجاهًا ولا أصغر منه سنا.

لأن ذلك كله يؤدي إلى ترافعها عليه وعدم احترامه وربما يؤدي ذلك إلى النشوز والمخالفة والهجر في المضجع وعدم تمكينه من المباشرة فيؤدي كل ذلك إلى قطع العشرة.

(1/20)

فالأولى أن يختار الرجل إما من هي مثلة في المنزلة، أو من هي دونه فيها ليعظم قدره عندها وليحقق معها القوامة التي عبر عنها القرآن الكريم حيث يقول ربنا -جل جلاله- {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 1.

6- ألا يكون في حلها خلاف:

ينبغي على الرجل عند اختيار شريكه حياته أن يختار التي تحل له قولا واحدا ويبتعد عن اختيار المختلف في حلها كالتي زنى هو بها أو تمتع بأمها، أو التي زنى بها أصله أو فرعه، أو التي شك في تحريمها عليه بسبب الرضاع المحرم.

7- أن تكون ولودا ودودا:

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الولود الودود".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "سوداء ولود خير من حسناء عقيم".

وتعرف البكر بأقاربها من النساء، والودود التي تتودد لزوجها بحبها له بسبب ما تتصف به من صفات حميدة.

8- ألا يكن لها مطلق يرغب في نكاحها:

لأن ذلك يؤدي في الغالب إلى إفساد العلاقة الزوجية بينها وبين الزوج الثاني لها بسبب رغبتها وحنينها إلى الزوج الأول.

9- أن تكون خفيفة المهر:

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة".

__________

1 من الآية 34 من سورة النساء.

(1/21)

قال عروة: أول شؤم المرأة أن يكثر صداقها.

10- ألا تكون ذات قرابة قريبة:

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "ولا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاويًا" أي نحيفا. وذلك لضعف الشهوة وقال ابن الصلاح: لم أجد لهذا الحديث أصلا معتمدا، فينبغي ألا يكون لهذه الصفة أثر عند الاختيار لعدم وجود دليل يعتمد عليه، بل الثابت خلافه لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تزوج بزينب بنت جحش -رضي الله عنهما- وهي بنت عمته، وزوج ابنته فاطمة -رضي الله عنها- لعلي بن أبي طالب وهو ابن عمه.

ومن ثم فلا أرى بأسا من زواج القريبة، وإن كان الطب الحديث أثبت أن هناك عوامل وراثية بين الزوجين القريبين تؤدي أحيانا إلى حدوث تشوهات خلقية لأبنائهما، ولكنه في نفس الوقت قد توصل بفضل الله -عز وجل- ثم بفضل الاختراعات العلمية الحديثة إلى الوسائل العلاجية قبل الزواج إلى التغلب على هذه الظاهرة التي قد يصاب بها الجنين الناتج عن زواج الأقارب.

ثم قال الخطيب الشربيني -يرحمه الله- بعد أن أورد هذه الصفات التي تختار على أساسها المرأة عند الاقتران بها، وهذه الصفات كلها قل أن يجدها الشخص في نساء الدنيا، وإنما توجد في نساء الجنان فنسأل الله تعالى ألا يحرمنا منهن". ا. هـ.

(1/22)

والاختيار كما يتحقق من جانب الرجل على ما جرى عليه العرف والعادة بصفته الطالب والمرأة المطلوبة.

فإنه -أي الاختيار- يتحقق كذلك من جانب المرأة، إما بنفسها أو بوليها، وأساس الاختيار واحد، فإنه ينبغي أن تختار المرأة الزوج الصالح الذي تأمن معه على نفسه ومالها وعرضها وتسعد بحياة زوجية مستقرة في كنف زوجها دون أن تجري وراء المظاهر الخادعة والنزعات الطائشة فإذا جعلت المرأة اختيار شريك حياتها أساسه الجاه والثراء دون اكتراث بما رواء ذلك، فإن هذا الاختيار غالبا ما يعرضها للهزات العنيفة ويجعل حياتها الزوجية مع هذا الزوج غير مستقرة ولا مستديمة.

ومن ثم كان لزاما عليها عند اختيارها للزوج المنشود أن يكون ذلك الزوج في المقام الأول صاحب خلق ودين ثم الاعتبارات الأخرى مطلوبة في الزوج ولكن في المرتبة التالية لذلك.

فلتنظر إلى المقارنة البلاغية اللطيفة في قوله -عز من قائل- {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} 1.

فهذه المقابلة الرائعة تبين لنا بيانا لا شك فيه بأنه يجب على كل من الزوجين أن يختار لنفسه من يناسبه حتى يتم الأنس والوئام والمنشود في الحياة الزوجية الصالحة، لو كان الاختيار من جانب الزوج فقط لاكتفى القرآن الكريم بقوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} .

__________

1 من الآية 26 من سورة النور.

(1/23)

من غير احتياج إلى إيراد العبارة الثانية {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} فالرجل يسعد في حياته وتسعد معه المرأة إذا كان كل منهما على خلق ودين، وإلى هذا المعنى يقول ربنا حل جلاله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} 1.

كما أن نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلفه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير".

وكما قيل: إن صاحب الدين إذا أحب أكرم وإذا كره لم يظلم.

فعلى الولي أن يختار لمن له عليها ولاية صاحب الدين والخلق والشرف؛ لأنه إن عاشرها عاشرها بالمعروف، وإن فارقها فارقها بإحسان.

ورحم الله تعالى الإمام الجليل أبا حامد الغزالي الذي قال في الإحياء: والاحتياط في حقها أهم؛ لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال، فمن زوج ابنته ظالمًا أو فاسقًا أو مبتدعًا أو شارب خمر فقد جنى على دينه وتعرض لسخط الله تعالى لما قطع من الرحم وسوء الاختيار.

قال رجل للحسن بن علي -رضي الله عنهما: إن لي بنتا فمن ترى أن أزوجها له؟ فقال له الحسن -رضي الله عنه: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.

__________

1 من الآية 32 من سورة النور.

(1/24)

وقالت عائشة -رضي الله عنها- النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته.

كما يقول -صلى الله عليه وسلم: "من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها".

مرحلة الاختيار:

هذا الاختيار الذي حث عليه الإسلام الجانبين راغبي الزواج أو أحدهما أشبه بالعمل التحضيري الذي يبيح شرعا التعرف من أحد الزوجين على الآخر والنظر إليه، من أن يكون ذلك مظهر خارجي أن يشعر به الآخر حتى لا يتأذى إذا ما حدث إعراض.

وفي هذا يحدثنا الصحابي الجليل جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- فيقول: "خطبت امرأة فكنت أختبئ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها" كما يقول -صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا أراد الخطبة وإن كانت لا تعلم".

(1/25)

المقدمة الثانية: الخطبة

مدخل

...

المقدمة الثانية الخطبة:

بعد المقدمة الأولى للنكاح، وهي الاختيار تأتي المقدمة الثانية "الخطبة".

تعريفها:

الخطبة -بكسر الخاء وضمها- مأخوذة من خطب -بضم الخاء- لكن خصت الخطبة بضم الخاء بالكلام المنثور أو المسجوع الموجه إلى الغير، ومنها خطبة المنبر.

(1/25)

وخصت الخطبة -بكسر الخاء- بخطبة المرأة للزواج، ومنه قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} 1.

والخطبة في الاصطلاح: التماس الخاطب النكاح من جهة المخطوبة.

ويفهم من التعريف الاصطلاحي للخطبة أنها لا تكون إلا من جانب الرجل فقط ولا تكون من جانب المرأة ولكن إذا ظهرت للمرأة من تراه أصلح لها ولم تظهر منه رغبة مع أنه أهل للزواج فلا مانع شرعا من أن تتقدم وتظهر رغبتها في الزواج منها بنفسها أو بولي من أوليائها أو برسول الله من جهتها.

يوضح لنا ذلك القرآن الكريم حين عرضه لموقف شعيب -عليه السلام- مع موسى -عليه السلام- حيث قال شعيب له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} 2.

وتلك هي السيدة خديجة بنت خوليد -رضي الله عنها- فهي التي خطبت النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الرسالة وأظهرت رغبتها في التزوج منه، ولم يعرف أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفكر في ذلك.

وروى البخاري وغيره من حديث سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله جئت أهب نفسي منك -أو لك. على خلاف في الروايات.

فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما لي في النساء من حاجة" يقول أهل العلم: إن عدم إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على عرضها نفسها

__________

1 الآية 22 من سورة البقرة.

2 الآية 27 من سورة القصص.

(1/26)

عليه ورغبتها في الزواج من دليل على جواز خطبة المرأة لمن تراه أهلا للزواج به.

وكذلك أخرج البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصه، فقال: سأنظر في أمري، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فقلت: إن شئت زوجتك بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إليَّ شيئا وكنت أوجد عليه من عثمان.

فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما توفي زوج ابنته حفصة اهتم بشأنها بعد انقضاء عدتها من زوجها المتوفى عنها وهي في ريعان شبابها فعرضها على كبار الصحابة دون حياء ولا تردد فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- فهل ثقلت مؤنة حفصة على أبيها عمر رضي الله عنه لدرجة أن يعرضها بنفسه على من هم في مثل سنه؟ أم أنه يختار لها الأصلح دينا ودنيا.

فليكن لكم أيها الأولياء في سلفكم الصالح القدوة الحسنة حتى تسعدوا بناتكم وحتى يجد الشباب والفتيات الطريق الحلال لتكوين أسرة سعيدة يسعد بسعادتها المجتمع.

إلا أن المرأة في الغالب يمعنها حياؤها أن تعرض نفسها على من تراه أهلا لنكاحها، وكذلك يستحيي واليها من ذلك، لكن قد يحدث هذا العرض وإظهار الرغبة من أمها أو أختها فإذا ما صادف العرض ما في نفس الرجل فإنه يتقدم لخطبتها، فالدين لا يمنع المرأة من خطبة من تراه أهلا

(1/27)

لنكاحها وإن كان العرف والعادة يمنعان من ذلك، ومع هذا شاع على ألسنة الناس "اخطب لابنتك ولا تخطب لابنك"، مما يدل على أن الناس يريدون التوجه إلى ما يحث عليه الدين لا العرف والعادة.

(1/28)

مشروعية خطبة النساء

...

مشروعية الخطبة:

يستدل على مشروعية الخطبة من الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 1.

ووجه الدلالة من الآية الكريمة أنها أجازت التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي في عدتها، فإذا أجاز التعريض بخطبة المعتدة من وفاة فمن باب أولى يجوز في حق الخالية، ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر فيها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".

فدل الحديث بصريح اللفظ على مشروعية الخطبة فضلا عما فيه من أحكام أخرى ستفصل في حينها إن شاء الله تعالى.

حكمها والحكمة الشرعية من مشروعيتها:

قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: قال الغزالي: هي مستحبة وقيل: هي كالنكاح إذ الوسائل كالمقاصد، وأقول: الأصل في الخطبة أنها مستحبة بيد أنها تأخذ حكم النكاح فإن كان النكاح حراما كانت

__________

1 من الآية 235 من سورة البقرة.

(1/28)

الخطبة حرامًا، وإن كان واجبا كانت واجبة، وإن كان مندوبا كانت مندوبة وهكذا وفقا للقاعدة الفقهية الوسائل كالمقاصد.

والحكمة من مشروعيتها:

أنها من مقدمات الزواج ليتعرف كل من الخاطبين على الآخر، فإذا ما وجد التلاقي والتجاوب أمكن الإقدام على الزواج الذي هو رابطة دائمة في الحياة، واطمأن الجانبان إلى أنه يمكن التعايش بينهما بسلام وأمان وسعادة ووئام وحب وطمأنينة وهي أهداف سامية يحرص عليها الجميع الزوج والزوجة والأهل من ورائهم.

(1/29)

شروطها:

الخطبة مقدمة للزواج ووسيلة من وسائله، فإن كان الزواج مباحا شرعا كانت الخطبة مباحة، وإن كان حراما كانت هي الأخرى حرام، ولكنه قد يوجد مانع شرعي مؤقت من الخطبة والزواج، ومن ثم فإنه يشترط لإباحة الخطبة شرطان:

الشرط الأول: ألا تكون المراد خطبتها مخطوبة للغير:

لما رواه الشيخان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" فإذا ما خطب رجل امرأة فلا يخلو الحال من خمسة أقسام:

القسم الأول: أن يجاب الخاطب على طلبه، ففي تلك الحالة يحرم على غيره من الرجال خطبة مخطبوته لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم-

(1/29)

عن ذلك حفاظا للألفة، ومنعا من الفساد وحسما للتقاطع وسواء كان الأول كفئا أو غير كفء.

القسم الثاني: أن ترد المخطوبة خاطبها ولا تجيبه على طلبه، فيجوز لغيره من الرجال خطبتها؛ لأنها عندئذ خالية وليست مخطوبة.

القسم الثالث: أن يظهر من المخطوبة الرضا بالخاطب ولكنها لم تأذن في العقد وذلك بأن تقرر صداقها أو بشرط ما تريد من الشروط لنفسها ففي جواز خطبة الخاطب الثاني قولان من المذهب:

القول الأول: أنه تحرم خطبتها لرضاها بالخاطب الأول عملا بعموم النهي.

القول الثاني: أنه لا تحرم خطبتها لعدم تصريحها بالإذن في العقد.

القسم الرابع: أن يأذن وليها من غير أن يكون منها إذن أو رضا، فإن كان هذا الولي ممن يزوج بغير إذن كالأب والجد مع البكر حرمت خطبتها لإذن الولي، وإن كان ممن لا يزوج إلا بإذن لم تحرم خطبتها بإذن الولي حتى تكون هي الابنة.

القسم الخامس: أن تُخطب ولكن لا يكون منها إذن ولا رضا ولا يكون من رد ولا كراهية فتجوز خطبتها.

لما رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره من حديث فاطمة بنت قيس المخزومية أن زوجها أبا عمرو بن حفص طلقها طلاقا بائنا، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا حللت فآذنيني"، فلما حلت جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله قد خطبني معاوية،

(1/30)

وأبو جهم فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك لا مال له أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه".

وفي رواية أخرى: أخرجها عبد الرزاق في مصنفه قال لها: "أما أبو جهم فأخاف عليك فسفاسته، أي: عصاه، وأما معاوية فرجل أخلق من المال -أي لا مال له". ثم قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنكحي أسامة بن زيد"، قالت: فكرهته، ثم أطعت النبي -صلى الله عليه وسلم- فنكحته فرزقت منه خيرا واغتبطت.

ووجه الدلالة من وجهين:

الأول: أنها أخبرت أن معاوية وأباجهم قد خطبها كل منهما بعد صاحبه ولم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- تحريم ذلك لأنها لم تجب الخاطب الأول على طلبه.

الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خطبها لأسامة بعد خطبتها فدل ذلك على أن عدم إجابة المخطوبة الخاطب الأول على طلبه لا يحرم خطبة الخاطب الثاني.

وذكرا لما رواه الإمام الماوردي في كتابه الحاوي الكبير فوائد كثيرة مستفادة من حديث فاطمة بنت قيس المخزومية بالإضافة إلى وجه الدلالة السابق ذكره نذكر هذه الفوائد لأهميتها:

- جواز ذكر ما في الإنسان من عيب عند السؤال عنه ولا يعتبر ذلك من الغيبة المحرمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في معاوية: "إنه صعلوك لا مال له".

(1/31)

والتصعلك: التجمل والاضطراب في الفقر. قال في أبي جهم: "لا يضع عصاه عن عاتقه" أي أنه أراد به كثرة الضرب بها لأهله، وقيل: أراد بذلك كثرة أسفاره، يقال لمن سافر: قد أخذ عصاه، ولمن قام قد ألقى عصاه وقيل: أراد به كثرة تزويجه لتنقله من زوجة إلى أخرى، كتنقل المسافر بالعصى من مدينة إلى أخرى.

2- جواز الابتداء بالمشورة من غير استشارة، حيث أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسامة من غير أن تسأل هي عنه.

3- إباحة الطلاق الثلاث؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أنكره على فاطمة عندما أخبرته بأن زوجها عمرو بن حفص قد بَتَّ طلاقها.

4- جواز خروج المعتدة في زمان عدتها للحاجة؛ لأن فاطمة خرجت لتخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بطلاقها، فلم ينكر عليها خروجها في العدة بل قال لها: "إذا حللت فآذنيني".

5- جواز كلام المرأة وإن اعتدت، وأن كلامها ليس بعورة.

6- جواز نكاح غير الكفء؛ لأن فاطمة بنت قيس من بني مخزوم من صميم قريش ومع ذلك أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن تتزوج أسامة وهو من الموالي.

7- سقوط نفقة المبتوتة.

وإذا حرمت الخِطْبة على الخِطْبة على ما سبق بيانه في هذه الأقسام وأقدم رجل على الخطبة مع تحريمها عليه وعقد على مخطوبة الغير فإنه يكون آثما ونكاحه جائز؛ لأن النهي إذا كان لمعنى في غير المعقود

(1/32)

عليه لم يمنع من الصحة كالنهي عن أن يسوم الرجل على سوم أخيه ومع ذلك لو سام وعقد فعقده صحيح.

الشرط الثاني: ألا يحرم الزواج بها شرعًا، وذلك بأن لا تكون من المحرمات تحريما مؤبدا كالأخت والعمة والخالة، أو تحريما مؤقتا كأخت الزوجة وزوجة الغير.

وقسم الماوردي في كتابه الحاوي الكبير النساء إلى أقسام ثلاثة فقال: اعلم أن النساء ثلاث خلية، وذات زوج، ومعتدة فأما الخلية التي لا زوج لها، فتجوز خطبتها بالتعريض والتصريح.

وأما ذات الزوج فلا تحل خطبتها بتعريض ولا بتصريح.

وأما المعتدة فعلى ثلاث أقسام:

أحدها: أن تكون رجعية، وهذه لا تجوز خطبتها لا تعريضا ولا تصريحا؛ لأن أحكام الزوجية جارية عليها من وجوب النفقة لها ووقوع الطلاق عليها والظهار منها، والتوارث بينهما إن مات أحدهما، وتنتقل إلى عدة وفاة إن مات الزوج وهي لا تزال في عدتها الرجعية، ومتى أراد الزوج مراجعتها في العدة كانت زوجته.

الثاني: أن تكون بائنا لا تحل للزوج المطلق حتى تنكح زوجا غيره، أو متوفى عنها زوجها وإن لم يتوجه إلى الزوج بعد موته تحليل ولا تحريم فإذا كانت المرأة مطلقة طلاقا بائنا بينونة كبرى فيحرم على زوجها المطلق لها التصريح والتعريض بخطبتها؛ لأن لا تحل له أثناء

(1/33)

العدة أو بعدها فحرمت عليه خِطْبتها؛ وأما غير الزوج فيحرم عليه التصريح ويجوز له التعريض.

استدلالا بحديث فاطمة بنت قيس السابق ذكره والتي طلقها زوجها ثلاثا، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا حللت فآذنيني"، وفي رواية أخرى: "إذا حللت فلا تسبقيني بنفسك فكان ذلك تعريضا لها".

وفي معنى المطلقة ثلاثا الملاعنة تحرم خِطبتها للزوج الملاعن تصريحا وتعريضا، ويجوز لغيره التعريض لها في العدة ويحرم عليه التصريح.

والمتوفى عنها زوجها يحرم التصريح لها بالخطبة أثناء عدتها ويجوز التعريض بها في عدتها ولو كانت حاملا لقول الحق -سبحانه وتعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 1 والحكمة من تحريم التصريح بالخطبة للمطلقة البائن والمتوفى عنها زوجها والملاعنة في العدة، هي: أن المرأة من شدة رغبتها في الأزواج وغلبة شهوتها ربما يدفعها ذلك أن تخبر بانقضاء العدة قبل أوانها، وقولها في انقضاء العدة مقبول فتصير منكوحة في العدة، فلذلك حرم الله تعالى التصريح حسما لهذا التوهم.

الثالث: البائن التي تحل للزوج وهي المختلعة في عدتها، فإنه يجوز لزوجها المخلوع التصريح بخطبتها؛ لأنه يحل له زواجها في العدة أما

__________

1 من الآية 235 من سورة البقرة.

(1/34)

غير الزوج فيحرم عليه التصريح قولا واحدا، وفي جواز تعريض لها بالخطبة قولان:

أحدهما: لا يجوز لإباحتها للمطلق كالرجعية.

والثاني: يجوز؛ لأنه لا يملك رجعتها كالمطلقة ثلاثا.

وفي معنى المختلعة الموطوءة بشبهة يجوز للواطئ أن يصرح بخطبتها في العدة؛ لأنها تعتد منه ويحل له نكاحها في العدة ولا يجوز لغيره التصريح، وفي جواز تعريضه قولان:

والتصريح: ما زال عنه الاحتمال وتحقق منه المقصود، كقوله لها: أنا راغب فيك وأريد أن أتزوجك.

وأما التعريض: فهو الكلام المحتمل كقوله: رب رجل يرغب فيك أو لعل الله يسوق إليك خيرا، أو إذاحللت فآذنيني.

ويجوز لها التعريض سرًّا وجهرًا وأما قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} 1.

فقيل المقصود: بالسر: الزنا.

وقيل: ألا تنكحوهن في عدتهن سرًّا.

وقيل: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن ألا ينكحن غيركم.

وقيل: إنه الجماع، وسمي سرًّا؛ لأنه يسر ولا يظهر.

__________

1 من الآية 235 من سورة البقرة.

(1/35)

وسائل التعرف على المخطوبة:

لقد ذكرنا أن حكمة مشروعية الخطبة هي تعرف الخاطبين على بعضهما ولهذا التعرف وسائله المشروعة وهي:

أولا: النظر المباشر من الخاطب للمخطوبة، وكذلك من المخطوبة إلى الخاطب ويستدل على إباحة النظر بقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"، قال جابر: راوي الحديث فخطبت جارية، فكنت اختبئ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها.

وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنه خطب امرأة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤْدم بينكما".

وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، وإن كانت لا تعلم".

فدلت الأحاديث بمجموعها على مشروعية نظر الخاطب إلى مخطوبته للتعرف عليها معرفة تدعوه إلى نكاحها، وكذلك يشرع للمرأة المراد خطبتها أن تنظر إلى من يريد خطبتها؛ لأن المرأة يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها.

(1/36)

موضع النظر المسموح به شرعا ووقتا وهل يكرر أم لا

...

موضع النظر المسموح به شرعا ووقته وهل يكرر أم لا؟:

ولكن ما مقدار النظرا لمسموح به شرعًا؟:

ينظر الخاطب إلى الوجه والكفين فقط ظاهرًا وباطنًا؛ لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المشار إليها في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1.

والحكمة من الاقتصار على ذلك أن في الوجه ما يستدل به على الجمال، وفي النظر إلى اليدين ما يستدل به على خصوبة البدن بشرط أن يكون النظر مع وجود محرم للمرأة؛ ذلك لأن الخاطبين أجنبيين وما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.

وقت النظر المسموح به شرعًا:

يكون قبل الخطبة وبعد العزم على النكاح؛ فإنه قبل العزم لا حاجة إليه، وبعد الخطبة قد يقضي الحال إلى الترك فتضرر المرأة وأهلها بذلك ولا يتوقف النظر على إرادتها ولا وليها اكتفاء بإذن الشارع، ولئلا تتزين فيفوت غرضه، ولكن الأولى أن يكون النظر إليها بإذنها، فإن لم تعجبه سكت.

تكرار النظر:

وله تكرار النظر إن احتاج إليه؛ ليتبين هيئتها فلا يندم بعد النكاح إذ لا يحصل غالبا بأول نظرة. وقال بعض فقهاء المذهب: يحتمل أن يقدر النظر من أجل الخطبة بثلاث نظرات فقط وحصول المعرفة بها في

__________

1 من الآية 31 من سوة النور.

(1/37)

الغالب، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها: "رأيتك ثلاث ليال ثم خطبتك".

ولكن الأولى أن له تكرار النظر، سواء أكان بشهوة أم بغيرهابشرط وجود محرم أو نسوة ثقات، حتى لا يختلي الخاطب بالمخطوبة الخلوة المحرمة التي لا يأمن معها وقوع المعصية فلا يختلي رجل أجنبي بامرأة أجنبية إلا وكان الشيطان ثالثهما كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه الإمام أحمد من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان".

ومع ضعف الوازع الديني وعدم التمسك بمبادئ الإسلام الفاضلة وأخلاقه السمحة، والجري وراء التقاليد الغربية تحت ما يسمونه بالتحضر، وليس هو بتحضر بل هو الدمار والفساد الأخلاقي الذي يؤدي في النهاية إلى غضب المولى -عز وجل- وانتقامه العادل آجلا أو عاجلا، نرى الكثير من أبناء الأمة المسلمة بمجرد إعلان الخطبة يبيحون للمخطوبة أن تخالط مخطوبها ويختلي بها دون رقيب، وتخرج معه للتنزه في الحدائق العامة وغيرها دون إشراف مما يؤدي إلى ضياع شرف المرأة وهتك عرضها وإهدار كرامتها، وفساد عفافها؛ لأن الخاطب قد يتعجل وقد يستجيب الإنسان لتلبية غرائزة، ويضعف عن مقاومتها في حال الانفراد بالمرأة فيقع الضرر بها، بحجة أنهما يعتزمان النكاح الذي قد لا يتم فيقعان في الحرج وتسوء سمعة المرأة وكثيرا ما

(1/38)

ويحدث ذلك نتيجة الاتصالات غير الشرعية، فلا عبرة بالعرف الذي اعتاده هؤلاء الجهلة بشريعة الله فهو عرف فاسد وشرع الله أولى بالاتباع والاعتبار.

بجانب هؤلاء نرى من يكون غاية في التشدد فلا يسمحون للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته ويعقدون له عليها دون أن يراها أو تراه إلا ليلة الزفاف، وربما تكون الرؤية حينئذ مفاجئة لهما غير متوقعة فيحدث ما لم تحمد عقباه.

وبعض ثالث يكتفون بالنظر إلى الصورة الشمسية التي لا تدل في الواقع على شيء يمكن الاطمئنان عليه، وذلك لأنها لا تصور الحقيقة تصويرًا دقيقا.

فخير الأمور هو الالتزام بشرع الله؛ لأن فيه مراعاة لكلا الزوجين حيث سمح بأن ينظر كل منهما للآخر، مع تجنب الخلوة صيانة للعرض وحماية للشرف.

ثانيا: إرسال امرأة يثق بها الخاطب تنظر إليها وتصفها له.

ويستدل على ذلك بما روي أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- أرسل أم سليم إلى امرأة، فقال لها: انظري عُرْقُوبها وشمي معاطفها، وفي رواية أخرى "شمي عوارضها" وهي الأسنان التي في عرض الفم، والمراد اختبار رائحة الفم، وأما المعاطف، فهي ناحيتا العنق، والمراد اختبار رائحة جسدها، والعُرْقوب: هو أسفل الساق من الخلف والنظر إليه لمعرفة الجمال وعدمه في الرجلين.

(1/39)

وللمرأة أن تفعل مثل ذلك فترسل رجلا ينظر إلى الخاطب ويصفه لها؛ لأنه يعجبها من الرجل ما يعجبه منها.

وبمناسبة الحديث عن مشرويعة نظر الخاطب إلى المخطوبة بقصد التعرف عليها لنكاحها، اعتاد فقهاؤنا الشافعية -يرحمهم الله- أن يتحدثوا في كتبهم عن بقية أنواع نظر الرجل البالغ العاقل إلى المرأة الباغلة العاقلة ولو كانت عجوز لا تشتهي؛ لأهمية معرفتها استكمالا للفائدة.

فنظر الرجل البالغ العاقل1 إلى المرأة البالغة العاقلة يتنوع إلى عدة أنواع:

أولا: منها النظر إلى من يحل له نكاحها بقصد خطبتها قد تحدثنا عنه.

ثانيا: نظر الرجل البالغ العاقل ومن في حكمه إلى بدن امرأة أجنبية غير الوجه والكفين ولو غير مشتاه لغير حاجة فحرام قولا واحدًا لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} 2.

ووجه الاستدلال: أن الآية الكريمة تأمر الرجال بغض البصر؛ لأنه مظنة الفتنة ومحرك الشهوة.

أما النظر إلى الوجه والكفين فحرام قولا واحدا عند خوف الفتنة: التي هي ميل النفس ودعاؤها إلى الجماع ومقدماته.

__________

1 ويلحق به الخصي: منزوع الخصيتين، والمجبوب: مقطوع الذكر. والعنين: وهو الذي لا يقوى على مجامعة المرأة، والشيخ الهرم، والمخنث بكر السين المتشبه بالنساء، والمراهق: هو من قارب الاحتلام باعتبار غالب سنه وهو قرب خمسة عشر سنة فيما يظهر.

أما الصبي الذي هو دون المراهق فإن كان يحسن حكاية ما يراه من غير شهوة فهو كالمحرم، أو بشهوة فكالبالغ، أولا يحسن ذلك أصلا فكعدمه.

2 من الآية 30 من سورة النور.

(1/40)

ولفقهاء المذهب عند عدم الخوف من الفتنة وجهان:

الوجه الأول: لمتقدمي الأصحاب أنه لا يحرم النظر ولكنه يجوز مع الكراهة لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1.

فالمراد من قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان هكذا قال ابن عباس وعائشة.

وغيرهما -رضي الله عنهما- ورجحه الطبري.

والوجه الثاني: أنه يحرم؛ لأنه -أي النظر- مظنة الفتنة ومحرك للشهوة، فيحرم سدا للذرائع، وصوت المرأة الأجنبية ليس بعرة ويجوز الإصغاء إليه عند أمن الفتنة، وإن خافها حَرُمَ.

ثالثا: النظر إلى بدن الزوجة

يجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته حال حياتهما؛ ذلك لأنه محل استمتاعه، إلا الفرج فيكره النظر إلى ظاهرة وإلى باطنه أشد كراهة، لقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها: "ما رأيت منه ولا رأى مني": أي الفرج: فقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- نص في الكراهة؛ لاحتمال أن يكون نفيها الرؤية لشدة الحياء وأما خبر "النظر إلى الفرج يورث الطمس" أي: العمى، فمحمول على الكراهة، واختلفوا في قوله: يورث العمى، فقيل: عمى الناظر، قيل: عمى الولد إن قدر لهما، وقيل: عمى القلب.

__________

1 من الآية 31 من سورة النور.

(1/41)

واختلف فقهاء المذهب في نظر الزوج إلى دبر زوجته فقال: بعضهم بإباحته، وقال البعض الآخر: بالكراهة وهو المعتمد في المذهب، وقال بعض ثالث: بحرمة النظر إليه.

ولو وطء أجنبي زوجة غيره بشبهة فإنه يحرم على زوجها النظر إلى ما بين السرة والركبة ويحل ما سوى ذلك على الصحيح في المذهب، أثناء عدتها من هذا الوطء، وعلى الأصح لا يحرم نظره إلى ما بين السرة والركبة؛ لأنها لا تزال زوجة له وإن كانت تعتد من وطء غيره لها بشبهة، ولا يلزم من كراهة النظر إلى فرج الزوجة ظاهرًا وباطنًا مسه فإنه يباح ذلك؛ لانتفاء العلة التي ذكرت في الخبر القائل "النظر إلى الفرج يورث الطمس".

وفي مغني المحتاج قال: سأل أبو يوسف أبا حنفية -يرحمه الله- عن رجل مس فرج زوجته وعكسه، فقال: لا بأس به، وأرجو أن يعظم أجرهما.

نظر الزوجة كنظر زوجها إليها إلا أنها لا تنظر إلى عورته إذا منعها من ذلك؛ فإذا منعها حرم عليها النظر لما بين السرة والركبة؛ بخلاف العكس أي إذا منعته من النظر لا يحرم عليه ذلك؛ لأنها محل لاستمتاعه وربما أدى نظره إلى عورتها ومسها إلى تحريك شهوته بلا ضرر يترتب عليه، وإذا ماتت الزوجة فالمعتمد في المذهب أنه يجوز له النظر بعد موتها لجميع جسدها حتى الفرج بغير شهوة؛ ذلك لأنه يجوز له تغسيلها مسلمة كانت أم ذمية. لقول النبي -صلى الله عليه

(1/42)

وسلم- لعائشة -رضي الله عنها: "ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك".

ولأن حقوق النكاح لا تنقطع بالموت بالدليل التوارث بينهما كما أن للزوجة أن تقم بتغسيل زوجها لقول عائشة -رضي الله عنها: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا نساؤه".

رابعا: النظر إلى ذوات المحارم

والمقصود بهن المحرمات على التأبيد بنسب أو إرضاع أو مصاهرة فينظر إلى جميع البدن إلا ما بين السرة والركبة؛ لأن المحرمية التي بينهما معنى يوجب حرمة المناكحة فكانا كالرجلين والمرأتين، والسرة والركبة ليستا من العورة ومن ثم فإنه يباح النظر إليهما.

وإباحة النظر إلى جميع بدن المحرمات على التأبيد عدا ما بين السرة والركبة مشروطة بأن يكون النظر بدو شهوة، فإن كان بشهوة حرم مطلقا؛ لأن ما أدى إلى حرام فهو حرام.

وقيل: لا ينظر من محارمه على التأبيد إلا ما يظهر منها فقط عند الخدمة كيدها وشعرها وعنقها ورجلها إلى الركبة للضرورة وما عداه لا ضرورة للنظر إليه.

أما المحرمة على التأقيت كأخت الزوجة فهي كالأجنبية في حكم النظر إليها.

(1/43)

خامسا: النظر للمداوة

كنظر الطبيب المعالج إلى المرأة الأجنبية لمعالجتها والعكس. فهو جائز شرعًا ولكن بشروط:

الشرط الأول: لا يتجاوز في النظر موضع الحاجة حتى ولو كان المحتاج إلى معالجته الفرج أو الدبر.

الشرط الثاني: أن يأمن الافتتان بوجود محرم لها أو عدد من النسوة الثقات.

الشرط الثالث: أن يكون الطبيب المعالج معروف بالأمانة.

لا فرق في ذلك من أن يكون الطبيب رجلا والمعالج امرأة أو العكس.

الشرط الرابع: ألا يوجد من يعالج المريض من جنسه، فإن كان

المريض امرأة فالأولى أن تقوم على علاجها امرأة مثلها مسلمة، فإن تعذرت فصبي مسلم يستطيع ذلك، فإن تعذر فصبي كافر، فإن تعذر فامرأة كافرة، فإن تعذرت فَمَحْرمها المسلم، فإن تعذر فمحرمها الكافر فإن تعذر فأجنبي مسلم، فإن تعذر فأجنبي كافر.

سادسًا: النظر للشهادة تحملا وأداء أو المعاملة من بيع ونحوه فجائز حتى لو كان النظر للشهادة على الزنا والولادة وإلى الثدي للشهادة على الرضاع، وكذلك يجوز للرجل أن ينظرإلى وجه المرأة إذا باع إليها ولم يعرفها فإنه ينظر إليها ليرد عليها الثمن بالعيب، ويجوز لها أن تنظر لوجهه لترد عليه المبيع بالعيب.

(1/44)

وإذا ادعت المرأة عُبَالة زوجها -أي غلظ ذكره- بصورة تؤذيها وتألمها عند مجامعتها، فإنه يجوز للنسوة النظر إلى ذكر الزوج؛ لأن العُبَالة إنما تثبت بالنساء ولأنها مما لا يطلع عليه الرجال غالبًا.

هذا كله مشروط بأمنه الفتنة، فإن خاف الوقوع في الفتنة لم ينظر إلا أن تعين فينظر ويضبط نفسه.

سابعًا: النظر للتعليم

فجائز شرعًا بشروط أربعة:

الشرط الأول: ألا توجد امرأة تقوم بما يقوم به الرجل.

الشرط الثاني: ألا يوجد من محارم المرأة بما يقوم بذلك.

الشرط الثالث: أن يتعذر التعليم من رواء حجاب.

الشرط الرابع: أن يأمن الفتنة، فإن خافها حرم النظر.

ثامنًا: نظر المرأة إلى محارمها بنسب، أو رضاع أو مصاهرة.

فإنه يجوز لها أن تنظر إلى جميع جسده عدا ما بين السرة إلى الركبة.

تاسعًا: نظر الرجل إلى الرجل، جائز عدا ما بين السرة إلى الركبة.

عاشرًا: نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي.

الأصح أنه كنظره إليها تنظر منه إلى الوجه والكفين فقط إلا إذا خيف الفتنة فيحرم النظر.

ومتى حرم النظر في كل ما سبق ذكره من أنواع النظر، حرم المس؛ لأنه أبلغ في اللذة وإثارة الشهوة، بدليل أنه لو مس فأنزل أفطر، ولو نظر فأنزل لم يفطر.

(1/45)

حكم المضاجعة والمصافحة:

المضاجعة:

ضجع كمنع، ضجعا وضجوعًا، وضع جنبه بالأرض، وأضجعته، وضعت جنبه بالأرض، والمضاجع وضع الجنب بالأرض.

ويحرم اضجاع رجلين أو امرأتين أو رجل وامرأة بلغا الرشد في ثوب واحد سواء أكان أجنبيين أم غير أجنبيين كالأب وابنه أو الابن وأخته، أو أمه، أو الرجل وصديقه، أو المرأة وجارتها، إذا كانا عاريين تماما ولو كان كل منهما في جانب الفراش؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُفض الرجل إلى الرجل والمرأة إلى المرأة في الثوب الواحد".

أما إذا لم يتجردا من ثيابهما أو تجرد أحدهما دون الآخر فيجوز نومهما في فراش واحد ولو متلاصقين.

المصافحة:

الأخذ باليد كالتصافح:

ومن السنة أن يتصافح الرجلان إذا التقيا، وكذلك المرأتان؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان يتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا".

فإن اختلف الجنس بأن كانا رجل وامرأة فإن كانت امرأة لا تُشتهى لكونها عجوزا أوصغيرة جازت المصافحة لعدم الخوف من الفتة أما إن كان المرأة بالغة تُشتهى فإنه تجوز مصافحتها إذا أمن الخوف من الفتنة وانعدمت الشهوة، ولكن إذا أدت المصافحة إلى وجود الشهوة

(1/46)

والتلذذ من أحدهما أو خيفت الفتنة على أحد الطرفين حرمت المصافحة سدًّا للذرائع.

بل لو فقد هذان الشرطان أمن الفتنة وانعدام الشهوة بين الرجل ومحارمه بنسب أو رضاع أو مصاهرة لكانت المصافحة حينئذ حرامًا وينبغي الاقتصاد في المصافحة بين الرجل والمرأة على موضع الحاجة كالأقارب والأصهار الذين بينهم خلطة وصلة قوية، ولا ينبغي التوسع في ذلك أخذا بالأحوط وسدًّا للذريعة واتقاء للشبهة، واقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط، وأفضل للمسلم المتدين والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة، لكن إذا صوفح صافح، قال أحد الفقهاء: تكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص.

(1/47)

المعانقة والتقبيل:

العناق والمعانقة وتعانقا اعتنقا: إذا جعل أحدهما يده على عنق أخيه وضمه إلى نفسه.

ويكره أن يعانق المسلم أخاه وأن يقبله في رأسه، ولو كان صالحا لما أخرجه الترمذي عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل منا من يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: "لا"، قال الرجل: أفيلزمه -أي يعانقه ويقبله- قال: "لا"، قال الرجل: فيأخذه بيده يصافحه؟ قال: "نعم".

(1/47)

وعلى هذا فإذا التقى المسلم بأخيه المسلم فالسنة المصاحفة فقط مع ما يشاء من عبارات الترحيب والتسليم، أما المعانقة فلا تكون إلا لقادم من سفر.

بدليل ما أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- "إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا".

وإذا كان هذا حكم المعانقة بين الرجال فإنه ينسحب على المعانقة عند اللقاء بين المرأتين.

ويتأكد النهي إذا كان أمام الأجانب فإنه لا يجوز شرعًا؛ لأن فيه إثارة للأجنبي، وخضوعا لا يليق بالمرأة، والحياء كله خير.

ومن السنة تقبيل الولد الصغير ولو ولد غيره، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، كما يسن تقبيل يد الحي الصالح ونحوه من الأمور الدينية كعلم وشرف وزهد، ويكره ذلك لغناه ونحوه من الأمور الدنيوية كشوكته ووجاهته.

ومن السنة القيام لأهل الفضل من علم أو صلاح أو نحو ذلك إكراما لا رياء وتفخيما.

ويستدل على ذلك بأحاديث صحيحة ذكرها الإمام النووي في كتاب السلام من كتاب الأذكار فارجع إليها إن شئت.

(1/48)

الصفة الشرعية للخطبة والعدول عنها:

الصفة الشرعية للخطبة:

ليست الخطبة إلا مجرد وعد بالزواج، ومن ثم فإنها غير ملزمة لأحد الطرفين -الخاطب والمخطوبة؛ لأنها ليست عقدا وإنما هي وعد بالزواج، لذلك فإنها لا تبيح شرعا للخاطبين إلا النظر إلى مواضعه التي سبق الحديث عنها بشرط وجود محرم للمخطوبة؛ لأنها أجنبية عن الخاطب.

فإذا ما ترآى لأحد الطرفين عدم المضي في إتمام الزواج فإن له ذلك؛ لأن أمر الزواج له شأنه وخطره فيجب فيه التروي وعدم التسرع حتى لا يندم بعد فوات الأوان.

وما اعتاده الناس من تقديم ما يسمونه بالدبلة والشبكة، فإنه أمر لا يمنع منه الشرع طالما أنه لا يتنافى مع قواعده وأحكامه، وإن كان الشرع لا يلزم به إلا إذا كانت هناك اتفاق خاص نزولا على حكم العرف، وهذا موقف إسلامي عظيم.

فالخطبة ليست من قبيل التعاقد حتى لو اقترنت بقراءة الفاتحة وتقديم بعض الهدايا ودفع المهر، فلكل منهما حق العدول وإن كان الوفاء بالوعد أمر مستحب.

العدول عن الخطبة:

تعارف الناس فيما بينهم عند إعلان الخطبة أن يقرءوا الفاتحة تبركا للوعد بالزواج كما يصاحب، إعلان الخطبة أيضا تقديم الشبكة والهدايا

(1/49)

تعبيرا عن الجدية في الارتباط، وأحيانا يدفع المهر المتفق عليه كله أو بعضه استعدادا لتجهيز بيت الزوجية.

وربما يحدث بين الخاطبين مانعا يمنع من إتمام عملية الزواج فيعدل أحدهما أو كلاهما عن الخطبة.

فإذا ما حدث ذلك فلا يخلو الحال من أمرين:

أولهما: أن يكون سبب العدول هو موت أحد الخاطبين.

الثاني: ألا يكون سبب العدول الموت.

فإذا كان سبب العدول هو موت الزوج فلورثته الحق في استرداد جميع ما دفع من هدايا ونقود إن مات بعد الخطبة قبل العقد أو بعده وقبل الدخول، أما بعد الدخول فليس لهم الحق في استرداد ما قدم من قبل مورثهم؛ لأنها زوجة وليست مخطوبة.

وإن ماتت المخطوبة بعد إعلان الخطبة قبل العقد فمن حق الخاطب استرداد جميع ما قدمه للمخطوبة.

وإن ماتت بعد العقد قبل الدخول فليس من حق الخاطب أن يسترد شيئا مما قدم.

وإن كان سبب العدول ليس موت أحد الخاطبين فلا يخلو الحال من أمرين:

أولهما: ألا يكون قد صاحب الخطبة أو قراءة الفاتحة إيجاب وقبول وعدل أحد الخاطبين عنها، فإن كان قد دفع إليها المهر كله أو بعضه فله

(1/50)

استرداده؛ لأن المهر قد دفع نظير عقد لم يتم، أما ما قدم من شبكة وهدايا فله استرداده إلا ما هلك منها، ويحتكم في مثل هذه الأمور إلى العرف والاتفاق.

الثاني: أن يكون قد صاحب الخطبة وقراءة الفاتحة إيجاب وقبول بحضور شاهدين.

ففي هذه الحالة يعتبر عقد شرعي له آثاره الشرعية، فإن كان العدول من جهة المخطوبة بسبب من جهتها فعندئذ تجري بينهما صيغة الخلع لإبراء الزوج مما لها عليه ولا يأخذ منها أكثر مما أعطاها.

وإن كان العدل من جهة الخاطب بسبب من جهته ولم يكن قد سمى لها مهرا فلها المتعة تطيبا لخاطرها تقدر متعتها حسب حال الخاطب يسرًا وعسرًا وتوسطًا؛ لأن العدول هنا طلاق قبل الدخول، والله تعالى يقول: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} 1.

وإن كان قد سمى لها مهرا فلها نصفه لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 2.

وإنما لم يجب لها المهر كله ووجب لها نصفه؛ لأنها لم تسلم له البضع فكان لها النصف تطيبا لخاطرها. وفي كلتا الحالتين لا تجب عليها العدة

__________

1 من الآية 226 من سورة البقرة.

2 من الآية 227 من سورة البقرة.

(1/51)

لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} 1.

أما الشبكة والهدايا فمن حقه استرداد ذلك إلا إذا كان هناك شرط أو اتفاق على عدم الرد عند العدول عن الخِطْبة.

__________

1 الآية 49 من سورة الأحزاب.

(1/52)

ممن تخطب المراد خطبتها؟ :

تخطب البكر البالغة العاقلة الرشيدة من نفسها أو من وليها، أما الصغيرة فإنها تخطب وتزوج من وليها لا من نفسها؛ لعدم إدراكها ما فيه مصلحتها إن كانت بكرًا.

ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة -رضي الله عنها- من أبيها أبي بكر، فقال له أبو بكر -رضي الله عنه: إنما أنا أخوك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في دين الله وكتابه هي حلال لي".

ووجه الدلالة من الحديث هو إن خِطْبة الصغيرة البكر تكون من وليها كما دل كذلك على أن للأب تزويجها قبل البلوغ فعقد النبي -صلى الله عليه وسلم- على عائشة بعد خِطبتها من أبيها هي بنت ست سنين، ودخل بها بعد بلوغها وهي بنت تسع سنين.

وإن كانت الصغيرة ثيب عاقلة دون البلوغ فلا تزوج إلا بعد بلوغها وإذنها وبالتالي فإنها تخطب من نفسها أو وليها بعد بلوغها وإن كانت

(1/52)

مجنونة صغيرة كانت أم كبيرة فإنها تخطب من وليها، وإن كانت الثيب بالغة عاقلة فإنها تخطب من نفسها لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت: لما مات أبو سلمة أرسل إليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- يخطبني له" إلخ.

ووجه الدلالة من الحديث أن الثيب البالغة العاقلة إنما تخطب من نفسها؛ لأنها أحق بنفسها.

(1/53)

عقد النكاح:

تمهيد:

الترغيب في النكاح:

رغب الإسلام في النكاح فتارة يذكره ربنا -عز وجل- في تعداد النعم التي أنعم بها علينا حيث يقول: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 1.

وأحيانا يذكره على أنه آية من آياته فيقول -عز من قائل: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 2.

وتارة يذكره ربنا -جلال جلاله- على أنه سنة من سنن المرسلين، وأنهم في ذلك القدوة التي يجب علينا أن نهتدي بها فيقول -عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} 3.

وقد يحجم بعض الناس عن الزواج ويبتعدون عنه مخافة الوقوع في أعبائه، فيوجه الإسلام أنظارهم إلى أن النكاح سبب من أسباب الغنى المادي فيقول ربنا -جلال جلاله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4.

ويؤكد هذه الحقيقة القرآنية الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: فيما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه: "ثلاثة حق على الله عونهم؛ المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والنكاح يريد العفاف".

فالزوجة الصالحة سبب من أسباب خيري الدنيا والآخرة، روى الطبراني بسند جيد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أربع من أعطيهن فقد

__________

1 من الآية 72 من سورة النحل.

2 من الآية 21 من سورة الروم.

3 من الآية 38 من سورة الرعد.

4 من الآية 32 من سورة النور.

(1/54)

أعطي خير الدنيا والآخرة؛ قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وجسدا على البلاء صابرا، وزوجة صالحة لا تبغيه حوبا في نفسه وماله".

وروى مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة".

فهذا كله وغيره ترغيب في النكاح وحض عليه؛ لأنه عبادة يستكمل الإنسان به نصف دينه، مصداقا لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني".

تعريفه:

النكاح في اللغة: الضم والجمع، ومنه تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.

وشرعًا: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمت ذلك.

والعرب تستعمله بمعنى العقد والوطء جميعا فإذا قالوا: نكح فلانا فلانة أو بنت فلان أرادوا بذلك أنه تزوجها وعقد عليها وإذا قالوا: نكح زوجته أو امرأته أرادوا بذلك الوطء.

الحكمة من مشروعيته:

لقد رغبنا الإسلام في النكاح، وحببنا فيه على النحو الذي علمناه من خلال الكتاب والسنة لما في النكاح من آثار نافعة على النوع الإنساني عامة، وعلى الفرد نفسه وعلى الأمة أجمع، للحكم الشرعية التالية:

أولًا: لا تستمر الحياة البشرية إلا مع المحافظة على الأنساب التي اعتنى بها الإسلام عناية فائق، والزواج الشرعي هو أحسن سيلة لإنجاب الأولاد وتكثيبر النسل امتثالا لقوله -صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود والولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".

(1/55)

وفي هذا يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -يرحمه الله- وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة وجوه هي الأصل في الترغيب في النكاح:

الأول: موافقة محبة الله -عز وجل- في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.

الثاني: طلب محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تكثير من به مباهاته.

الثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده.

الرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله. ا. هـ.

ثانيا: النكاح المشروع أحسن سيلة لإشباع الغريزة الجنسية التي هي من أقوى الغرائز وأعنفها، فإذا ما سكنت سكنت النفس عن الصراع، وكف النظر عن محارم الله، واطمئنت العاطفة إلى ما أحل الله.

وإلى هذا كله يشير ربنا -جل جلاله- قائلا: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 1.

كما يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه".

ثالثا: التحصن من الشيطان وكسر التوقان ودفع غوائل الشهوة وغض البصر وحفظ الفرج، يرشدنا إلى هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "من نكح فقد حصن نصف دينه فليتق الله في الشطر الآخر".

رابعًا: الترويح عن النفس وإيناسها بالمجالسة، والنظر، والملاعبة، مما يكون سببا في إراحة القلب وتفريغه للعبادة.

__________

1 الآية 21 من سورة الروم.

(1/56)

فالنفس البشرية من طبعها الملل والنفور عن الحق؛ لأنه على خلاف طبعها، فلو كلفت المداومة، بالإكراه على ما يخالفها جمحت ونفرت، وإذا روحت بالذات في بعض الأوقات قويت ونشطت.

وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يريح القلب ويزيل الكرب وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات، لذلك يقول الحق -عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 1.

ويقول الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنها: روحوا القلوب ساعة فإنها إذا كرهت عميت.

خامسًا: تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكفل بشغل الطبخ والكنس وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب المعيشة.

فالرجل لو تكفل بجميع أعمال المنزل لضاع أكثر أوقاته، ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريقة.

وأخرج الترمذي وحسنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعين على الآخرة".

سادسًا: مجاهدة النفس بالقيام على حقوق الزوجة والصبر على أخلاقها، وتحمل الأذى منها والعمل على إصلاحها وإرشادها إلى طريق الله المستقيم، والاجتهاد في تحري الكسب الحلال لأجلها والقيام بتربية الأبناء كل هذه حكم سامية وأعمال عظيمة.

لأنه لا يستويمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط مع من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره. وفي الحديث المتفق عليه يقول -صلى الله عليه وسلم: "ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة، وإن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته".

__________

1 من الآية 189 من سورة الأعراف.

(1/57)

وعند ابن ماجه من حديث عمران بن حصين قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال".

وقال بعض السلف الصالح: إن من الذنوب ذنوبًا لا يكفرها وإلا الغم بالعيال، وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة".

وقد يشوب الزوجية بعض المتاعب بسبب الأولاد وأعباء الحياة الزوجية، ولكن الزوج يشعر مع هذا كله بالسعادة والطمأنينة وإشباع النفس في حين أن غير المتزوج غالبًا يشغر بفراغ في حياته ودلت الإحصائيات التي قام بها أحد الباحثين على أن عدد الذين يدخلون المستشفيات العقلية نسبتهم عادة أربعة من غير المتزوجين إلى واحد من المتزوجين، كما أن حوادث الانتحار بين غير المتزوجين أكثر منها بين المتزوجين وأن المتزوجين يتصفون عادة بالاتزان العقلي والخلقي وحياتهم هادئة ولا يشوبها الشذوذ والسويداء اللذان يتصف بهما عدد كثير من غير المتزوجين، وتوصلت الأبحاث العلمية إلى أن النساء المتزوجات مع ما يعانينه من متاعب الولادة والأمومة ومشاكل الحياة الزوجية والمنزل غالبا ما يعمرن أطول من زميلاتهن اللواتي يقضين حياتهن عانسات.

وأقول: إن ما توصلت إليه الأبحاث قد سبقهم فيه القرآن الكريم حيث يقوم ربنا -جل جلاله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 1 ويقول كذلك: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} 2.

فالسكن بين الزوجين كاف بإذن الله تعالى في حمايتهما من الأمراض وخصوصا العقلية منها.

__________

1 من الآية 189 من سورة الأعراف.

2 من الآية 21 من سورة الروم.

(1/58)

حكمه:

يطلق الحكم ويراد به أحد أمرين:

أولهما: حكمه بمعنى الوصف التكليفي له من وجوب وحرمه وغيرها من أقسام الحكم التكليفي.

الثاني: حكمه بمعنى الآثار المترتبة عليه.

والمقصود بالحكم هنا هو المعنى الأول: حكمه بمعنى الوصف التكليفي له.

فالأصل فيه الاستحباب ولكنه تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة على حسب حال الفرد وما هو الأنسب لحاله.

فتارة يكون واجبًا: وذلك في حالة ما إذا كان الشخص قادرا على أعباء النكاح المادية وتأكد له إن لم يتزوج وقع في الزنا المحرم.

ويكون حرامًا: إذا تأكد له ظلم الزوجة ماديا -بأن لا يستطيع الإنفاق عليها، ومعنويا -بألا تكن عنده القدرة على مجامعتها.

ويكون مكروها: إذا خشي أنه لا يستطيع الإنفاق ولا يقدر عليه إن تزوج ولا تميل نفسه إلى النكاح، أو كان حاله قبل الزواج أفضل منه بعده، وتشتد الكراهة إن انقطع بالزوج عن شيء من أفعال الطاعات كالعبادة والاشتغال بالعلم وغيرهما.

ويكون مندوبا: إذا حصل له بالزواج معنى مقصودا مما حث عليه الشرع كعفاف النفس وكسر الشهوة وغض البصر وتحصين الفرج.

ويكون مباحًا: إذا تحققت الحكمة التي ترغب فيه وانتفت كذلك الموانع التي تمنع منه.

فالنكاح تعتريه الأحكام التكليفية وذلك بالنظر إلى حال الشخص وظروفه الاجتماعية، والأخلاق السائدة، غير ذلك من العوامل المؤثرة في العفة واستقامة السلوك، إلا أنني أجزم بأنه واجب على كل قادر عليه في زماننا هذا حتى يعصم

(1/59)

المسلم نفسه من الوقوع في الحرام أو الاقتراب منه، فالمغريات تحيط بنا من الداخل والخارج إحاطة السوار بالمعصم، ولا ينج منها إلا من رحم الله -وهم قليل- ولا يكون ذلك إلا بتطبيق شرع الله في كل أمورنا، وعلى رأسها المبادرة إلى الزواج وإقامة الأسرة المسلمة التي تقدم للأمة العنصر الصالح الذي يعتز به الوطن.

لذلك نرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوجه الشباب القادرين على تكاليف النكاح وأعبائه المادية وغيرها لما فيه من حكم عظيمة من أهمها غض البصر، وحفظ الفرج، ويقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

والشباب: جمع شاب وهو اسم لمن بلغ لم يتجاوز الثلاثين من عمره.

وقيل: من تجاوز الثلاثين بقليل، وقيل: من بلغ الأربعين، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.

وخص الشباب بالذكر؛ لأن غالب قوة الشهوة فيهم غالبا بخلاف الشيوخ والكهول. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "من استطاع من الباءة" عام يشمل الشباب وغيرهم من كبار السن رجالا كانوا أم نساء من الذين تتوق نفوسهم إلى النكاح.

والباءة: التكاليف المادية للنكاح، وقيل: المراد بها الجماع.

دليل مشروعيته:

يستدل على مشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع:

أولا: من الكتاب

1- قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 1.

__________

1 من الآية 32 من سورة النور.

(1/60)

وجه الدالالة من هذه الآية الكريمة أن الحق -سبحانه وتعالى- أمر بتزويج من لا زوج له من الرجال والنساء ووعدهم المولى -عز وجل- بالغنى إذا هم طلبوا الزواج طمعا في رضاه واعتصاما من معاصيه، وهذا العون من الله -عز وجل- لمن يقصد الزواج لدليل على حث الشارع على النكاح، فدل ذلك على مشروعيته.

2- وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 1.

ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى بالنكاح "فانكحوا" وتعليقه ذلك على الاستطابة "ما طاب" فدل ذلك على مشروعيته.

ثانيا: من السنة

أن الباحث في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القولية والفعلية ليجد الكثير من الأدلة القاطعة الثابتة التي تدل على مشروعية النكاح.

فمن القولية قوله -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصم فإنه له جاء".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني". ومن السنن الفعلية أنه -صلى الله عليه وسلم- تزوج وزوج بناته.

فالنكاح سنة من سنن الأنبياء والمرسلين.

ثالثا: الإجماع

أجمعت الأمة على مشروعيته.

موضوع النكاح الشرعي:

لفقهاء المذهب في ذلك ثلاثة أوجه.

أصحها: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء وهو أقرب إلى الشرع، كما جاء في الكتاب والسنة.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/61)

الثاني: إنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وهو أقرب إلى اللغة.

الثالث: أنه حقيقة فيهما معًا.

ويترتب على هذا الخلاف في موضوع النكاح الشرعي أن الرجل إذا زنا بامرأة يكون الزنا مانعا للمصاهرة عند من يقول بأن النكاح حقيقة في الوطء لا في العقد، ولا يكون مانعا للمصاهرة عند من يقول بأنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء.

صفة عقد النكاح:

العقد اللازم هو ما ليس لأحد العاقدين فسخه دون رضا الآخر.

فهل عقد النكاح بعد انعقاده لازم أو لا؟

لا خلاف بين فقهاء المذهب في أن عقد النكاح لازم من جهة الزوجة فلا تستطيع إنهاءه بنفسها، وإنما تستطيع ذلك بحكم الشرع بأن تخالع زوجها برضاه، واختلفوا في لزوم عقد النكاح من جهة الزوج على وجهين.

أصحها: أنه لازم لا يستطيع إنهاء بنفسه وإنما بحكم الشرع بأن يطلق زوجته.

والثاني: أنه غير لازم.

هل النكاح عقد ملك أو إباحة؟

لفقهاءالمذهب في ذلك وجهان:

الوجه الاول: أنه عقد ملك.

الوجه الثاني: أنه عقد إباحة الاستمتاع المشروع بالمرأة وليس عقد ملك.

ولهذا الخلاف في المذهب ثمرة تظهر فيما لو أن زوجة وطئها غير زوجها وطئا بشبهة فإذا قلنا: إن النكاح عقد ملك كان المهر المدفوع من الواطئ بشبهة للزوج لا للزوجة وإذا قلنا: بأنه عقد إباحة كان المهر لها لا للزوج.

(1/62)

محل العقد:

هل المعقود عليه في النكاح المرأة فقط أو الزوجان معا؟

خلاف في المذهب على وجهين:

أصحهما: أن المعقود عليه المرأة فقط.

الثاني: أن الزوجين معقود عليهما.

(1/63)

تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية:

أشرق فجر الإسلام بشريعته السمحة على البشرية في القرن السابع الميلادي والعالم آنذاك يتنازعه اتجاهان في شأن تعدد الزوجات.

الاتجاه الأول: يحاربه ويمنعه.

والاتجاه الثاني: يؤيده ويبيحه بدون قيد ولا شرط.

فكانت نظرة الإسلام في ذلك نظرة ربانية كما هو شأنها في جميع الأحوال والأزمنة والأمكنة، نظرة وسطية فأباحت تعدد الزوجات إلى أربع فقط وحرمت الزيادة على ذلك بقيدين أساسين وهما:

القيد الأول: العدل الظاهري بين الزوجات في القسم والمبيت والمسكن والملبس والمطعم والمشرب، لقوله الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 1 ويقول الجصاص: فإن خاف ألا يعدل بين الأربع اقتصر على الثلاث، وإن خاف ألا يعدل بين الثلاث اقتصر على اثنين، وإن خاف أن لا يعدل بين الاثنين اقتصر على الواحدة.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/63)

ولا يدخل في العدل التسوية في الحب والعاطفة والميل القلبي؛ لأن هذا قد نفاه المولى -عز وجل- حيث قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 1.

ويقول -صلى الله عليه وسلم: $"اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".

القيد الثاني: القدرة على الإنفاق، لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} 2.

وهذا ليس قيدا عند التعدد فحسب، بل هو قيد سواء أكان يريد الزواج بواحدة أم أكثر.

يقول -صلى الله عليه سلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج".

والباءة: هي مؤن النكاح ونفقاته.

ويقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر وصار عالة ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} .

وقال الشافعي: ألا تعولوا: ألا تكثر عيالكم.

وأنكر الثعلبي ما قاله الشافعي قائلا: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله.

ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي بأنه قد سبق إلى القول به زيد بن أسلم وجابر وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية.

وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمرو الدوري وابن الأعرابي.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

2 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/64)

فإذا ما توفر هذان القيدان كان التعدد مباحا ولا حرج فيه، لكن إذا تخلفا أو أحدهما فهل النكاح صحيح أو غير صحيح؟

باتفاق الفقهاء النكاح صحيح؛ لأن هذين القيدين ليسا من شروط الصحة، ومن صم يصح النكاح عند فقدهما أو أحدهما مع الإثم.

وما ذهبت إليه الشريعة الإسلامية من إباحتها للتعدد بهذين القيدين وهو مسلك وسط بين الشرائع، فمن الشرائع ما أباحت التعدد بدون قيد في العدد ولا في الزواج، ومنها ما منعته مطلقا.

وإن مما لا شك فيه أن هذا المسلك من محاسن الشريعة الإسلامية التي تخاطب كل الأشخاص في كل العصر والأزمنة، فراعت ظروف المفرط في شهواته الذي لا تعفه الواحدة، كما راعت ظروف المعتدل في شهواته، وإننا إذا أغلقنا على المفرط في شهواته باب التعدد؛ لأدى به ذلك إلى السقوط في الهاوية، ولو خيرناه بين التعدد وبين الزنا لاختار الأول، هذا إذا كنا نريد أن نسير في هدى ونور.

بالإضافة إلى أن التعدد أحيانا يكون علاجا اجتماعيا للأمة حين يعتريها نقص في عدد رجالها بسبب الحروب التي تحصدهم وتنقص من عددهم ويصبح بذلك عدد النساء أكثر من عدد الرجال، كما حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الأخيرة.

أعندئذ تحرم المرأة من نعمة الزوجية والأمومة ونتركها تقع فريسة للفاحشة والرذيلة، أم أننا نحل مشكلتها بصورة شرعية تصون لها كرامتها وتجعلها تعيش في أسرة طاهرة ومجتمع سليم، أيهما أكرم وأفضل لدى من لديه عقل وكرامة.

لقد لجأت ألمانيا التي يحرم دينها التعدد إلى التعدد رغبة في حماية المرأة الألمانية من الوقوع في مهاوي الرذيلة وما ينتج عنها من كثرة اللقطاء.

ولم يكن التعدد ظلما للمرأة وشرا عليها دائما فقد تكون المرأة مريضة أو عقيم لا تلد، فيكون الزوج مخير بين أمرين بين فراقها، أو يستبقها مع الزواج والثاني فيه مصلحتها لا شك في ذلك فضلا عما فيه من عدالة اجتماعية في حد ذاته.

(1/65)

ومنذ عصر التشريع الإسلامي والمسلمون يعددون الزوجات كما أباحته ظواهر الشريعة الإسلامية ولم يجدوا في ذلك حرجا ولم يكن في الجماعة ظلم.

وعندما غزت بلاد الإسلام الأفكار الغربية الأوروبية التي لا تفهم معنى التعدد في الزواج وظنوا أن ذلك ظلما للمرأة وضياعا لحقوقها.

وتأثر بهذه الأفكار بعض المصلحين من أبناء الإسلام فنظروا إلى الآية الكريمة التي تبيح العدد فوجدوها تقيده بقيدين هما: العدل، والقدرة على الإنفاق، فجعلت هذين القيدين يخرحان من التكاليف الدينية التي بين العبد وربه إلى التطبيق القضائي فيمنع القاضي توثيق عقد الزواج لمن له زوجة إلا بعد التأكد من تحقق هذين القيدين.

ولا أدري من أين جاءوا بهذا، لقد أجمع المسلمون من عصر النبوة، على إباحة التعدد ولم يجعلوا هذين القيدين محل التطبيق كما دعا إلى ذلك هؤلاء، ولم يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أحدا من أصحابه منعا التعدد لعدم العدالة أو لعدم القدرة على الإنفاق.

هذا بالإضافة إلى أنه كيف يعرف القاضي أن من يريد التعدد سيعدل أو لا يعدل، وهذه حال لا يعرفها أشد الناس صلة بالزوج فضلا عن القاضي الذي تفرض عليه طبيعة عمله ألا يتصل بالخصوم اتصالا شخصيا.

ثم القدرة على الانفاق ما مناطها؟ أحالة الزوج أم الزوجة الجديدة، وإذا اعتبرت حالة ورضي هو بأن يضيق قليلا بعد سعة في سبيل ذلك الزواج وهي في جملتها تكفل العيش الضروري أيسوغ للقاضي أن يمنعه بحجة أنه يجب أن يعيش في رفاهية ويحرم من حلال.

ثم إن تدخل القاضي في التطبيق العلمي لهذين القيدين في حق من يريد الزواج بأخرى على زوجته يعتبر تدخلا في حرية التعاقد، وهذا لا يتفق مع مشرعي القوانين الحديثة.

(1/66)

وإذا كان ذلك كذلك إذن فما هو المسوغ لهذا التدخل؟

الجواب: زعموا أن كثيرا من حالات تشرد الأولاد سببه تعدد الزوجات مع عدم القدرة على الإنفاق.

وأقول: هذا زعم باطل، فلقد أثبتت الدراسات الاجتماعية العميقة أن سببه هو إهمال الأب في تربية النشء تربية دينية صالحة. وتعاطي المخدرات، ولعب المسير وغير ذلك من الأسباب ودلت الإحصائيات في الخمسينات أن نسبة التشرد الذي سببه تعدد الزوجات في مصر 3%.

كما أقول: إن علاج هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة ليس في التعدد وإنما علاجها في أمرين:

أولهما: معاقبة من يقصر في واجباته الشرعية نحو أسرته.

الثاني: تربية النشء تربية دينية وخلقية على مستوى البيت والمجتمع.

ويتبادر إلى أذهاننا سؤالا نسأله بصدق لمن ينادي بأن من حق القاضي أن يمنع من يريد التعدد عند عدم العدل أو عدم القدرة على الإنفاق، إذا منع القاضي ذلك فهل تنقطع العلاقة بين الرجل والمرأة اللذان استهوا كلاهما الآخر بمعنى القاضي ارتباطهما شرعيا بحجة عدم العدل أو عدم الإنفاق؟.

كلا وألف كلا فسرعان ما تحل بينهما كلمة الشيطان بدلا من كلمة الرحمن التي منعها سيادة القاضي بحكم القانون فيكون الفساد وكثرة اللقطاء، وما عاد الزوج إلى زوجته الأولى، وما عادت المرأة إلى أسرتها.

وإذا كان عندهما بعض من الوازع الديني تناكحا ما يسمونه بالنكاح العرفي فيوجد مجال لضياع بعض الحقوق.

(1/67)

أركان النكاح

الركن الأول: الصيغة

مدخل

...

أركان النكاح:

الركن في اللغة: الجانب الأقوى من كل شيء يقال: ركنت إلى الله أي اعتمدت عليه، والركن العز والمنعة، ومنه قوله تعالى: {أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 1.

والركن في الاصطلاح: ما تو قف عليه وجود الشيء وكان جزءا من ماهيته وداخلا فيه.

فالركن يخالف الشرط فهو داخل في ماهيته الشيء كالركوع بالنسبة للصلاة والشرط ما توقف الشيء على وجوده وليس جزءا منه كالضوء بالنسبة للصلاة.

وللنكاح أركان خمسة لا ينعقد إلا بها:

الصيغة، والولي، والزوج، والزوجة، والشاهدان:

الركن الأول: الصيغة

التي تتكون من الإيجاب والقبول.

والإيجاب: هو ما صدر من الولي زوجتك أو أنكحتك سواء حدث أولا أم ثانيا.

والقبول: وهو ما صدر من الزوج تزوجت أو نكحت، أو قبلت نكاحها أو تزويجها سواء صدر ذلك منه أولا أم ثانيا.

ولا يشترط توافق الولي والزوج في اللفظ، فلو قال الولي: زوجتك، فقال الزوج: قلبت نكاحها انعقد النكاح، ولا يكفي قول الزوج قبلت بل لا بد وأن يقول: قبلت نكاحها أو تزويجها.

ويصح تقديم لفظ الزوج على الولي لحصول المقصود كما يقول الزوج: تزوجت ابنتك، فيقول الولي: زوجتك.

__________

1 من الآية 80 من سورة هود.

(1/68)

الألفاظ التي ينعقد بها النكاح:

لا ينعقد النكاح إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج وما اشتق منهما فلا ينعقد بلفظ الهبة أو التمليك أو الإحلال.

لما رواه مسلم عن رسول لله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فرجهن بكلمة الله".

ووجه الدلالة من الحديث أن كلمة الله هي الإنكاح أو التزويج فلم يذكر في القرآن الكريم سواهما، فوجب الوقوف عليهما تعبدا واحتياطا.

هذا بالإضافة إلى أن النكاح نوع من أنواع العبادات لورود الندب به، العبادات تتلقى من الشرع، والشرع إنما ورد بالإنكاح أو التزويج.

(1/69)

انعقاد النكاح بغير العربية:

لفقهاء المذهب في انعقاد النكاح بغير اللغة العربية أوجه ثلاثة:

أولها: وهو الأصح: جواز انعقاده سواء أحسن النطق بالعربية أو لم يحسن؛ لأن لفظ النكاح بغير العربية يقوم مقام اللفظ بالعربية.

الثاني: لا يصح اعتبارا باللفظ الوارد في القرآن الكريم "الإنكاح والتزويج".

الثالث: إن عجز عن العربية انعقد بغيرها من اللغات وإن لم يعجز لم ينعقد. الكناية وانعقاد النكاح بها:

كني به عن كذا يكني يكنو كناية؛ تكلم بشيء وهو يريد غيره.

واتفق فقهاء المذهب أن النكاح لا ينعقد بلفظ يكنى به كأحللتك ابنتي، لعدم اطلاع الشهود على النية.

ومن الكنايات الكتابة في حال الحضور أو الغيبة فلا ينعقد بها النكاح، فلو قال الولي لغائب: زوجتك ابنتي، أو قال: زوجتها من فلان ثم كتب إليه فبلغ الزوج الكتاب، فقال: قبلت لم ينعقد بذلك النكاح.

(1/69)

الإشارة في عقد النكاح:

إذا كان العاقد للنكاح قادرا على النطق فلا ينعقد النكاح في حقه بالإشارة؛ لأن اللفظ أدل على المراد من الإشارة، أما الأخرس فلعجزه عن النطق يصح انعقاد النكاح، بإشارته بشرط أن تكون واضحة الدلالة على المراد يفهمها العاقد الآخر والشهود وذلك لأنها الوسيلة الوحيدة في حقه فبها يقضي جميع حاجياته.

(1/70)

شروط الصيغة:

يشترط في الصيغة التي تتكون من الإيجاب والقبول عشرة شروط:

1- ألا يتخلل الإيجاب والقبول كلام أجنبي عن العقد لا سكوت طويل يشعر بالإعراض عن العقد.

فإن فصل بينهما بخطبة النكاح كأن يقول الولي: زوجتك، فيقول الزوج: بسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله قبلت النكاح.

ففي انعقاد النكاح بذلك قولان:

أحدهما: ينعقد؛ لأن الخِطْبة مشروعة في العقد.

الثاني: لا ينعقد لوجود فاصل بين الإيجاب والقبول كما لو فصل بينهما بغير الخطبة.

2- موافقة الإيجاب للقبول:

فلو قال الولي: زوجتك ابنتي فاطمة البكر البالغة العاقلة، فقال الزوج: قبلت نكاح ابنتك زينب البالغة العاقلة الثيب فلا ينعقد النكاح؛ لأن الإيجاب على زوجة غير التي عليها القبول.

3- أن تكون الصيغة منجزة؛ لأن عقد النكاح عقد وضع ليفيد حكمه في الحال وتترتب عليه آثاره عقب انعقاده.

(1/70)

والتعليق نوعان: صوري، وحقيقي

أولا- التعليق الصوري:

كأن يعلق العقد على شيء موجود أثناء العقد بأن يقول الولي: زوجتك ابنتي إن كنت طبيبا، والزوج بالفعل طبيب، أو يقول الزوج قبلت نكاح ابنتك إن كانت مدرسة وهي بالفعل مدرسة.

فإن كان التعليق بهذه الصورة فإنه لا يؤثر في انعقاد العقد، وذلك لأنه لا يترتب على التعليق منع أي أثر من آثار العقد فتعليقه من حيث الصورة.

ثانيا- التعليق الحقيقي:

كأن يقول الولي للزوج: زوجتك ابنتي إذا حضر أبوك من السفر، أو يقول الزوج: تزوجت ابنتك إذا حضر أبي من السفر.

فلا ينعقد العقد أبدا؛ لأن المعلق على غير موجود لا يكون موجودا كذلك.

4- أن تكون الصيغة على التأبيد لا على التأقيت بمدة معلومة كشهر أو سنة، أو مجهولة كقدوم زيد.

فإن أوقت بوقت معلوم أو مجهول كان نكاح المتعة الذي حرمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام خيبر بعدما أن كان مباحا، وفي ذلك يقول إمامنا الشافعي -يرحمه الله: "لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة".

5- ألا يكون العقد مضافا إلى زمن مستقبل.

كأن يقول الولي: زوجتك ابنتي في شهر ربيع الأول وهما في رمضان، أو يقول الزوج تزوجت ابنتك في شهر الله المحرم وهما في رمضان.

فلا ينعقد النكاح إذا أضيف إلى زمن المستقبل؛ لأن الإضافة تتنافى مع آثار العقد التي تترتب عليه في الحال.

6- ألا تقترن الصيغة بشرط.

والشرط الذي تقترن به صيغة عقد النكاح، إما أن يكون من مقتضيات العقد، أو يكون منافيا له، أو يكون شرطا نهى عنه الشرع، أو شرط يعود نفعه على المرأة

(1/71)

ولكل شرط من هذه الشروط التي تقترن بالصيغة حكمه الخاص به نوضحه فيما يلي:

الشروط التي يجب الوفاء بها:

وهي كل شرط من مقتضيات العقد ومقاصده ولم يتضمن مخالفة لشرع الله أو ارتكاب محظور حرمه الإسلام، كاشتراط معاشرة الزوجة بالمعروف، أو يقسم لها كغيرها من الزوجات أو أنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه، أو لا تصوم إلا بإذنه، أو لا تتصرف في شيء من ماله إلا بإذنه.

فمثل هذه الشروط يجب الوفاء بها لقوله -صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا".

الشروط التي لا يجب الوفاء بها مع صحة العقد:

وهي كل ما كان منافيا لمقتضى العقد كأن يشترط الزوج عليها أن لا مهر لها ولا نفقه ولا يطأها أو يطأها ويعزل عنها، أو اشترط أن تنفق هي عليه، أو تشترط المرأة ما يعود نفعه وفائدته إليها كأن تشترط عليه ألا يخرجها من بلدها أو بيت أبيها، أو لا يتزوج عليها أو لا يسافر بها، فمثل هذه الشروط باطلة لا يجب الوفاء بها؛ لأنها تنافي العقد حيث إنها تتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده، أما العقد في نفسه فهو صحيح؛ وذلك لأن هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد لا يشترط ذكره ولا يضر الجهل به، فلم يبطل العقد قياسا على من عقد واشترط في العقد صداقا محرما كالخمر أو الخنزير، ولأن الزوج يصح مع الجهل بالعقد فجاز أن ينعقد مع الشرط والفاسد.

الشروط التي لا يجب الوفاء بها وتؤدي إلى فساد العقد:

وهي كل شرط نهى عنه الشرع وحرمه وحرم الوفاء به كأن تشترط المرأة عند العقد عليها طلاق ضرتها.

(1/72)

لما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن تشترط المرأة طلاق ضرتها" لما رواه الإمام أحمد عن عبد لله بن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى".

ووجه الدلالة: أن نهي النبي صلى الله وسلم يقضي فساد المنهي عنه، ولأنه اشترطت عليه فسخ عقده وإبطال حقه وحق امرأته فلم يصح.

والفرق بين اشتراط المرأة عدم الزواج عليها الذي لا يجب الوفاء به ويصح معه العقد، وبين اشتراطها طلاق ضرتها الذي لا يجب الوفاء به ويبطل معه العقد وهو أن اشتراط طلاق الزوجة فيه إضرار بها لما فيه من كسر لقلبها وخراب بيتها وشماتة أعدائها ولا ضرر لا ضرار.

ومن صور الزواج المقترن بشرط غير صحيح زواج الشغار وصورته أن يزوج الرجل وليته لآخر على أن يزوجه الآخر وليته ولا صداق بينهما وقد كان هذا مشهورا في الجاهلية.

وقد نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه سلم- فقال فيما رواه مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما: "لا شغار في الإسلام".

وروى ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الشغار، الشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي وليس بينهما صداق.

ووجه الدلالة هو نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشغار والنهي يقتضي البطلان واختلف العلماء في علة النهي، فقال بعضهم: هي التعليق والتوقيف، كأنه يقول لا ينعقد زواج ابنتي حتى ينعقد زواج ابنتك، وقال البعض الآخر: إن علة النهي هي التشريك في البضع، جعل بضع كل واحدة مهرا للأخرى وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر بل عاد المهر إلى الولي وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم بين وواضح للمرأتين وإخلاء نكاحها من مهر تنتفع به.

(1/73)

7- اتحاد المجلس.

فلو أجاب في مجلس، وقبل الزوج في مجلس آخر فلا ينعقد النكاح لعدم اتحاد المجلس.

8- ألا يرجع الموجب عن إيجابه قبل قبول الآخر، ولا يصدر من القابل ما يدل على الإعراض عن القبول.

9- أن يبقي العاقد على صفة الكمال حتى يوجد القبول.

فلو أوجب الموجب ثم مات أو جُن أو أغمي عليه أو رجعت الآذنة أو أغمي عليها أو جُنت أو ارتدت امتنع القبول.

10- أن يكون الإيجاب والقبول بلفظين وضعا للماضي، أو وضع أحدهما للماضي والآخر للمستقبل.

الصيغة التي ينعقد بها العقد لا يخلو حالها من أحوال ثلاثة:

الحال الأولى: أن تعقد بلفظ الماضي.

الحال الثانية: أن تعقد بلفظ المستقبل.

الحال الثالثة: أن تعقد بلفظ الأمر.

الحال الأولى: أن يعقد الموجب والقابل بلفظ الماضي فضربان

أحدهما: أن يعقداه بالبذل والقبول، بأن يقول الولي: قد زوجتك ابنتي على صداق قدره ثلاث آلاف جنيه مثلا، فيقبل الزوج قد قبلت نكاحها على هذا الصداق، أو يقول: قبلت نكاحها ولا يذكر الصداق، ففي الصورتين ينعقد النكاح باتفاق فقهاء المذهب.

أما إذا قال: قد قبلت ويسكت ولا يذكر النكاح ولا الصداق ففي انعقاد النكاح بذلك قولان:

القول الأول: لا ينعقد النكاح بذلك؛ لأنه لم يوجد منه التصريح، بواحد من لفظي النكاح والتزويج، ونيته لا تكفي في الانعقاد.

(1/74)

القول الثاني: ينعقد العقد

لأن قوله قبلت إنما هو جواب للبذل الصريح وجواب الصريح يكون صريحا، ولأن البذل والقبول معتبر في النكاح كاعتباره في البيع.

الضرب الثاني: أن يعقداه بالطلب والإيجاب.

وهو أن يبدأ الزوج فيقول للولي: زوجني ابنتك على صداق ألف جنيه مثلا، فيقول الولي: قد زوجتكها على هذا الصداق، أو يقول: قد زوجكتها ويسكت ولا يذكر الصداق، ففي الصورتين ينعقد العقد أما إذا قال الولي: قد فعلت، أو قد أجبتك، ولا يقول: قد زوجتكها فلا ينعقد النكاح باتفاق في المذهب؛ لأن الولي هو المملك لبضع المنكوحة فكان الاعتبار الصريح في لفظه أساس في انعقاد العقد ولا ينعقد العقد بدونه.

أما إذا ابتدأ الولي فقال: زوجت بنتي على زواج ألف جنيه مثلا فقال الزوج: قد تزوجتها على هذا الصداق لم يصح العقد إلا إذا عاد الولي فيقول: قد زوجتكها.

ذلك لأن قول الولي في الابتداء: زوجت بنتي ليس ببذل منه ولا إجابة، وإنما هو استخبار، والنكاح لا ينعقد من جهة الولي إلا بالبذل إن كان مبتدأ أو بالإيجاب إن كان مجيبا، فإذا كان كذلك صار ما ابتدأ به الولي استخبارا غير مؤثر في العقد، ويكون جواب الزوج طلبا فكان واجبا على الولي أن يعود فيقول: قد زوجتكها، فعندئذ يصير النكاح منعقد بالطلب من الزوج وبالإيجاب من الولي.

وهكذا لو ابتدأ الزوج فقال للولي: زوجتني ابنتك، فقال الولي: قد زوجكتها لم ينعقد العقد؛ لأن ما ابتدأ به الزوج استخبار، والعقد لا يتم من قبل الزوج إلا بالطلب إن كان مبتدأ أو بالقبول إن كان مجيبا وليس استخباره طلبا ولا قبول، فإن عاد الزوج بعد قول الولي: قد زوجتها، وقال -أي الزوج- قد قبلت تزويجها صح العقد حينئذ بالبذل من الولي، وبالقبول من الزوج.

(1/75)

الحال الثانية: أن تعقد الصيغة بلفظ المستقبل من الولي والزوج.

كأن يقول الولي: أزوجك بنتي، فيقول الزوج: أتزوجها.

أو يقول الزوج: أتزوج ابنتك، فيقول الولي، أزوجها، فلا ينعقد النكاح في الصورتين بقوليهما؛ لأن كلاهما مجرد وعد بالنكاح وليس بنكاح.

إلا إذا عاد الولي فقال: قد زوجتكها وقال الزوج: قد تزوجتها، فينعقد بالبذل من الولي وبالقبول من الزوج.

وكذلك لو قال الولي للزوج: أأزوجك بنتي؟ فقال الزوج: أأتزويج ابنتك؟ لا ينعقد العقد؛ لأنه استفهام للوعد فكان أضعف منه.

إلا إذا عقب الولي بالبذل فقال: زوجتك بنتي، وعقب الزوج بالقبول: قد تزوجتها.

الحال الثالثة: أن يعقد بلفظ الأمر

وهو أن يقول الولي للزوج آمرا: تزوج ابنتي فيقول الزوج: قد تزوجتها فلا يصح العقد إلا إذا عقب الولي على كلام الزوج قائلا: قد تزوجكتها.

ولو بدأ بالزوج فقال للولي: زوجني ابنتك، فقال الولي: قد زوجتكها صح العقد ولسنا بحاجة أن يعقب الزوج بالقبول.

والفرق بين الصورتين أن المراعى من جهة الولي البذل إن كان مبتدأ، والإيجاب إن كان موجبا، وليس في أمره بذل ولا إيجاب فلم يصح العقد.

والمراعى من جهة الزوج الطلب إن كان مبتدأ، والقبول إن أجاب، وأمره تضمن الطلب وإن لم يتضمن القبول فصح به العقد وتم بالطلب منه وبالإيجاب من الولي، فإذا استوفيت صيغة العقد هذه الشروط فقد انعقد العقد وترتبت عليه آثاره الشرعية، ولا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط.

لأن الخيار موضوع لاستدراك المعاينة في المفاوضات، وليس النكاح منها، لجوازه مع الإخلال بذكر العوض من الصداق فإن اشترط فيه خيار الثلاث أبطله باتفاق المذهب.

(1/76)

آداب عقد النكاح

الخطبة قبل العقد

...

آداب العقد:

بمناسبة الحديث عن الصيغة التي هي أهم ركن من أركان عقد النكاح واستكمالا للفائدة نذكرآداب العقد أي الأمور المسنونة عند إنشائه طامعين في الالتزام بها إن استطعنا إلى ذلك سبيلا إحياء لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أمرنا الله تعالى بطاعته وجعل طاعته طاعة لله فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 1.

ومن أهم آداب عقد النكاح ما يلي:

أ- الخطبة قبل العقد.

والأفضل أن يخطب خطبة الحاجة والتي نصها: إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن الله إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 3.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 4.

__________

1 من الآية 80 من سورة النساء.

2 الآية 102 من سورة آل عمران.

3 من الآية 1 من سورة النساء.

4 الآية 70، 71 من سورة الأحزاب.

(1/77)

وزاد بعض فقهاء المذهب أن يقول بعد هذه الخطبة: أما بعد: فإن الأمور كلها بيد الله يقضي فيها ما يشاء ويحكم ما يريد، لا مؤخر لما قدم، ولا مقدم لما أخر، ولا يجتمع اثنان لا يفترقان إلا بقضاء الله وقدره وكتاب قد سبق، وإن مما قضى الله وقدر أن يخطب فلان بن فلان، فلانة بنت فلان على صداق كذا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم أجمعين.

ولو خطب الولي أوجب قائلا: الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجتك ابنتي، فقال الزوج قبل قبوله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله -صلى الله عليه وسلم- قبلت زواج ابنتك انعقد العقد على الصحيح في المذهب؛ لأن الخطبة بين لفظيهما من مصالح العقد فلا تقطع المولاة كالإقامة بين صلاتي الجمع.

والثاني: لا يصح العقد؛ لأن الفاصل ليس منه.

والحكمة من مشروعية الخطبة: قبل العقد هي: أن العرب في الجاهلية كانوا يحرصون عليها لذكر مفاخر قومهم، وليتميز بها النكاح عن السفاح؛ لأن الخطبة مبناها على التشهير وجعل الشيء بمسمع ومرأى من الجميع.

هذا بالإضافة إلى أن الخطبة لا تستعمل إلا في الأمور المهمة، والاهتمام بالنكاح وجعله أمرًا عظيمًا بينهم من أعظم المقاصد، لذلك أبقى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلها وغير وصفها فشرع فيها أنواعا من الحمد والاستعانة بالله -عز وجل- والاستغفار التعوذ والتوكل والتشهد وآيات من القرآن الكريم، وأشار إلى ذلك كله فقال -صلى الله عليه وسلم: "كل خُطبة ليس فيها تشهد فيه كاليد الجذماء".

وقال: "كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله -عز وجل- فهو أجذم".

وقال: "فصل ما بين الحلال والحرام، الصوت والدف في النكاح".

(1/78)

ب- الدعاء بعد العقد:

لما روي عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: تزوجني النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتتني أمي أفدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. وراه البخاري.

وكذلك روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفأ الإنسان أي إذا تزوج، قال له النبي: "بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير".

(1/79)

ج- إعلان الزواج وإشهاره:

وذلك بأن يحضر العقد جمع من أهل الصلاح بالإضافة إلى الشاهدين اللذين هما ركنان لصحة العقد.

بشرط ألا يصحب الإشهار محظور نهى عنه الشرع كاختلاط الرجال بالنساء أو شرب الخمر أو ما اعتاده الناس اليوم من إحضار ما يسمونه بالفرقة الموسيقية ذات الآلات المزعجة مع مكبرات الأصوات مما يكون سببا في الإزعاج وزيادة الضوضاء، ويزداد الطين بلة إذا كان ضمن هذه الفرقة راقصة فاجرة ترقص أمام الشباب غيرهم من الحاضرين شبه عارية مع يتضمنه الغناء من فحش وفجور، وكل ذلك إسراف تبذير حرمه الإسلام.

فلنتق الله في ديننا وليقتصر الإشهار والإعلان على ما أرشدنا إليه النبي الكريم -صلى الله عليه سلم- حين قال -فيما رواه أحمد والترمذي وحسنه: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف".

ولا شك أن من جعل النكاح في المسجد أبلغ في إشهاره وإعلانه؛ إذ إن المساجد هي المجامع العامة للناس.

وكذلك روى الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف" ومما أباحه الإسلام

(1/79)

ورغب فيه الغناء عند العقد لإشهاره وترويحا للنفوس وتنشيطا لها باللهو البريء الذي يخلو من فحش القول والخلاعة والميوعة.

روى النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد -رضي الله عنه- قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوارٍ يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أهل بدر يفعل هذا عندكما؟! فقالا: إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب قد رخص لنا في اللهو عند العرس.

وروى البخاري وأحمد وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: زفت الفارعة بنت أسعد وسرت معها في زفافها إلى بيت زوجها نبيط بن جابر الأنصاري، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".

وفي رواية أخرى قال: "فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ "

قالت عائشة: تقول ماذا يا رسول الله؟

قال: تقول:

أتيانكم أتيانكم ... فحيونا نحييكم

ولولا الذهب الأحمر ... ما حلت بواديكم

ولولا الحنطة السمراء ... ما سمنت عذاريكم

(1/80)

د- أن ينوي الزوج بالنكاح إقامة السنة:

وغض البصر، وحفظ الفرج، وطلب الولد.

ولا يكون القصد منه مجرد الهوى والتمتع فحسب، فيصير عمله من أعمال الدنيا، لا يمنع ذلك هذه النيات فرب حق يوافق الهوى، قال عمر بن عبد العزيز -يرحمه الله: إذا وافق الحق الهوى الزبد بالنرسيان.

والمعنى إذا وافق الحق هوى الإنسان تلذذ به كمن يتلذبب بأكل الزبدة مع التمر.

(1/80)

هـ- وصية الزوجة:

مستحب أن توصي الزوجة قبل زفافها لبيت الزوجية بالوصايا التي من شأنها إسعادها مع زوجها.

يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا زفوا امرأة على زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقوقه.

وأوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابنته، فقال: إياك والغيرى، فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب، فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء.

(1/81)

و الوليمة:

تعريفها:

مأخوذة من الولم، وهو الجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان، وفي الاصطلاح: الطعام في العرس خاصة.

حكمها ودليلها:

يروى في أحد القولين في المذهب أنها سنة مؤكدة؛ لثبوتها عنه -صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا، ففي صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- أولم على بعض نسائه بمدين من شعير، وأنه أولم على صفية بتمر وسمن وأقط.

كما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: "أولم ولو بشاه".

وفي القول الثاني إنها واجبة وجوبا عينيا على المتزوج.

لما رواه الطبراني مرفوعا "الوليمة حق".

وفي مسند الإمام أحمد من حديث بريدة قال: لما خطب علي بن أبي طالب فاطمة رضي الله عنها قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنه لا بد للعرس من وليمة".

ووجه الدلالة: أن قوله -صلى الله عليه وسلم- حق وقوله لا بد للعرس من وليمة يدلان على الوجوب.

ويجاب عن ذلك بأنه ليس المراد بالحق الوجوب بل المراد به أنها ليست بباطل ولكن يندب إليها.

والراجح القول: بأنها سنة مؤكدة قياسا على الأضحية وسائر الولائم، ولو كان الأمر الوجوب لوجبت وهي لا تجب إجماعا ولا عينا ولا كفاية.

(1/83)

ما يجزئ في الوليمة:

أقلها للقادر الموسر شاة، ولغيره ما قدر عليه، وبأي شيء أولم من الطعام جاز وهو يشمل المأكول والمشروب ويشمل الذي يقدم للمدعوين حال العقد أو بعده من مشروب أو غيره.

الإجابة عليها، علمنا أن الوليمة سنة مؤكدة في أحد القولين، وفي القول الثاني واجبة وجوبا عينيا، فعلى القول بأنها سنة مؤكدة لفقهاء المذاهب في حكم الإجابة عليها أوجه ثلاثة:

أولها: أن الإجابة فرض عين لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "إذا دعي أحد إلى الوليمة فليأتها" وفي صحيح مسلم يقول -صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء؛ ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".

ووجه الدلالة: هو أن قوله -صلى الله عليه وسلم: "فليأتها" أمر والأمر للوجوب ما لم تكن هناك قرينة صارفة إلى غيره.

وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الثاني "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" دليل على وجوب الدعوة؛ لأن العصيان لا يكون إلا ترك الواجب.

الوجه الثاني: الإجابة عليها: فرض كفاية.

لأن المقصود إظهار النكاح وإعلانه وتميزه عن السفاح وذلك يحصل بحضور البعض.

الوجه الثالث: الإجابة عليها سنة.

لأن الأمر بحضورها والإجابة عليها محمول على تأكيد الاستحباب.

وعلى القول الثاني القائل بموجبها وجوبا عينيا تكون الإجابة عليها واجبة قطعا وقت الوليمة.

(1/84)

ووقت الوليمة: عند إنشاء العقد أو بعده، أو عند الدخول أو بعده، فالأمر فيه سعة حسبما تعارف أهل كل زمان ومكان.

وشروط وجوب الدعوة:

إذا كانت الإجابة واجبة على ما ذكر في المذهب فلوجوبها شروط تعتبر في الداعي، وشروط تعتبر في المدعو.

فأما الشروط المعتبرة في الداعي فعشرة:

أن يكون بالغا يصح منه الإذن والتصرف في ماله، فإن كان غير بالغ لم تلزم إجابته.

أن يكون عاقلا؛ لأن المجنون أسوأ حالا من الصغير.

أن يكون رشيدا يجوز تصرفه في ماله، فإن كان محجورًا عليه لم تلزم إجابته، حتى ولو أذن له وليه؛ لأنه مأمور بحفظ ماله لابإتلافه.

أن يكون حرًّا؛ لأن العبد لا يجوز تصرفه فلم تلزم إجابته إلا إذا أذن له سيده في ذلك فإنه عندئذ يكون كالحر تلزم إجابته.

أن يكون مسلما تلزم موالاته في الدين، فإن كان الداعي ذميا والمدعو مسلم ففي لزوم إجابته وجهان.

أحدهما: يجب أن يجيب دعوته لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا الداعي فإنه ملهوف".

والوجه الثاني: لا تلتزم إجابته؛ لأنه ربما كان طعامه مستخبثا محرما، ولأن المقصود بالطعام التواصل به واختلاف الدين يمنع من تواصلهما.

وإن كان الداعي مسلم والمدعو ذميا، لا تلزم إجابة الذمي قولًا واحدًا؛ لأنه لا يلتزم أحكام شرعنا إلا عن تراض.

أن يصرح بالدعوة إما بالقول أو بالمراسلة أو المكاتبة لتعارف الناس على ذلك.

أما أن يقول لمن يدعوه: إن شئت أن تحضر فافعل، لم تلزم إجابة الدعوة.

(1/85)

يقول إمامنا الشافعي -يرحمه الله: "وما أحب أن يجيب".

ألا يكون الداعي امرأة أجنبية وليس في موضع الدعوة محرم لها ولا للمدعو وإن لم يخل بها

ألا يخص الداعي بدعوته الأغنياء لغناهم دون الفقراء.

لقوله -صلى الله عليه سلم- فيما أخرجه مسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء".

بل يعم بدعوته الأغنياء والفقراء من أهله وعشريته وجيرانه.

وأن يكون قصد الداعي بدعوته التودد والتقرب وليس مقصده الخوف منه إن لم يدعوه أو يدعوه طمعا في جاهه أو إعانته على باطل.

أن تكون دعوة الداعي لمن يدعوه في اليوم الأول، فإن أولم ثلاثة أيام أو أكثر لم تجب إجابته في اليوم الثاني قطعا بل تسن فيه وتكره في اليوم الثالث وفيما بعده.

لما رواه أبو داود وغيره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوليمة في اليوم الأول حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة".

إلا إذا لم يكن في مقدور الداعي استيعاب من يريد دعوتهم في اليوم الأول لكثرتهم، أو لضيق منزله، أو غيرهما وجبت إجابته؛ لأن ذلك كوليمة واحدة دُعي الناس إليها أفواجها في يوم واحد.

ولو أولم في يوم واحد مرتين لغير عذر مما سبق ذكره، فالمرة الثانية كاليوم الثاني لا تجب إجابتها.

وأما الشروط المعتبرة في المدعو فتسعة:

أن يكون بالغا عاقلا حرا.

أن يكون مسلما فإن كان ذميا فلا تلزمه الإجابة.

ألا يكون هناك عذر يمنعه من مرض وغيره، فلو كان معذورا أو كان الطريق بعيدا تلحقه المشقة فلا بأس بتخلفه.

(1/86)

ألا يكون هناك ما يتأذى المدعو بحضور كمنكر وغيره.

ألا يكون قاضيا، فإن كان كذلك لا تجب إجابته.

ألا يسبق الداعي غيره بالدعوة، فلو دعا اثنان شخصا في يوم واحد فإن قدر على الحضور إليهما لزمته إجابتهما وإن لم يقدر أجاب دعوة الأسبق منهما.

فإن جاء الداعيان معا لزم على المدعو إجابة الأقرب جوارا، فإن استويا في الجوار أجاب أقربهما رحما، فإن استويا في القرابة أقرع بينهما.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا دعاك اثنان فأجب أقربهما بابا، فإن استويا فأقربهما جوارًا، فإن جاء معا فأجب أسبقهما".

ألا يدعوه من أكثر ماله حرام، فإن علم المدعو أن عين الطعام الوليمة حرام حرمت عليه الإجابة، وإن لم يعلم فإجابته للدعوة مباحة.

إن كان صائما أجاب الدعوة ودعا للداعي بالبركة وانصرف لما رواه الشافعي -رحمه الله- قال دُعِيَ ابن عمر -رضي الله عنهما- فجلس ووضع الطعام فمد يده وقال: خذوا باسم الله ثم قبض يده، وقال: إني صائم.

فالصوم ليس عذرا في التأخير، لما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دُعي أحدكم إلى وليمة فليجب فإن كان مفطرًا فليأكل، وإن كان صائما فليدع، وليقل: إني صائم".

ولأن المقصود من حضوره التواصل، والصوم لا يمنع من ذلك.

فإذا حضر الصائم وكان صومه فرضا لم يفطر ويدعو بالبركة وليقل: إني صائم وإن شاء أقام حتى الإفطار، وإن شاء انصرف.

وإن كان صومه تطوعا فيستحب له أن يأكل ويفطر، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فإن كان تطوعا فليفطر وإلا فليصل".

لأنه في عبادة فلا تلزمه مفارقتها.

(1/87)

وأحب أمامنا الشافعي -رحمه الله- له الإفطار، فقال: "وإن كان المدعو صائما أجاب الدعوة وترك وانصرف وليس بحتم أن يأكل وأحب لو فعل".

إن كان المدعو مفطرًا وأجاب الدعوة فهل يجب عليه الأكل أو لا؟

لفقهاء المذهب في ذلك أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: يجب عليه الأكل؛ لأنه مقصود الحضور ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليدع، وليقل: إني صائم".

ووجه الدلالة أن قوله -صلى الله عليه وسلم: "فليأكل" أمر بالأكل والأمر للوجوب.

الوجه الثاني: لا يجب عليه الأكل بل هو بالخيار إن شاء أكل وإلا فلا، لما رواه جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فإن شاء طعم، وإن شاء ترك".

الوجه الثالث: أن الأكل فرض كفاية إذا أكل بعض الحاضرين كفى عن الجميع وإن لم يأكل الجميع أثموا لما في امتناعهم عن الأكل من كسر لنفس الداعي وإفساد طعامه.

الآداب التي يجب على المدعو الالتزام بها عند إجابته للدعوة.

إذا أجاب المدعو دعوة من دعاه على وليمة العرس وجب عليه أن يلتزم بالآداب الآتية:

1- أن يأكل مما قدم له وإن لم يأذن له الداعي اكتفاء بالقرينة العرفية، إلا إذا كان ينتظر حضور غيره فلا يأكل إلا بإذن لفظا أو بحضور الغير.

2- أن يأكل إلى حد الشبع أو دونه وتحرم عليه الزيادة على الشبع لما فيه من الإضرار به ولمخالفة العادة.

3- ليس له أن يأخذ ما يأكل منه ليحمله إلى منزله، ولا أن يعطيه لغيره، ولا أن يبيعه؛ لأن الأكل هو المأذون فيه دون غيره.

(1/88)

4- إذا جلس على الطعام ليس عليه أن يطعم غيره منه، فإن فعل وكان الذي أطعمه من المدعوين لم يضمن، وإن كان من غير المدعوين ضمن.

5- ليس من حقه أن يصطحب إلى الطعام من لم يدعه صاحب الوليمة، فإن أحضر معه غيره فقد أساء.

6- يستحب أن يستعمل الآكل آداب الأكل المسنونة، من غسل اليدين قبل الأكل وبعده، والتسمية قبل الأكل والحمد لله بعده، وأن يأكل مما يليه.

7- إن كان في الوليمة معصية من مسكر أو خمر أو ما أشبه ذلك من المعاصي الظاهرة نهاهم عنها فإن انتهوا جلس وإلا انصرف.

النثار:

النثار: بضم النون أو كسرها: اسم لما يُنْثر في النكاح أو غيره ومما اعتاداه الناس عند النكاح أو غيره من المناسبات السعيدة كالولادة أو الختان أن ينثيروا على رءوس الحاضرين قطع من السكر أو الجوز أو اللوز أو الحلوى أو غير ذلك.

ولفقهاء المذهب في حكمه وجهان:

أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي -يرحمه الله- اختاره جمهور الأصحاب أنه مكروه وتركه أولى من فعله لعدة أمور:

1- أنه قد يوقع بين الحاضرين تناهبا وتنافر وما أدى إلى ذلك فهو مكروه.

2- أنه قد لا يتساوى الناس فيه وربما حاز بعضهم أكثره ولم يصل إلى الآخرين شيء منه فتنافسوا.

3- أنه قد يلجا الناس فيه إلى إسقاط المروءات إن أخذوا أو يتسلط عليهم السفهاء إن أمسكوا.

وقد كانت الصحابة -رضي الله عنهم- والرسول -صلى الله عليه وسلم- أحفظ للمروءات وأبعد للتنازع والتنافس.

(1/89)

فلذلك يكره النيثار بعدهم، وإن لم يكره في زمانهم، وعادة أهل المروءات في وقتنا أن يقتسموا ذلك بين من أرادوا أو يحملوا إلى منازلهم فيخرج بذلك عن حكم النثير إلى حكم الهدايا.

الوجه الثاني: أنه مباح ليس بمستحب ولا مكروه وفعله وتركه سواء، اعتبارا بالفعل الجاري.

التقاطه:

لفقهاء المذهب في حكم التقاط النثر وجهان:

الوجه الأول: أنه مكروه.

الثاني: أنه ليس بمكروه إذا كان الملتقط مدعوا كما لا يكره أكل طعام الوليمة للمدعو.

(1/90)

الركن الثاني: الزوج

ويشترط في الزوج الذي يكون أهلا لإنشاء العقد شروط ستة:

أولها: أن يكون مكلفا -أي بالغا عاقلا.

فالصبي والمجنون ليسا أهلا لإنشاء العقد؛ لأنهما لا ولاية لهما على نفسيهما. ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة؛ عن الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ".

وإنما يزوج الصغير العاقل الأب إن علا، ولا يصح تزويج الوصي أو القاضي له؛ لعدم الحاجة وانتفاء كمال الشفقة هذا هو الصواب الذي صرح به جمهور فقهاء المذهب.

وقيل: يزوجه الوصي والحاكم كالأب، وضعف هذا الإمام النووي، فقال في الروضة، ليس بشيء. ا. هـ.

(1/90)

أما المجنون، فإن كان كبيرا لم يزوج لغير الحاجة، ويزوج للحاجة، وذلك بأن تظهر رغبته في النكاح أو بأن يكون محتاجا لمن يقوم على خدمته ولا يجد من محارمه من يقوم بذلك، أو بأن يتوقع شفاؤه بالنكاح.

وإذا جاز تزويجه فالذي يزوجه الأب، ثم الجد، ثم السلطان ولا يزوجه أحد غير هؤلاء من العصبات.

وإذا كان المجنون صغيرًا: لم يصح تزويجه على الصحيح، وقيل: يزوجه الأب وإن علا.

الثاني: ألا يكون محجورًا عليه بسفه.

فإن كان كذلك رجع أمره إلى وليه إما أن يزوجه أو يأذن له في أن يزوج نفسه، فإذا زوج السفيه نفسه بإذن وليه جاز نكاحه على الصحيح، وقيل: لا يجوز نكاحه قياسا على بطلان نكاح الصغير.

وإذا قلنا بجواز نكاح السفيه بإذن وليه على الصحيح في المذهب فلا يخلو الحال من أمرين.

إما أن يطلق له الولي الإذن، فيقول له: تزوج ولا يُعيِّن له المرأة، فالأصح أنه يكفي الإطلاق ويتزوج من يشاء بمهر المثل أو أقل منه، فلو تزوج بأزيد من مهر المثل صح النكاح وسقطت الزيادة.

وإن تزوج شريفة يستغرق مهر مثلها كل ماله، فلا يصح نكاحه؛ لأنه لم يتقيد بما يوافق مصلحته.

وقيل: لا بد من تعيين المرأة أو القبيلة أو المهر.

وإن عين له امرأة لم يصح أن ينكح غيرها ولينكحها بمهر مثلها أو أقل منه.

ولو قدر له الولي المهر كأن قال له: انكح امرأة بألف، ولم يعين له المرأة، فلينكح امرأة بألف.

(1/91)

ولو جمع الولي في الإذن بين تعيين المرأة وتقدير المهر، كأن قال له: انكح فلانة بألف، فإن كان مهر مثلها دون الألف فالإذن باطل، وإن كان ألف فنكحها بألف أو أقل صح النكاح بالمسمى، وإن زاد عن الألف سقطت الزيادة.

والإذن من الولي للسفيه في النكاح لا يفيد جواز توكيل السفيه غيره في نكاحه؛ لأنه لا يزال محجورا عليه.

وإذا قبل الولي النكاح للسفيه، فهل يشترط إذنه أو لا؟

وجهان في المذهب:

أحدهما: لا يشترط إذنه؛ لأن الولي فُوِضَ إليه رعاية مصلحة السفيه فإذا عرف حاجته زوجه كما يكسوه ويطعمه.

والثاني: وهو الأصح أنه يشترط إذنه؛ لأنه حر مكلف.

ثم إذا قبل له الولي النكاح، فليقبل بمهر المثل أو أقل، فإذا زاد عن مهر المثل ففي أظهر القولين: أن النكاح يصح بمهر المثل وتسقط الزيادة.

وفي القول الثاني: يبطل النكاح.

وهل يشترط في نكاح السفيه حاجته إليه؟

قال أكثر فقهاء المذهب: يشترط في نكاح السفيه حاجته إليه، وإن لم يكن بحاجة إليه فهو إتلاف لماله بلا فائدة، ومن ثم فإنه لا يزوج إلا واحدة كالمجنون، وحاجته إلى النكاح تتحقق بأن تغلب شهوته أو يحتاج إلى من يقوم بخدمته لعدم وجود من يقوم بذلك من محارمه، ولم يكتف في الحاجة بقوله؛ لأنه قد يقصد إتلاف ماله، ولكنهم اعتبروا ظهور الأمارات الدالة على غلبة شهوته وإذا طلب السفيه النكاح مع ظهور الأمارات الدالة على غلبة شهوته وجب على الولي إجابته، فإن امتنع رفع السفيه أمره إلى السلطان كالمرأة التي عضلها الولي، فإن خفت الحاجة وتعذرت عليه مراجعة السلطان وزوج السفيه نفسه بنفسه.

(1/92)

ففي أصح الوجهين: لا يصح نكاحه؛ لأنه محجور عليه لسفهه ولم يؤذن له في النكاح.

والثاني: يصح لامتناع الولي عن تزويجه مع حاجته إليه.

ولو نكح السفيه بغير إذن وليه مع عدم حاجته إليه فنكاحه باطل ويفرق بينهما، فإن كان قد دخل بها فلا حد عليه للشبهة وفي إيجاب المهر عليه بالدخول عدة أوجه:

أصحها: أنه لا يجيب عليه قياسا على ما لو قام بشراء شيء فأتلفه.

والثاني: يجب مهر المثل.

والثالث: يجب لها أقل ما يتمول أي ما يعتبر مالا.

من الذي يتولى تزويج السفيه؟

الأب وإن علا فإن عدما فالقاضي أو من يفوضه في ذلك، سواء بلغ سفيها أو بلغ رشيدا ثم طرأ عليه السفيه.

إقرار السفيه بالنكاح:

وإذا أقر السفيه بالنكاح فإقراره لا يصح؛ لأنه ليس ممن يباشر النكاح بنفسه فلا يصح إقراره به.

الثالث: إن يكون مختارًا.

فلو أُكْرِه رجل على أن يعقد على امرأة فلا يصح هذا العقد، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم: "فرع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

ولأن عقد النكاح مبني على الرضا تحقيقا لمعنى المودة والرحمة.

الرابع: ألا يكون مُحْرِمًا بحج أو عمرة.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

ووجه الدلالة هو أن الحديث أفاد تحريم عقد نكاح المُحْرم بنفسه أو بوكيله؛ لأن من لا يملك تصرفا لا يجوز له أن يوكل فيه غيره ويحرم عليه بطريق الأولى.

(1/93)

الدخول بالمرأة وهو محرم، فإذا تحلل من إحرامه الأصغر والأكبر جاز له العقد والدخول حتى لو لم يغادر مكة.

والحكمة في عدم صحة نكاح المحرم: هي ألا ينشغل بالنكاح ومقاصده عن أداء النسك.

الخامس: علمه بحل المرأة له؛ لأن الأبضاع شأنها خطير فلا بد من الاحتياط لها، فإن علم عنها شيئا سأل وتبين حتى تخلو تماما من كل ما يكون سببا في تحريمها عليه على التأبيد أو التأقيت أو غير ذلك مما سأبينه إن شاء الله تعالى.

فإن لم يتسن له العلم بحالها وعقد عليها ثم ظهر له بعد العقد عدم حلها له فسخ العقد فورًا دخل بعها أم لم يدخل.

السادس: أن يكون معينا بالاسم. أو بالوصف، أو الإشارة.

(1/94)

الركن الثالث: الزوجة

مدخل

...

الركن الثالث: الزوجة

ويشترط فيها شروط خمسة.

الأول: أن تكون معينة إما بالاسم، أو بالوصف، أو بالإشارة.

الثاني: ألا تكون منكوحة الغير ولا معتدة لتعلق حق الغير بها.

الثالث: ألا تكون محرمة بالحج أو بالعمرة، حتى لا تنشغل بالنكاح ومقاصده عن أداء المناسك. ولقوله -صلى الله عليه سلم: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

الرابع: أن تكون مختارة

إلا إذا كانت ممن تجبر على النكاح كأن كانت بكرا صغيرة أو كبيرة إلا أن الكبيرة يستحب إذنها.

الخامس: ألا تكون من المحرمات على التأبيد أو على التأقيت.

وإتماما للفائدة سأذكر بتوفيق المولى عز وجل المحرمات من النساء على ما جاء في الكتاب والسنة.

(1/94)

المحرمات على التأبيد وأسبابها

مانع السبب

...

أولا: المحرمات على التأبيد وأسبابها ثلاثة

1- مانع النسب

- والمحرمات بسبب النسب أربع شعب وهي:

1- فروع الرجل من النساء، وإن نزلن فتحرم عليه بنته، وبنت بنته، وبنت ابنه. وهكذا كل فرع يكون جزءًا منه مما يتصل به ذلك الاتصال.

2- أصوله من النساء وإن علون، فأمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه جميعا من أصوله وهن حرام عليه إذ هو جزء منهن، فكما حرم عليه جزؤه فكذلك حرم عليه من هو جزؤهن.

2- فروع أبويه وإن نزلن هو الأخوات سواء أكن شقيقات أم لأب أم لأم وفروع الأخوة والأخوات فيحرم على الرجل إخواته جميعا وأولاد إخوانه وأخواته جميعا وفروعهن مهما تكن الدرجة.

4- فروع الأجداد والجدات إذا انفصلن بدرجة واحدة، فالعمات والخالات حرام عليه، مهما تكن درجة الجد والجدة، ولكن بنات الأعمام والأخوال والخالات والعمات حلال، مهما بعد الجد أو الجدة التي تفرعن منها، إذ المحرم من فروع الأجداد والجدات هو من ينفصل عن الأصل بدرجة واحدة.

ويستدل على تحريم هؤلاء بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} 1.

وحكمة التحريم: أن النكاح من هؤلاء يُفضي إلى قطع الرحم؛ لأن النكاح لا يخلو من مباسطات تجري بين الزوجين عادة وبسببها تجري الخشونة بينهما أحيانا، وذلك يُفضي إلى قطع الرحم فكان النكاح منهن سببا لقطع الرحم ومفضيا

__________

1 سورة النساء من الآية 23.

(1/95)

إليه المفضي إلى الحرام حرام، وهذا المعنى يعم الفرق السبع؛ لأن قرابتهن محرمة القطع واجبة الوصل.

وتختص الأمهات بمعنى آخر، وهو أن احترام الأم وتعظيمها واجب، ولهذا أمر الولد بمصاحبة الوالدين بالمعروف وخفض الجناح لهما والقول الكريم في خطابهما، ونهى عن التأفيف منهما، فلو جاز النكاح، والمرأة تكون في طاعة الزوج وطاعته مستحقة عليها للزمها ذلك، وإنه ينافي الاحترام، فيؤدي إلى التناقص.

وأقول: إن هذا الكلام حق لا ريب فيه؛ لأن الحياة الزوجية لا تتفق مع علاقات القرابة ولا تستقيم كلتاهما مع الأخرى فتفسد كلتاهما، وذلك فوق أنه قد يكون تنافس بين هؤلاء الأقارب على واحدة منهن فتكون القطيعة.

(1/96)

2- مانع الرضاع:

وفيه عشرون مسألة.

المسألة الأولى: تعريفه

الرضاع في اللغة: مص الثدي مطلقا، مأخوذ من رضع الصبي وغيره يرضع كضرب يضرب، ورضع على وزن سمع يرضع رضعا فهو راضع، والجمع رُضع والرضيع المرضع وراضعه ورضاعا رضع معه، والرضع المراضع، والجمع رُضع، الجمع رُضعاء، وامرأة مرضع، أي: ذات رضع أو لبن رضاع، والجمع مراضيع.

فإن أريد مجرد الوصف بالإرضاع، قيل: مرضع بغير هاء، أي لها ولد ترضعه، إن أريد أنها محل إرضاع بالفعل، أي: وصفها حال إرضاعها ولدها، قيل. مرضعة بالهاء.

قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} 1.

(1/96)

الرضاع في الاصطلاح، عرفه الشافعية بقوله: اسم لحصول لبن امرأة آدمية حية أو ما حصل منه في معدة الطفل أو دماغه.

المسألة الثانية: حكمه

اتفق فقهاء الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب كلها على أنه إذا أرضعت امرأة بلبنها ولد غيرها فقد ثبت بذلك صلة القرابة الرضاعية بينها وبين من أرضعته وثبت تحريم الزواج بينهما وينتشر التحريم كذلك إلى أصولها وفروعها وأصول زوجها وفروعه.

ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبناتها وأمهاتها، ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه.

وكذلك لا ينتشر التحريم إلى من فوق المرتضع من آبائه وأمهاته ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته؛ إذ نظير هذا النسب حلال.

المسألة الثالثة: دليله

يستدل على التحريم بسبب الرضاع بالكتاب والسنة والإجماع.

فمن الكتاب قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى أن قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/97)

ووجه الدلالة هو أن الله تعالى ذكر المحرمات من النساء بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ثم عطف على ذلك قوله تعالى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1 والعطف يقتضي التشريك في الحكم.

ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة".

وأجمعت الأمة على تحريم النكاح بسبب القرابة الرضاعية.

المسألة الرابعة: مقدار الرضاع المحرم

ولا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات مشبعات مفترقات.

ويستدل على ذلك بما رواه مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلوما يُحَرِّمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن.

ووجه الدلالة هو أن الحديث نص صريح في تحريم الرضاع بخمس رضعت.

واعترض على حديث عائشة: كان فيما نزل من القرآن إلخ.. باغتراضات أربعة؛ الاعتراض الأول:

إن هذا ليس بقرآن، لا يثبت بخبر الآحاد، ولو كان قرآن لثبت بين دفتي المصحف.

وأجاب الماوردي على ذلك بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأول: أنه ثبت كونه من القرآن حكما لا تلاوة ورسما، والأحكام تثبت بأخبار الآحاد سواء أضيفت إلى السنة أو إلى القرآن، كما أثبتوا بقراءة ابن مسعود "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" حكم التتابع، وإن لم يكتبوا تلاوته، فإن استفاض نقله ثبت بالاستفاضة تلاوته وحكمه.

والجواب الثاني: أن هذا من باب منسوخ التلاوة الثابت حكمه فكان وروده بالاستفاضة والآحاد سواء في إثبات حكمه، وسقوط تلاوته كالذي روي عن عمر

(1/98)

أنه قال:"كان فيما أنزل الله "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله".

ولولا أن يقول الناس زاد عمر في القرآن لكتبتها في حاشية المصحف ولو كانت من المتلو لكتبتها مع المرسوم، وإنما أراد بكتابتها في الحاشية؛ لأن لا ينساها الناس، ثم لم يفعل لئلا تصير متلوة.

والجواب الثالث: أن العشر نسخت بالخمس، وإنما أضافت عائشة ذلك إلى القرآن لما في القرآن من وجوب العمل بالسنة حيث يقول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.

الاعتراض الثاني:

أنه ثبت عن عائشة قالت: كان تحريم الرضاع في صحيفة فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تشاغلنا بغسله فدخل داجن الحي فأكلها، لو كان ذلك قرآنا لكان محفوظا لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.

وأجاب الماوردي عن هذا الاعتراض بجوابين:

الجواب الأول: أن الذي أكله داجن الحي هو رضاع الكبير وهو منسوخ.

الجواب الثاني: أن العشر منسوخ بالخمس ودعوى عدم حفظه مردوده؛ لأنه محفوظ في الصدور حيث ورد في صفة الأمة المحمدية "أناجيلهم في صدروهم".

الاعتراض الثالث:

هذا إثبات للنسخ بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنها قالت: فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ممن يقرأ من القرآن، وبهذا لا يجوز.

__________

1 من الآية 7 من سورة الحشر.

2 من الآية 9 من سورة الحجر.

(1/99)

وأجاب الماوردي -أيضا- عن هذا الاعتراض بجوابين:

الجواب الأول: أنها روت بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- نسخا كان في زمانه، وقولها: كان مما يقرأ، أي: مما يعمل به.

الجواب الثاني: أنه كان يقرأ بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإثبات حكمه، فلما ثبت حكمه تركت تلاوته.

الاعتراض الرابع:

أن فيه إثبات نسخ بخبر الواحد، والنسخ لا يكون إلا بإخبار التواتر

وأجاب عنه الماوردي كذلك بجوابين:

الأول: أن الطريق الذي يثبت بها خبر المنسوخ ثبت بها خبر الناسخ فلم يجز أن يجعل حجة في إثبات المنسوخ دون الناسخ.

الثاني: أنه ليس ذلك نسخا بخبر الواحد، وإنما هو نقل لنسخ بخبر الواحد، ونقل النسخ بخبر الواحد مقبول، فعلمت عائشة -رضي الله عنها- العشر ونسخها بالخمس فروتها ورجعت إلى الخمس، وعملت حفصة -رضي الله عنها- العشر ولم تعلم نسخها بالخمس فبقيت على حكم الأول في تحريم الرضاع بالعشر دون الخمس.

المسألة الخامسة: ضابط الرضعة

متى التقم المرتضع الثدي، فامتص منه، ثم تركه باختياره من غير عارض، كان ذلك رضعة.

والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيره أو لشيء يلهيه، ثم يعود عن قرب لا يخرجه من كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد من قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة.

أما إذا قطعت المرضعة عليه الرضعة، ثم أعادته لوجهان:

الأول: أنها رضعة واحدة ولو قطعته مرارًا.

الثاني: أنها رضعة أخرى.

(1/100)

وكذلك إذا انتقل الرضيع من ثدي امرأة إلى ثدي أخرى قبل تمام الرضعة، قيل: تحسب واحدة قياسا على ما لو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر، وقيل: تحسب رضعة أخرى.

المسألة السادسة: رضاع الكبير

اتفق الفقهاء على التحريم بسبب الرضاع إذا كان في الحولين واختلفوا في رضاع الكبير وهو ما زاد على الحولين هل هو محرم أو لا؟

على فريقين:

الفريق الأول: يرى جمهور الفقهاء أن رضاع الكبير لا يحرم وهو مذهب ابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.

الفريق الثاني: ويرى داود وأهل الظاهر أنه يحرم كرضاع الصغير وهو مذهب عائشة.

وسبب اختلافهم، هو تعارض الآثار في ذلك حيث ورد في المسألة حديثان:

أحدهما: حديث سالم، قد سبق تخريجه.

والثاني: حديث عائشة أخرجه البخاري ومسلم قالت: دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه سلم- وعندي رجل فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإن الرضاعة من المجاعة".

فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء، إلا أن حديث سالم نازلة عين، وكان سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ما عدا عائشة يرون أن ذلك رخصة لسالم ومن رجح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنها لم تعمل به قال: يحرم رضاع الكبير.

وحد الصغر المحرم: حولان كاملان.

(1/101)

لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 1.

ووجه الدلالة هو أنه جعل تمام الرضاعة في الشرع مقدر بحولين فاقتضى أن يكون حكمه في الشرع بعد الحولين مخلفا لحكمه في الحولين، وحكمه في الشرع في الحولين هو التحريم.

كما يستدل على ذلك أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا في حولين".

ووجه الدلالة هو أن النفي في قوله: لا رضاع للتحريم لا للجواز.

المسألة السابعة:

إذا فطم المولود قبل الحولين ثم أرضعته امرأة بعد الفطام في الحولين فهل يثبت بهذا الرضاع حرمة أو لا؟

تثبت بهذا الرضاع حرمة النكاح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة".

ووجه الدلالة هو الرضاع المحرم الذي في سن المجاعة كيفما كان الطفل في سن الرضاع.

المسألة الثامنة:

ما صل إلى الجوف من غير رضاع هل يحرم أو لا؟

يحرم بالرضاع ما وصل إلى الجوف سواء أكان بمص الرضيع للثدي أو شربه اللبن وكذلك إذا وصل اللبن إلى جوفه بالوجور: الذي هو إيصال اللبن إلى جوفه بواسطة الفم بعد حلبه من المرأة، أو السعوط أي إدخاله إلى جوفه عن طريق الأنف، أو الحقنة: أي إيصاله إلى جوفه عن طريق الدبر.

ويستدل على ثبوت التحريم بالوجور والسعوط بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم".

__________

1 الآية 223 من سورة البقرة.

(1/102)

ووجه الدلالة: هو أن صول اللبن بالجور والسعوط يحصل بهما إنبات اللحم وإنشاز العظم، كما يحصل بالارتضاع مساواتهما له في الحكم وهو التحريم.

المسألة التاسعة: اختلاط اللبن بغيره

إذا اختلط اللبن بغيره طعاما كان أم شرابا فهل يثبت به التحريم أو لا يثبت؟

اختلاط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى.

1- إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ووصل اللبنان إلى جوف رضيع في سن الرضاع المحرم ثبت التحريم بين المرأتين والرضيع أخذا بالأحوط.

ب- اختلاط لبن امرأة بطعام او شراب كالماء ونحوه.

ذكرنا في الفقرة "أ" الحكم إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى، أما إذا اختلط لبن امرأة بطعام أو شراب فيرى جمهور فقهاء المذهب ثبوت التحريم به سواء أكان اللبن غالبا أم مغلوبا، ويرى المزني من فقهاء المذهب ثبوت التحريم به إن كان اللبن غالبا ولا يثبت به التحريم إن كان اللبن مغلوبا.

المسألة العاشرة: تحول اللبن إلى جبن ويطعمه الولد

إذا تحول اللبن بعد حلبه من المرأة إلى جبن وأطعمه الصبي فهل يثبت بتناوله ذلك تحرم أو لا يثبت؟

إذا تحول اللبن بعد حلبه إلى جبن وأطعمه الصبي ثبت به التحريم؟ لقوله -صلى الله عليه وسلم: $"إنما الرضاعة من المجاعة".

ووجه الدلالة: هو إن الإطعام أبلغ في سد المجاعة من مانع اللبن فوجب أن يكون أخص بالتحريم.

المسألة الحادية عشرة: لبن الفحل، أي المرأة المرضعة

اتفق الفقهاء على أن المرأة التي لها زوج إذا أرضعت ولد غيرها بلبنها الناتج عن وطء زوجها لها ثبت التحريم بالرضاع بينها وبين هذا الولد.

وكذلك يثبت التحريم بين الرضيع وبين صاحب اللبن -زوج المرضعة.

(1/103)

ويستدل على ذلك:

بما روي عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت عائشة: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له.

ووجه الدلالة: هو أن لبن الفحل يحرم بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن لعائشة في إذنها لأبي القعيس؛ لأنه عمها من الرضاعة.

وكذلك يستدل بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سئل عن رجل تزوج بامرأتين فأرضعت إحداهما جارية غيرها وأرضعت الأخرى غلام غيرها، هل يتزج الغلام الجارية؟ فقال: لا، اللقاح واحد لا تحل له.

المسألة الثانية عشر: صفة المرضع

لبن الميتة:

اتفق الفقهاء على أن المرأة الحية إذا أرضعت بلبنها ولدا في سن الرضاع المقرر شرعا صار هذا الولد ابنها من الرضاع واختلفوا في لبن الميتة هل تنتشر الحرمة بينها وبين من ارتضع لبنها وبين فروع هذه المرأة وأصولها وحواشيها أو لا تنتشر؟

باتفاق المذهب لا يثبت تحريم بين الرضيع وبين هذه المرأة الميتة التي ارتضع منها ولا بين أصولها وحواشها، وذلك وطء الميتة معتقدا حياتها لم يثبت بهذا الوطء تحريم بالمصاهرة فكذلك ارتضاع لبنها لا يثبت به تحريم.

البكر التي لم تمس بنكاح أو الثيب التي لم يقام له لبن وكذلك العجوز المسنة:

أجمع الفقهاء على أن البكر التي لم تنكح لو نزل بها لبن فأرضعت به مولودا كان المولود ولدها رضاعا ولا أب له من الرضاعة، كذلك الثيب التي لا زوج لها.

(1/104)

لبن الزانية:

اتفق الفقهاء على أن المزني بها إذا أرضعت بلبنها ولدا غير ابنها صار الرضيع ولدها رضاعا، ولا تثبت حرمة بين الزاني وبين الرضيع وذلك لأن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة، فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها.

لبن البهيمة:

اتفق الفقهاء على أنه لو ارتضع طفلان من بهيمة لم تثبت بذلك اللبن أخوة بينهما؛ لأنه لا يحرم إلا لبن الآدميات لقول المولى -جل ثناؤه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} 1.

والبهيمة لا تكون بارتضاع لبنا أما محرمة، فكذلك لا يصير المرتضعان بلبنها أخوين.

ولأن التحريم لا يون إلا بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في لبن الآدمية، والبهيمة دون الآدمية في الحرمة، ولبنها دون لبن الآدمية في إصلاح البدن، فلم يلحق به في التحريم.

ولأن الأخوة فرع الأمومة فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة فلأن لا تثبت به الأخوة أولى.

لبن الرجل:

لو فرض أن رجلا در ثديه لبنا فأرضع بهذا اللبن ولد غيره، فإنه لا تنتشر به الحرمة ولا تثبت بين هذا الرجل وبين الرضيع؛ لأن المقصود من اللبن إنبات اللحم وإنشاز العظم، وهذا لا يتحقق في لبن الرجل إذا فرض ذلك، غاية ما في الأمر أنه ماء أصفر، وذلك في قول عامة أهل العلم، وقال الكرابيسي من الشافعية، تثبت بهذا اللبن حرمة؛ لأنه لبن آدمي، أشبه لبن آدمية.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/105)

وأقول: هذا ليس بصحيح؛ لأنه قياس في مقابلة النص الذي يقول فيه المولى -عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} .

لبن الخنثى المشكل:

الخنثى: هو من خلق بآلتين آلة الذكورة وآلة الأنوثة. سمي بذلك لاشتراك الشبهين فيه مأخوذ من قولهم: تخنث الطعام والشراب إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه المقصود وشاركه طعم غيره، ورجل مخنث تشبه بالإناث في أقواله وأفعاله، ويرى الشافعي التوقف إلى البيان فإن بانت أنوثته انتشرت به الحرمة وإلا فلا.

المسألة الثالثة عشر: المحرمات رضاعا من جهة النسب

اتفق الفقهاء على أنه يحرم بالرضاع ما يأتي:

أولا: أصله من الرضاع

ويشمل ذلك المرأة التي أرضعت الصبي؛ لأنها أمه من الرضاع، وكذلك أم أمه من الرضاعة، وهكذا كل أصل لأمه من الرضاعة مهما علا ذلك الأصل، سواء أكان الأصل من النسب أم من رضاع.

ثانيا: الفروع من الرضاع

فيحرم على الرجل زواج ابنته من الرضاع؛ لأنه السبب في إدرار اللبن لها سواء أكانت المرأة وقت الرضاع تحت عصمة زوجها أم مطلقة منه بشرط أن يكون اللبن الذي أرضعت به البنت من حمل حدث من ذلك الرجل ويحرم على الرجال كذلك بنت بنته رضاعا، وبنت ابنه الرضاعي.

ثالثا: الفرع النسبي أو الرضاع للأبوين الرضاعيين

وهذا يشمل الأخوات من الرضاع، سواء أكن شقيقات أم لأب أم لأم، وكذلك بنات الأبوين من الرضاع سواء كن بناتهن من النسب أم من الرضاع وكذلك بنات الأخوة من الرضاع.

(1/106)

رابعًا: البطن الأولى فقط من فروع الأجداد والجدات الرضاعيين

وهن العمات والخالات من الرضاع.

ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته، فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبنتاها وأمهاتها، ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه.

وكذلك لا ينتشر التحريم إلى من فوقه من آبائه أمهاته، ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته.

فلأبي المرتضع من النسب وأجداده أن ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته إذ نظير هذا من النسب حلال.

المسألة الرابع عشرة: المحرمات رضاعا من جهة المصاهرة

يحرم رضاعا من جهة المصاهرة والجمع ما يأتي:

أولا: الأصول الرضاعية لزوجته، فأمها التي أرضعتها تحرم عليه وجدتها كذلك سواء أكانت أم أمها رضاعا أمْ أمُّ أبيها، سواء دخل بزوجته أو لم يدخل؛ لأن الرضاع في المصاهرة كالنسب فيها.

ثانيا: فروع زوجته من الرضاع إن دخل بزوجته، فتحرم عليه ابنتها رضاعا، سواء أكان طريقها البنت أم طريقها الابن.

ثالثا: زوجة أصله الرضاعي، وهو من كان أبا لمن أرضعته، أو كان هو سبب اللبن الذي رضع منه.

رابعا: زوجة فرعه، فتحرم عليه زوجة ابنه الرضاعي.

خامسا: يحرم الجمع بين الأختين من الرضاع وكذلك بين المرأة وعمتها من الرضاع، وبين المرأة وخالتها.

لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة".

(1/107)

ووجه الدلالة: هو أن الحديث أجرى الرضاع مجرى النسب، وشبهه، فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه، فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة، وإذا حرمت امرأة الأب والابن، وأم المرأة وابنتها من النسب حرم من الرضاعة، وإذا حرم الجمع بين الأختين من النسب حرم بين أختي الرضاعة.

ويفهم من كلام العلامة ابن القيم في زاد المعاد أنه وأستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية يميلان إلى أن المصاهرة بالرضاع لا توجب تحريما؛ لأن المصاهرة لا تكون إلا مع النسب حتى لا تقطع الأرحام بين الأباء والأبناء، ولا رحم في الرضاعة يخشى عليها، ولا نص ولا قياس يجعل أقارب المرأة رضاعا كأقاربها نسبا، وإذا كان الشأن كذلك فالحل هو الثابت بعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1.

ورجح الإمام محمد أبو زهرة وجهة نظرهما في ذلك فقال ما نصه: يبدو لنا أن نظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم نظر له وجهه إذا تلونا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 2 فنرى أن الله تعالى ساق المحرمات بالنسب، ثم ساق المحرمات بالرضاعة رابطا بينهم وبين النسيبات، ثم المحرمات بالمصاهرة، ولم يشر بعدها للرضاعة، والمصاهرة لا تنصرف إلا إلى ما كان النسب سببها ولو كانت الرضاعة تثبت بالمصاهرة لعقب التحريم بالمصاهرة بها، وأشار النص إليها. ا. هـ.

المسألة الخامسة عشر: حكمة التحريم بالرضاع

عندما تقوم امرأة بإرضاع غير ولدها فإنها بذلك تغذيه بجزء منها، فتدخل أجزاؤها في تكوينه ويصبح الولد جزءا منها.

فلبنها در من دمها لينبت لحم الطفل وينشر عظمه فهي بذلك كالأم النسبية.

__________

1 من الآية 24 من سورة النساء.

2 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/108)

فإن كانت الأم النسبية غذته بدمها في بطنها فتلك غذته بلبنها وإذا حرمت عليه أمه النسبية فكذلك تحرم عليه أمه الرضاعية.

المسألة السادسة عشر: ما يخالف فيه الرضاع النسب

يتفق الرضاع مع النسب في التحريم المناكحة، وإثبات المحرمية فتجوز الخلوة بمحارم الرضاع، والمسافرة ومعهم.

وينفرد الرضاع عن النسب فيما يأتي:

أولا: الرضاع لا يثبت ميراثا ولا يوجب نفقة ولا يسقط به القصاص ولا الشهادة، بخلاف النسب فإنه يثبت الميراث، ويوجب النفقة، يسقط القصاص والشهادة.

ثانيا: يجوز للرجل أن يتزوج المرأة الأجنبية التي أرضعت أخته أو أخاه، لعدم وجود علاقة رضاعية بنيهما.

بينما لا يجوز له ذلك من النسب؛ لأن أم أخيه أو أخته إما أن تكون أمًّا وإما أن تكون زوجة أب وكلتاهما محرمة شرعًا.

ثالثا: يجوز للرجل أن يتزوج جدة ابنه من الرضاع، ليس له أن يتزوج جدة ابنه من النسب؛ لأن جدة ابنه من الرضاع لا نسب بينهما ولا رضاع ولا مصاهرة.

رابعًا: يجوز للرجل أن يتزوج المرأة الأجنبية التي أرضعت ولد ولده لا فرق بين الذكر والأنثى في الولد ولا في الرضيع، لكونها أجنبية عن الجد. بينما أن هذه من جهة النسب محرمة؛ لأنها إما أن تكون بنتا أو زوجة ابن وكلتاهما محرمة شرعًا.

خامسا: يجوز للرجل أن يتزوج أم المرأة الأجنبية التي أرضعت ابنه أو بنته، لعدم وجود علاقة رضاعية بين الأب وبين جدة ابنه أو بنته من الرضاع، بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأن جدة الابن أو البنت إما أن تكون أمًّا وإما أن تكون أم زوجة وكلتاهما محرمة شرعًا.

سادسا: يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه أو أخت بنته من الرضاع؛ لأنها أجنبيه عن الأب.

(1/109)

بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأنها إما أن تكون بنته أو ربيبته وكلتاهما محرمة شرعًا.

سابعًا: يجوز للرجل أن يتزوج أم عمه وأم عمته رضاعا أي المرأة التي أرضعت عمه أو عمته لكنها أجنبية عنه، بينما لا يجز له ذلك من جهة النسب؛ لأن أم العم وأم العمة إما أن تكون جدة أو زوجة جد وكلتاهما محرمة شرعًا.

ثامنا: يجوز للرجل أن يتزوج أم خالة وأم خالته رضاعا؛ لأنها أجنبية عنه، بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب لأنها إما أن تكون جدة أو زوجة جد وكلتاهما محرمة شرعًا.

تاسعًا: يجوز للرجل أن يتزوج عمة ابنه أو عمة ابنته من الرضاع؛ لأنها أجنبية. بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأن عمة الابن أو عمة البنت أختا للاب وهي محرمة شرعًا.

المسألة السابعة عشر: الشك في الرضاع:

من القواعد المقررة في الفقه الإسلامي قاعدة "اليقين لا يزول بالشك" وتطبيقا لهذا القاعدة لو وقع الشك في أصل الرضاع هل حدث أم لا؟ فإن الأصل عدم حدوثه لأن الشك إذا طرأ على اليقين سقط حكمه.

وإذا حدث الشك في عدد الرضعات عند من يقول باشتراط العدد في التحريم، فإنه يبني على الأقل فلو وقع الشك مثلا أرضع أربعا أم ثلاثا فإننا نبني على الأقل وهو الثلاث ونعتبر أنه أرضع ثلاثا.

المسألة الثامنة عشرة: ثبوت الرضاع

أولا: ثبوته بالشهادة

يثبت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو أربع نسوة.

(1/110)

الأدلة:

ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1.

ووجه الدلالة هو: أن الحق سبحانه وتعالى لما أقام المرأتين مقام الرجل ولم يقبل من الرجال أقل من اثنين وجب ألا يقبل من النساء أقل من أربع.

قول عمر -رضي الله عنه: لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.

أن سبب نزول هذه الحرمة مما يطلع عليه الرجال فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين قياسا على حرمة الطلاق.

ثانيا: ثبوت الرضاع بالإقرار

الإقرار في اللغة: الثبوت والاعتراف وعدم الإنكار.

وفي الاصطلاح: إخبار من يصح إخباره بحق لغيره عليه.

واتفق الفقهاء على أنه إذا أقر الزوج بالرضاع قائلا: هي أختي أو عمتي أو ابنتي من الرضاع مثلا وأصر على إقراره فسخ النكاح بينهما قبل الدخول أو بعده.

وكذلك اتفقوا على أنه إذا كانت المقرة به هي الزوجة قائلة: هذا أخي من الرضاع مثلا وكذبها الزوج لا يفسخ النكاح بينهما؛ لأن الحرمة ليست إليها.

كما اتفقوا على أنهما إذا أقرا به معا وثبتا على إقرارهما انفسخ النكاح بينهما قبل الدخول أو بعده.

وكذلك اتفقوا على أنه إذا رجع المقر منهما في إقراره الذي أشهد عليه لا يجوز له الرجوع ولا يقبل رجوعه.

__________

1 من الآية رقم 282 من سورة البقرة.

(1/111)

ثالثا: الاختلاف الرضاع

ذكر الشافعية أنه إذا ادعى الزوج رضاعا محرما وأنكرت الزوجة انفسخ النكاح بينهما: مؤاخذة له بقوله، ولها المهر المسمى إن كان النكاح صحيحا، وإلا فمهر المثل إن كان قد دخل بهما لاستقراره بالدخول ولها نصفه قبل الدخول؛ لأن سبب الفرقة جاء من جهته.

وإن ادعته الزوجة فأنكر الزوج صُدِق بيمينه وإن كانت الزوجة قد زوجت برضاها فالأصح تصديقها بيمينها، لاحتمال ما تدعيه ولم يسبق منها ما يناقضه.

وقيل: يصدق الزوج بيمينه لاستدامة النكاح الجاري في الصحة ظاهرًا كما قال الشافعية أيضا أنه إذا ادعى الزوج رضاعا محرما فأنكرت الزوجة وشهدت بذلك أمه أو ابنته لم تقبل شهادتهما؛ لأن شهادة الوالدة لولدها والولد لوالدة غير مقبولة.

وإن شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت شهادتهما قولا واحدا في المذهب وإن ادعت ذلك المرأة وأنكره الزوج فشهدت بذلك لهما أمها أو ابنتها لم تقبل شهادتهما، وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته قبلت شهادتهما قولا واحدا في المذهب.

المسألة التاسعة عشرة: حكم إرضاع الأم ولدها

اتفق الفقهاء على إن كل أم يلزمها إرضاع ولدها لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 1.

ووجه الدلالة هو أن قوله تعالى: {يُرْضِعْنَ} خبر في معنى الأمر أي ليرضعن فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة طالما الزوجية قائمة.

وذلك الإرضاع الواجب عليها في أحوال ثلاثة:

الأولى: إذا لم يوجد غيرها.

الثانية: إذا وجد غيرها وطلب منه أجرة على الرضاع ولا مال للطفل ولا لأبيه.

__________

1 من الآية: 233 من سورة البقرة.

(1/112)

الثالثة: إذا امتنع الطفل عن الرضاع من ثدي غيرها، ولا يلزمها فيما عدا هذه الأحول الثلاثة شريفة كانت أم غير شريفة.

وإذا لم يجب على الإم إرضاع ولدها في غير الأحوال الثلاثة سالفة الذكر فإنه يترتب على عدم الوجوب ما يأتي:

أولا: إن تبرعت الأم بإرضاع ولدها، فإنها لا تمنع من ذلك.

ثانيا: إذا أرادت الأم إرضاع ولدها بأجرة ووجدت من سترضعه بدون أجرة، فإنه ينزع من أمه ويسلم إلى من سترضعه بدون أجرة، وقيل: لا ينزع لزيادة شفقتها عليه.

ثالثا: إذا طلبت الأم أجرة على إرضاع ولدها وكان هناك مرضعة غيرها بأجرة كذلك، فالأم أحق من غيرها؛ لأن الأم أحن وأشفق ولبنها أَمْرأ من لبن غيرها، والمرضعة المستأجرة تسمى -ظِئْرًا- ويجب عليها إرضاع الطفل في المكان الذي اتفق معها على إرضاعه فيه ولا تتعداه حتى لو اتفق معها على إرضاعه في بيتها.

المسألة العشرون: استحقاق الأم أجر إرضاع ولدها.

إذا أرضعت الأم ولدها فهل تستحق أجرة على إرضاعه أو لا؟

لا تستحق الأم أجرة على إرضاع ولدها سواء أكانت الزوجية قائمة بينها وبين الزوج أو لا ذلك لأن الأب إذا استأجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز، ولأن الرضاع واجب عليها ديانة لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إلا إذا عجزت عنه. فإذا أقدمت عليه بالأجرة ظهرت قدرتها، فكان الرضاع واجب عليها، ومن ثم فلا يجوز أخذ الأجرة على فعل الواجب.

الدليل الثاني: أن أوقات الرضاع مستحقة لاستمتاع الزوج ببدل وهو النفقة فلا يجوز لها أن تأخذ بدلا آخر.

(1/113)

وفي الوجه الثاني تستحق أجرة على إراضع ولدها لأن الرضاع عمل يجوز أخذ الأجرة عليه بعد البينونة فجاز أخذ الأجرة عليه قبل البينونة، كما أن استئجار الأم على إرضاع ولدها عقد إجارة يجوز مع غير الزوج فكذلك يجوز معه وهو الأصح.

(1/114)

مانع المصاهرة:

يقال في اللغة صاهر الرجل جماعة أي تزوج منهم فالتحريم بسبب المصاهرة معناه تحريم بسبب الزواج. واللاتي يحرمن بسبب المصاهرة أربع شعب:

الأولى: من كانت زوجة أصلة وإن علا ذلك الأصل سواء كان من العصبات كأبي الأب أو كان من الأرحام كأبي الأم وسواء دخل بها الأصل أم لم يدخل.

الثانية: من كانت زوجة فرعه سواء كان من العصبات كابن الابن أو من ذوي الأرحام كابن البنت وسواء دخل بها أم لم يدخل.

الثالثة: أصول من كانت زوجته سواء دخل بزوجته أم لم يدخل.

الرابعة: فورع من كانت زوجته وإن نزلن، ولكن بشرط الدخول بزوجته.

ويستدل على تحريم الطائفة الأولى بقول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} 1.

وقد دلت هذه الآية بنصها على تحريم زواج من كانت زوجة للأب وبما اشتملت عليه من تعليل للتحريم تدل على تحريم أزواج الأجداد وإن علوا لأن وصف المقت والفاحشة يتحقق في التزوج ممن كان زوجات الأجداد وإن علوا، كما يتحقق من زوجة الأب، ويصح أن يفهم تحريم زوجات الأصول جميعا من النص على تحريم زوجات الأباء يراد بها الأصول إذ لفظ الأب قد يراد به الأصل مجازا فيشمل الأب الحقيقي والجد وإن علا، وقد انعقد الإجماع على تحريم زوجات الأجداد فكان ذلك التحريم ثابت بالإجماع.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/114)

هذا وإذا كان نكاح زوجة الأصل يفضي إلى قطع الرحم؛ لأنه إذا فارقها أصله، فقد يندم ويريد أن يعيدها فإذا تزوجها ابنه أو حفيده فقد قطع السبيل دون إرادته وأوحشه بذلك، وأن الفطرة السليمة تجافي ذلك النكاح الذي سماه الشارع مقتا وفاحشة.

وتدل الآية الكريمة على أن زوجة الأصل محرمة دخل بها الأصل أم لم يدخل؛ لأن النكاح المراد به العقد، فالعقد وحده سبب للتحريم سواء أكان معه دخول أم لم يكن.

ويستدل على تحريم الطائفة الثانية وهي زوجة الفروع بقول الله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} عطفا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

وقد قيد الله -عز وجل- الأبناء بكونهم من الأصلاب لكي يعرف الأبناء بذلك الوصف، فيفيد النص أن الأبناء هم الذين من الصلب لا الذين يتبنون، وبهذا يتبين أن المحرم هن زوجات الأبناء لا زوجات المتبنين؛ لأنهم ليسوا أبناء.

هذا وقد ثبت تحريم زوجة الابن بالنص وثبت تحريم زوجة غير الابن كزوجة ابن الابن وابن البنت بالقياس المساوي الجلي؛ لأن سبب التحريم هو الجزئية، وكل فروع الشخص أجزاء منه أو يراد من الأبناء كل من اتصل به بصلة الولادة؛ لأن أولئك أبناء مجازا له.

وزوجة الفرع محرمة سواء حصل دخول بها أو لم يحصل.

والحكمة في تحريمها: هي المحافظة على العلائق بين أفراد الأسرة ومنع كل ما يؤدي إلى القطيعة بينهم؛ إذ لو أبيح للرجل أن يتزوج زوجة ابنه بعد أن يطلقها؛ لأدى ذلك إلى الضغينة بينهما؛ لأن الابن ربما يريد معاودة الحياة مع مطلقته فإذا رأى أباه قد تزوجها، أضغنه ذلك وأوحشه.

وإن زوجة الابن كبنت الرجل وكثيرا ما تناديه بنداء البنت لأبيها، فكيف يحل له زواجها وأن هذا ضد الفطرة السليمة.

(1/115)

ويستدل على تحريم الطائفة الثالثة بقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} . عطفا على قول تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

فقد أثبت النص حرمة زواج الأم، وأثبت حرمة زواج الجدات بدلالة النص أو القياس الجلي، أو دلالة الأولى على حسب تسمية علماء الأصول لذلك النوع من الدلالة، وقد انعقد الإجماع على تحريم كل أصوله الزوجة سواء أدخل بالزوجة أم لم يدخل للإطلاق، وعدم التقييد بحال الدخول، كما قيد التحريم في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} .

وهذا رأي الجمهور من الفقهاء:

وهناك رأي آخر روي عن زيد بن ثابت وهو أنه إن حصل فراق البنت عن طلاق قبل الدخول تحل له الأم، وإن كان الفراق بسبب الوفاة فلا تحل؛ لأن الفرق بالموت، كالفراق بعد الدخول يثبت المهر كاملا فكان مثبتا للتحريم كما أثبت المهر.

وحجته في ذلك هي أن الله تعالى قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

وقد جاء القيد الأخير بعد الأمرين، فكان التحريم في الطائفتين مقيدا بالدخول.

وعلى ذلك يكن شرط الدخول ثابتا في تحريم الأمهات، كما هو ثابت في تحريم البنات.

واستدل الجمهور بظاهر الآية؛ لأن الوصف كان للحال الأخيرة دون سابقتها، فكانت الأولى على إطلاقها، وكان التحريم في الثانية مقيدا بحال الدخول، والأصل في الألفاظ أن تجري في ظاهرها.

واعتبار القيد للاثنين تخريج للكلام على غير ظاهره، ولا يخرج الكلام على غير الظاهر إلا لداع إليه، كعدم استقامة المعنى على الظاهر، والمعنى على الظاهر مستقيم لا يحتاج إلى تخريج.

(1/116)

وقد أيدت السنة هذا الظاهر وعينته، فقد روي أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده، فلا بأس أن يتزوج ابنتها، وأيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا يحل له أن يتزوج أمها".

ويستدل على تحريم الطائفة الرابعة وهن فروع من كانت زوجته المدخول بها بقول الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

وذلك عطفا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

والربيبة: هي ابنة الزوجة سميت بذلك لأن زوج أمها يربيها.

وهي حرام بنص الآية سواء أكانت في الحِجْر أم لم تكن ووصفها بأنها في الحجر وصف كاشف وليس بقيد؛ لأن الغالب أنها تكون في الحجر.

ولقد قال بعض أهل العلم: إن تحريم الربيبة مقيد بأن تكون في الحجر، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها واحتجوا بالآية وقالوا حرم الله الربيبة بشرطين:

أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج بأمها.

والثاني الدخول بالأم.

فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم.

واحتجوا كذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة"، فشرط الحِجْر.

ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك.

وليس ذلك بصحيح في نسبته وحجته لأن ذكر الوصف عند التحريم لا يدل على الحل إذا لم يكن بدليل لأنه عندما نص على حال الحل ذكرها في حال الدخول فقط فقال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ولم يذكر عند الحل الحال التي

(1/117)

لا تكون في حِجْره، فأقصى ما يدل عليه الوصف أنه يشير إلى الغالب أو هو مبين للتحريم في حال وجوده والباقي فهم تحريمه من على التحريم أي بالقياس الجلي أو من مفهوم قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 1 فإنه يثبت أنه في حال الدخول تثبت الحرمة سواء أكانت في الحجر أو لم تكن.

فالحق إن ذلك الوصف ليس لتقييد بل خرج تخريج العادة ولبيان قبح التزوج بهن لأنهن غالبا في حجورهن كأبنائهم وبناتهم فلهن ما للبنات من التحريم.

وقبل أن أترك المقام أوضح ثلاث أمور تتعلق بالتحريم بالمصاهرة.

الأمر الأول: اللمس والنظر بشهورة أيعتبر كالدخول الحقيقي ويعطى حكمه فتحرم به الربيبة أو لا؟

قولان في المذهب المختار والمفتى به أنه لا يحرم إلا الدخول الحقيقي لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 2 ولأن النظر اللمس بشهوة مباشرة لا يوجبان العدة فلا يتعلق بها التحريم.

وقيل: يتعلق بذلك تحريم كالدخول الحقيقي لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها وبنتها".

وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها".

ووجه الدلالة أن الحديث الأول نص على أنه من نظر إلى فرج امرأة حرمت عليه أمها وابنتها، وتوعد الحديث الثاني من نظر إلى فرج امرأة وابنتها بعدم نظر الله إليه والوعيد لا يكون إلا على ارتكاب أمر محرم.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

2 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/118)

الأمر الثاني: الزنا, أثره في التحريم بالمصاهرة

من زنا بامرأة لا يحرم عليه نكاحها ولا تحرم بالزنا أمها ولا ابنتها ولا تحرم الزانية على ابن الزاني ولا على أبيه وذلك لأن الله تعالى بين المحرمات ولم يذكر منهن هذه وأحل ما دون ذلك.

وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها فقال: "لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح" وذكر البخاري تعليقا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ووصله البيهقي بإسناد صحيح أن رجلا غشى أم امرأته فسئل ابن عباس فقال: تخطى حرمتين ولا تحرم عليه امرأته.

وسئل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير -رضي الله عنهما- عن الرجل يزني بالمرأة هل تحل لها أمها؟

فقالا: لا يحرم الحرام الحلال.

ويروى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقال ابن عبد البر: أجمع أهل الفتوى من الأمصار أنه لا يحرم على الزاني نكاح من زنى بها، فنكاح أمها وبنتها أجوز.

ومن زنى بامرأة ثم أتت منه ببنت فقد قال إمامنا الشافعي -يرحمه الله- أكره أن يتزوجها فإن تزوجها لا أفسخ نكاحها.

والصحيح أنه لا تحرم عليه حتى لو تحقق أنها من مائه، وذلك لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب فلا يتعلق بها التحريم.

أما البنت المنفية بلعان فقال بعض فقهاء المذهب: أنها لا تحرم على من نفاها كالبنت من الزنا، ومنهم من قال: تحرم عليه؛ لأنها غير منفية عنه قطعا ولهذا لو أقر بها ثبت النسب.

(1/119)

الأمر الثالث: الوطء بشبهة والدخول في عقد فاسد

من عقد على امرأة فزفت إليه أخرى ودخل بها وهو يعتقد أنها المعقود عليها فإن هذا يعتبر وطئا بشبهة، ومن عقد على امرأة بدون شهود ودخل بها فإنه دخول في عقد فاسد.

وكلا الأمرين الوطء بشبهة والدخول في عقد فاسد كالوطء في ظل عقد صحيح يثبت بهما التحريم بالمصاهرة فتحرم الموطؤة على أصوله وفروعه، ويحرم عليه أصولها وفروعها.

الحكمة في التحريم بالمصاهرة:

إن الشرائع السماوية قد وافقت الشريعة الإسلامية في التحريم بسبب المصاهرة، فكان هذا دليلا على أن ذلك التحريم مشتق من الفطرة الإنسانية؛ إذ لم تختلف فيه الشرائع، والحق أنه يتفق مع الطبع السليم، فإن المرأة إذا اقترنت بالرجل صارت قطعة من نفسه وصار هو قطعة منها {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 1 وإذا صارت جزءًا لا ينفصل من نفسه كان من منطق الزواج أن تكون أمها كأمه، وابنتها كابنته، وتحرم هي على أبيه كما يحرم على أمها؛ إذ صار أبوه أباها أيضا، وتحرم على ابنها كما يحرم ابنها عليها، وما باعدت الحق كثير الشرائع التي تسمي أبا الزوجة أبا للزوج، وابنها ابنا له وأباه أبا لها، وما جاوز الناس في عرفهم الطبيعة والحق إذا أطلقوا هذه الأسماء وأنه لو أبيح للرجل أن يتزوج أم زوجته وابنتها، وهي تتزوج أباه وابنه لأدى ذلك إلى أن تقام الحجب. وبذلك ينقطع الرجل عن أهله، وتنقطع هي عن أهلها، فيكون كلاهما في وحشة لا يجد من يسري عنه، ولا يجد كذلك من يعاونه ويزيل همه ويلقي إليه بدخائل نفسه.

__________

1 من الآية 187 من سورة البقرة.

(1/120)

ولأنه لو ساغ للأم أن تتزوج زوج ابنتها، وللبنت أن تتزوج زوج أمها لقطعت الأرحام ولأوجس الأصل خيفة من فروعه، وأوجس الفرع خيفة من أصله، وما بمثل ذلك تقام دعائم الأسر.

(1/121)

ثانيا: الموانع المؤقتة

المانع الأول: مانع العدد

اتفق الفقهاء على أنه يجوز للرجل الحر أن يجمع بين أربع حرائر ولا يزيد على ذلك.

ولم يخالفهم في ذلك إلا أقواما لا يعتد بخلافهم، وهم بعض الشيعة والروافض، وبعض أهل الظاهر.

وهؤلاء المخالفين سماهم فخر الدين الرازي: قوما سدى أي: ضائعين في تفكيرهم.

كما وصفهم القرطبي بقوله: وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة للإجماع.

الأدلة:

أولا: أدلة الجمهور

استدلوا بقول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 1. ووجه الدلالة: هو أن الواو العاطفة للأعداد بعضها على بعض بمعنى "أو" ويؤيده قوله تعالى في سورة فاطر: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 2 فالآية محمولة على عادة العرب في الخطاب على طريق المجموعات فيكون المراد بها التخيير بين الزواج باثنتين أو ثلاث أو أربع.

وكذلك استدلوا بما رواه ابن عمر قال: أسلم غيلان الثقفي وتحته عشرة نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يختار منهن أربعًا.

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

2 من الآية 3 من سورة فاطر.

(1/121)

وروي عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: "اختر منهن أربعا".

وروي عن نوفل بن معاوية أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعا وفارق الأخرى".

فدلت الأحاديث بمجموعها على أنه لا يجوز للحر الزيادة في النكاح عن أربع.

وقال ابن عبد البر: الأحاديث المروية في هذا الباب كلها معلولة، وليست أسانيدها بالقوية، ولكنها لم يرو شيء يخالفها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والأصول تعضدها والقول بها والمصير إليها أولى، وبالله التوفيق.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: والأحاديث بمجموعها لا تقتصر عن رتبة الحسن لغيره فتنهض بمجموعها للاحتجاج بها، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال.

وقال -أيضا- في السيل الجرار: والاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث، وغيلان الثقفي، ونوفل بن معاوية، هو الذي ينبغي الاعتماد عليه، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال، ولكن الاجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل به.

وحكى ذلك الإجماع ابن حجر في الفتح، وصاحب البحر الزخار، ولم ينقل عن أحد من السلف في عهد الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، فدل العمل وفق السنة على أنه لا يجوز الزواج بأكثر من أربع نسوة.

ثانيا: أدلة الرافضة وبعض أهل الظاهر استدلوا بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 1.

وزعموا أن الواو للجمع وأكدوا زعمهم هذا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج تسعا وجمع بينهن في عصمته إذن يباح للرجل المسلم أن يجمع بين تسع

__________

1 من الآية 3 من سورة النساء.

(1/122)

من النسوة بل ذهب بعضهم إلى أقبح من هذا. فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة تمسكا منه بأن العدد في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع.

وفند زعمهم هذا القرطبي قائلا: وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة؛ إذ لم يسمع أن أحد من الصحابة والتابعين جمع في عصمته أكثر من أربع. ثم رد عليهم في موضع آخر، فقال: وأما قولهم: إن الواو جامعة، فقد قيل ذلك لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر، وإنما الواو في هذا الموضوع بدل، أي: أنكحوا ثلاثا بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو.

وأما قولهم: تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعا وجمع بينهن، فهذا من خصوصياته.

وكذلك رد على بعض أهل الظاهر القائلين بإباحة الجمع بين ثمان عشرة امرأة فقال: وكذلك جهلة الآخرون؛ لأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، ثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا حصر للعدد، ومثنى وثلاث ورباع بخلافها، ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجة.

الترجيح:

وبعد أن استعرضت أقوال العلماء وأدلتهم مع مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني القائلين بأنه يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع أرى بأن الراجح هو الرأي القائل بأنه لا يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع؛ لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.

(1/123)

هذا بالإضافة إلى أن الاقتصار على أربع عدل وتوسط وحماية للنساء من ظلم يقع عليهن بسبب الزيادة على ذلك، وهذا بخلاف ما كانت عليه العرب في الجاهلية.

ولقد أصحبت هذه الزيادة أمرا استثنائيًّا نادرًا فلا يلزم الرجل بالتعداد بل الزواج بواحدة أصبح هو الأعم الأغلب.

المانع الثاني: مانع الجمع

أولا: الجمع بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها.

اتفق الفقهاء على أنه يحرم الجمع بين المرأة وأختها سواء أكانتا من أب وأم أو من أم أو من أب وسواء أكانتا من نسب أم رضاع وكذلك يحرم الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها بالنكاح.

لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 1 ولقوله -صلى الله عليه سلم: "لا يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها".

ولا يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، عند الرافضة والخوارج ومن أعجبه قولهم وهم كما وصفهم ابن حجر: لا يعتد بخلاقهم؛ لأنهم مرقوا من الدين.

ثم لا فرق بين العمة أو الخالة حقيقة أو مجازًا كعمات آبائها وخالتهم، وعمات أمهاتهن وخالتهن وإن علت درجتهن من نسب أو رضاع.

ولقد استنبط الفقهاء من النصيين السابقين القرآني والنبوي قاعدة لتحريم الجمع بين المحارم، هي يحرم الجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لا يجوز له نكاح أخرى.

وكذلك لا يجوز الجمع بين المرأة ابنتها، قياسا على تحريم الجمع بين الأختين، بل هو أولى؛ لأن قرابة الولادة أقوى من قرابة الأخوة.

__________

1 من الآية 23 من سورة النساء.

(1/124)

والحكمة من التحريم الجمع بين المرأة وأختها وبينها وبين عماتها أو خالتها هي: أن الجمع بينهما يؤدي إلى قطيعة الرحم بسبب ما يكون بين الضرتين من عداوة وكراهية، وقطيعة الرحم حرام وما أدى إلى حرام فهو حرام.

وكذلك اتفق الفقهاء على أنه يحرم الجمع بين المرأة وأختها وبينها وبين عمتها في عدة طلاق إحداهما طلاقا رجعيا واتفقوا على جواز الجمع بينهما إذا ماتت إحدهما فلو ماتت زوج الرجل جاز له نكاح أختها أو عمتها أو خالتها من غير انتظار مدة العدة.

أما إذا طلقت الزوجة طلاقا بائنا بينونة صغرى أم كبرى فإنه لا يحرم على الزوج عند فقهاء المذهب نكاح أختها أو عمتها أو خالتها في عدتها، لزوال النكاح بينهما بالبينونة، ومن ثم فإنه لو وطئها بعد علمه ببينونتها أقيم عليه الحد.

ثانيا: الجمع بين امرأة الرجل بعد وفاته أو طلاقها وابنته من غيرها بنكاح.

قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها بالنكاح، فأباح أكثر أهل العلم نكاحها، فعل ذلك عبد الله بن جعفر وعبد الله بن صفوان بن أمية، وأباح ذلك ابن سيرين، وسليمان بن يسار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا أعلم ذلك حراما، وبه نقول: وذلك أني لا أجد دلالة أحرم بها، وكره ذلك الحسن البصري وعكرمة.

ثالثا: الجمع بين بنات العم وبنات الخال بنكاح.

يجوز الجمع بينهما بالاتفاق، لدخولهما في عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1.

ولأن أحداهما تحل للأخرى لو كانت ذكرًا.

__________

1 الآية 24 من سورة النساء.

(1/125)

هذا ولم أتعرض للجمع بين المحارم بملك اليمين؛ لأن الله تعالى مَنَّ علينا بنعمة الإسلام التي حرر الله تعالى بها الرقاب من ذل العبودية لغير الله، ومن ثم عزفت عن الخوض في الحديث عنه لعدم وجوده.

المانع الثالث: مانع الكفر

اتفق أهل العلم على تحريم نكاح المسلم للمشركة، ونكاح المشرك المسلمة.

لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 1.

وكذلك اتفقوا على جواز نكاح المسلم للكتابية اليهودية أو النصرانية، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فلقد سئل عن نكاحهما، فقال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، عقب القرطبي على قول ابن عمر، قائلا: أما حديث ابن عمر فلا حجة فيه؛ لأن ابن عمر -رحمه الله- كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين في الواحدة التحليل، وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف.

وقال الجصاص: يعني بآية التحليل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2.

وبآية التحريم: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ} 3.

فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامهما تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته.

وحرم ابن عباس -رضي الله عنهما- نكاح الكتابيات إذا كن من أهل دار الحرب.

__________

1 من الآية 221 من سورة البقرة.

2 من الآية 221 من سورة البقرة.

3 من الآية 221 من سورة البقرة.

(1/126)

وعقب الجصاص على هذه التفرقة، فقال: ولم يفرق غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات الذميات وظاهر الآية يقضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن.

واختلف الروايات عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فمرة قال: بالحل ومرة أخرى قال: بالكراهة.

وإذا تم نكاح المسلم للكتابية كما هو رأي الجمهور على ما سبق بيانه فإن هذا النكاح تترتب عليه جميع الآثار الشريعة والواجبات، إلا أنه لا يجري بينهما توارث لاختلاف الدين، والأولاد يكونون مسلمين لما تقرر في القواعد الفقهية: من أن الولد يتبع أشرف الأبوين دينا.

والغالب في الكتابيات أنهن يجهلن، ما قررته الشريعة الإسلامية من حقوق وواجبات لكل واحد من الزوجين على الآخر، ولهذا رأى ولاة الأمر في مصر أن يضعوا نظاما خاصا للزواج بالكتابيات ينحصر في النقاط التالية:

1- لا يتولى المأذون الزواج الخاص بالكتابيات، بل يترك أمره إلى القاضي الشرعي الذي يتولاه بنفسه، كما نصت على ذلك المادة "27" من لائحة المأذونين ونصها: ليس للمأذون أن يباشر زواج من لا ولي لها من الأيتام، ولا العقود التي يكون أحد الطرفين فيها تابعا لدولة أجنبية أو كان غير مسلم، وإنما ذلك كله من اختصاص القضاء.

2- وضع لهذا الزواج وثيقة خاصة دون فيها ما للزوج من حقوق شريعة بسبب هذا الزواج حتى تكون الزوجة على بينة من الأمر قبل الإقدام عليه، وتتلى هذه الأحكام على الزوجة، وتفهم كل ما تدل عليه، لتكون عالمة بما لها وما عليها راضية بذلك ملتزمة بما فيها ...

نصت هذه الوثيقة على ما يأتي:

أ- للزوج المسلم أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع رضيت بذلك أم كرهت.

(1/127)

ب- أن يطلق متى شاء قبلت أو عارضت وإذا طلقها طلاقا رجعيا فله أن يراجعها في أثناء العدة ولو عارضت ذلك، وإذا كان الطلاق بائنا فليس له أن يعيدها إلا بعقد ومهر جديدين إذا كانت البينونة صغرى، وإذا كانت كبرى فليس له أن يتزوجها إلا إذا تزوجت زوجا آخر، ودخل بها ثم طلقها وانتهت عدتها وأنه إذا طلقها قبل الدخول فلها نصف المهر المسمى وإن طلقها بعد الدخول فلها المهر المسمى أو مهر المثل، وإن طلقها قبل الدخول ولا تسميه للمهر فلها المتعة حسب تقدير القاضي أو اتفاقهما.

ج- له أن يلزمها بالطاعة في مسكنه الشرعي، ويمنعها من الخروج إلا بإذنه، وأنها تستحق النفقة وقت الزواج وفي العدة.

د- الأولاد الذين ترزقهم من المسلم يكونون مسلمين تبعا لدين أبيهم.

هـ- لا توراث بينها وبين زوجها المسلم إذا مات أحدهما؛ لأن شرط الإرث اتحاد الدين وأن الأولاد يرثون أباهم ولا يورثونها.

و لها حق في الحضانة إلا إذا رأى القاضي ما يمنع من بقاء الأولاد تحت سلطانها، وأن لها الحق في إرضاع أولادها، وأن أجرة الرضاعة والحضانة على أبيهم.

نكاح المجوسية 1:

اتفق أهل العلم على تحريم المسلم للمرأة المجوسية؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب بدليل ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في مجوس البحرين: "إن

__________

1 مجس: المجوسية نحلة، والمجوسي: منسوب إليها، والجمع: المجوسي. لسان العرب مادة "مجس".

والمجوس: هم الذين يعبدون النار، ويقولون إن العالم أصلان: النور والظلمة، وقيل: هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل: هم قوم يستعملون النجاسات، وقيل: غير ذلك.

تفيسر الشوكاني 3/ 443.

(1/128)

من أبى منهم الإسلام ضربت عليهم الجزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة".

نكاح الصابئة 1:

ويحرم عليه كذلك نكاح الصابئة؛ لأنها ليست من أهل الكتاب وأقول: لقد انتشر في عصرنا الحاضر الكثير والكثير من شبابنا المسلم في الكثير من الدول الأوروبية يرغبون في الزواج بغير المسلمة زاهدين في المسلمات الطاهرات وهذه فتنة عظيمة.

وأعظم منها: أن اليهود والنصارى يرغبون بناتهم في التزويج بالمسلمين لتنصيرهم وإبعادهم عن دينهم، فإذا نكحت أحداهن مسلما فإنها لا تزال تدعوه إلى دينها وترغبه فيه حتى يرتد ويدخل في دينها، فإذا لم يتحقق لها ذلك فلا أقل من أنها تجعل الأولاد الذين ولدوا تحت فراش المسلم نصارى أو يهود.

لذلك فإنني أرى حرمة نكاح المسلم لغير المسلمة أيا كان دينها، وسندي في ذلك ما روي أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية بالمدائن، فكتب إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة، أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر، أعزم عليك ألا تضع كتابي حتى تخلي سبيلها فإني أخاف أن يقتد بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.

__________

1 يقال: صبأ فلان أي: خرج من دين إلى دين، وهم قوم يعبدون الملائكة وقيل: يعبدون الكواكب، وقيل غير ذلك.

تفسير ابن كثير 1/ 104 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/ 147 عالم الكتب بيروت.

(1/129)

المانع الرابع: مانع الإحرام 1:

ويحرم على المحرم بالحج والعمرة أن يتزوج أو يزوج غيره بالوكالة أو الولاية الخاصة فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل.

لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

ولأن الإحرام عبادة حرمت الطيب فمن باب أولى يحرم النكاح وهل يجوز للإمام أو الحاكم أن يزوج بولاية الحكم؟

فيه وجهان:

الوجه الأول: لا يجوز كما لا يجوز أن يزوج بالولاية الخاصة.

الوجه الثاني: يجوز؛ لأن الولاية العامة أكد بدليل أنه يزوج بالولاية العامة.

المسلمة والكافرة ولا يملك ذلك بالولاية الخاصة.

شهادة المحرم على النكاح:

وشهادة المحرم على النكاح جائزة ولا تؤثر في العقد؛ لأن العقد هو الإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك.

خطبة المحرم:

ويكره للمحرم أن يخطب؛ لأن النكاح لا يجوز فكرهت الخطبة له.

مراجعة المحرم لزوجته:

يجوز للمحرم أن يراجع الزوجة في الإحرام؛ لأن الرجعة كاستدامة النكاح بدليل أنها تصح من غير ولي ولا شهود.

__________

1 أحرم بالحج والعمرة أي: حرم عليه ما كان حلال له من قبل دخوله في إحرام كالصيد والنساء. والإحرام في الشرع: نية الدخول في النسك.

(1/130)

المانع الخامس: مانع العدة 1

اتفق الفقهاء على أن النكاح لا يجوز في العدة أيا كان نوعها وكذلك اتفقوا على أنه إذا عقد رجل على امرأة في عدتها وجب التفريق بينهما دخل بها أم لم يدخل وذلك لأن نكاحها يفضي إلى اختلاط الأنساب وهو حرام، وما أدى إلى حرام فهو حرام وإذا ما نقضت العدة جاز له نكاحها.

المانع السادس: مانع التطليق ثلاثا للمطلق

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمطلق أن يعقد على امرأته التي طلقها ثلاثا مرة أخرى حتى تتزوج زوجًا آخر، ويدخل بها دخولا شرعيا ثم يطلقها بمحض إرادته، ثم تنقضي عدتها من الثاني.

لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 2.

واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل على مذهبين:

المذهب الأول: ذهب جمهور العلماء والأئمة الأربعة إلى أن الوطء الذي يبيح التحليل هو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق.

المذهب الثاني: وذهب سعيد بن المسيب، والخوارج والشيعة وداود الظاهري أنها تحل للأول بنفس العقد.

__________

1 جمع عدة مأخوذة من العدد لاشتمالها على عدد من الأقراء أو الأشهر غالبا، وشرعا: اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو للتضجع على زوجها الأول.

وشرعت صيانة للإنسان وتحصينا لها من الاختلاط رعاية لحق الزوجين والولد والناكح الثاني، والمغلب فيها جانب التعبد بدليل أنها لا تنقضي بقرء واحد مع حصول البراءة به.

2 من الآية 230 من سورة البقرة.

(1/131)

الأدلة:

أولا: أدلة الجمهور

استدلوا بما ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني، فبت طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإن ما معه مثل الهدبة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".

ووجه الدلالة: هو أن المقصود بالعسيلة في الحديث الجماع ولو لم ينزل.

ثانيا: أدلة أصحاب المذهب الثاني

استدلوا بظاهر قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 1.

الترجيح:

والراجح هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول لقوة ما استدلوا به، ولأن ما ذهب إليه أصحاب المذهب الثاني مردود ببيان النبي -صلى الله عليه وسلم- المقصود من الآية، وإجماع الأمة على أن الدخول الحقيقي شرط للحل. والله أعلم.

المانع السابع: مانع الزوجية

اتفق الفقهاء على أن الزوجية بين المسلمين، وأهل الذمة مانعة من موانع النكاح الشرعية.

لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 2.

ووجه الدلالة: هو أن الله تعالى: عطف المحصنات بالواو العاطفة على قوله تعالى: حرمت عليكم، والعطف يقتضي التشريك في الحكم، والمراد بالمحصنات ها هنا ذوات الأزواج يقال: امرأة محصنة أي متزوجة.

__________

1 من الآية 230 من سورة البقرة.